الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

مقالة د / محمد المخزنجى

شارك برايك يهمنا Feedback Feedback mhassanabo@gmail.com
maboeleneen@yahoo.com


أصلان .. عذوبة الاقتصاد

أضف تعليقك تعليقات : 3
آخر تحديث: الجمعة 13 يناير 2012 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة
إنسان عذب، وكاتب عذب، ومدرسة متفردة فى القص العربى الحديث قوامها الاقتصاد الأدبى، ولعل عذوبته كإنسان وكاتب مردها إلى هذا الاقتصاد الجميل نفسه، ولأننى من القبيلة ذاتها التى خُلقت لتحكى، على حد تعبير جارثيا ماركيز، دعونى أوضح ما أرمى إليه بحكاية عن أصلان...

قدم إبراهيم أصلان للبلد الذى كنت مغتربا فيه بدعوة من أحد الفعاليات الأدبية فى ذلك البلد، وبعد أن قام بدوره فيما دُعى إليه تلازمنا لثلاثة أيام كاملة شعرت خلالها أن مصر التى كان يحرقنى الشوق إليها قد جاءتنى بأبدع ما فيها، نسمة مصرية إنسانية من نسائم العصارى شعرت بها وأنا بصحبته، وفى جولة للتسوق وجدته يعطينى ورقة بها اسم محل للملابس قدمها له أحد المصريين عندما عرف أنه يريد شراء هدية لولديه، لكن يبدو أن صاحبنا الذى ظن أنه يدله على «كنز» لشراء أشياء كثيرة بأسعار معقولة أخطأ فى قراءة أصلان، وكان الخطأ فاحشا!

 تركته يجول فى المحل الواسع بطوابقه المتعددة وأنا أتابعه من مسافة، وكان يتأمل المعروضات بما يشبه الألم، وعندما التقت أعيننا ابتسم هامسا «شوف يا أخى الواد... عمل فىَّ إيه»، ولم يزد، ولم أكن فى حاجة ليقول لى المزيد حتى أفهم ما يعنيه، فقد كانت ملامحه المميزة تنطق بما لم تبح به الكلمات، تأبطت ذراعه وذهبت به إلى محل مميز، يعرض قطعا جميلة بأسعار أغلى، وتركته يتجول وأنا أكرر متابعته دون اقتحام، كان يتفحص المعروضات كما لو كان يتأمل زهورا فى بستان، وكان يتوقف أمام أجمل المعروضات بالفعل، وفى النهاية اختار قطعتين مميزتين وإن بسعر كان يمكن أن يشترى به عشر قطع من المحل الذى أثار ألمه.

قليل جميل ولا كثير عادى، كانت هذه هى طريقته فى الكلام، وفى تناول طعامه بتأنٍ ورهافة لافتة، وهى الطريقة نفسها التى اتّبعها فى الكتابة، فصار صاحب مدرسة وربما رائدا فى الاقتصاد الأدبى فى القصة العربية، ولم يتوقف عند اكتشافه بل لونه وطوره مع توالى أعماله على نحو يقطع بأنه مغامر جرىء فى الأدب برغم وداعته البادية وتأنيه الجميل.

كانت مجموعته الأولى «بحير المساء» مفاجأة طازجة وعذبة للوسط الأدبى فى مصر والعالم العربى، ومن مشاهد بسيطة ودراما موجزة، صنع نصوصا لا تُنسى، وتنقلك عبر الرصد الخارجى للحركات والإيماءات والحوارات شديدة الإيجاز بالفصحى، إلى سبر أغوار الداخل فى الشخوص التى يحكى عنها، فينقل إليك شجنهم وآلامهم وأفراحهم الضنينة بأبلغ من أى استطراد بلاغى أو سرد مطول. وكانت هذه النصوص غير المسبوقة فى القصة المصرية، تأسيسا للنصوص التى تجعل القارئ يشارك كاتبها فى «تأليف مواز» يستنطق فيه ما سكت الكاتب عن البوح به، ويضىء ما أخفاه فى المناطق الظليلة.

صمت إبراهيم أصلان طويلا بعد بحيرة المساء، وطلع علينا برائعته مالك الحزين، التى يعترف بتواضعه الجميل أنها كانت قصة واستطالت رواية، وقد سلك فيها دربه الخاص فى الإيجاز السردى عبر الرصد الخارجى الدقيق كما فى بحيرة المساء، لكنه هنا قفز قفزة مفاجئة شديدة التوفيق، فقد وظف الروح الشعبى بكل حرارته الساخرة فى التقاط شخوص روايته التى باتت هذه المرة تنطق بالعامية القاهرية، ولكن بالإيجاز الغنى نفسه. وهى الرواية التى حولها الهائل داوود عبدالسيد إلى فيلم «الكيت كات» الذى دخل فى متن تاريخ السينما المصرية كواحد من أفضل مائة فيلم طوال هذا التاريخ.

فى نثر إبراهيم أصلان تجلّت خصائص مدرسته فى الاقتصاد الأدبى، فكانت مقالاته فى جريدة الأهرام وغيرها تلوينا يمزج ما بين فن القص عنده وقليل من أطر الصحافة، لهاذا كانت بمثابة نسائم هادية متفردة فى زحام اليبوس الصحفى. ولعله استفاد من الكتابة فى الصحافة فى صناعة نصوص بها سلاسة التوصيل الصحفى والتجسيد القصصى، وهو ما نطقت به كتبه التالية «فضل الله عثمان» و«خلوة الغلبان».

أما روايته «عصافير النيل»، فقد كانت أيقونة لضحك مصرى عذب لكاتب كبير مرهف وأستاذ اقتصاد لم يتخل عن قناعاته، وقد جعلتنى أتلوى ضحكا وأنا اقرأ مفارقات أبطالها العجيبين حتى صرت فرجة لمن حولى، وعندما أخبرته بذلك علّق بجملته الأثيرة القصيرة التى تشى بالحبور والرضا والدهشة الطيبة والخوف من الغرور: «لا يا شيخ»!

ماذا نفعل؟

أضف تعليقك تعليقات : 24
آخر تحديث: الخميس 12 يناير 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة
لم أستطع أن أكتب فى الأسبوع الماضى لأننى لم أطمئن إلى طرف إجابة مقنعة لروحى قبل أن تكون مقنعة لأى أحد آخر، لكننى بعد أيام من مكابدة إلحاح السؤال توصلت إلى صيغة تطمئننى بعض الشىء مفادها: لنحسب كل أقوالنا وأفعالنا فى هذه اللحظة المصرية الحرجة والخطرة بحساب النتائج.

 فإذا كانت أى نتيجة لفعل أو قول مهما كانت قناعتنا ذات مردود تدميرى أو سيئ أو سلبى على مجمل الأمة، فهى خطأ ينبغى اجتنابه وإلا كنا كذابين، بل مجرمين فى حق وطننا وأهلنا وأولادنا والمستقبل، ومن ثم تتبلور الإجابة عن هذا السؤال فى إطار أخلاقى، لأن الفريضة الغائبة فيما يتراءى لى لدى كثيرين من فرقاء المشهد السياسى، هى غياب الشعور العميق بالمسئولية العامة مقابل الحضور المقيت لتضخم أو استفحال أو غطرسة أو أنانية الذوات الخاصة، سواء كانت هذه الذوات فردية نرجسية أو أيديولوجية أو مذهبية أو طائفية متعصبة، تتكالب على تحصيل القوة لا حصول الحق، وهذه حالة لا أخلاقية مهما ادعت، ومن أى فصيل أو أى طرف صدرت، وما عاقبتها إلا التدمير، ولنتلفت حولنا ونستاءل:

ماذا يعنى أن نرى يساريا شابا يتفيهق بكلام قديم يلقيه على حفنة من سامعيه محدودى العدد والمعزولين جماهيريا، عن هدم الدولة «البورجوازية» وشق وحدة الجيش، دون استبصار بخطورة هذا الكلام، الذى أوقن أنه محض كلام، لكنه فى هذه اللحظة كلام لا أخلاقى لأنه لا يتحسب للنتائج السلبية، ولو على المستوى النفسى لسامعيه ومشاهديه على شبكة الانترنت، حيث تم تسجيل هذا الهراء القديم ورفعه ليتابعه الجميع على الشبكة العنكبوتية الحديثة؟!


وماذا يعنى أن يتنافخ «شيخ» وهابى متعصب مهددا الأمة بأن خروجها على المنادين بالشريعة إذا فشلوا فى تحقيق آمال من انتخبوهم فى إصلاح أحوالهم المعيشية سيُعتبر رفضا للشريعة يضعهم فى خانة «خوارج» ينبغى قتالهم، أو سحقهم من قبل «شرطة إسلامية» شديدة البأس!

 ألا يعنى ذلك ترويعا للأمة، ونذيرا بمخططات تحول مؤسسات الأمة الأمنية المحمود حيادها إلى ميليشيات طائفية؟ ومثله هؤلاء المعلنون عن تكوين هيئة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» لمطاردة الناس بالتقريع والمقارع على غرار ما يحدث فى السعودية، فكأن مصر المتدينة الوسطية المعتدلة يستجلب لها البعض قسرا تطرف هيئة صارت عبئا يتم تحجيمه فى المملكة ليترعرع فى مصر. والتحاقا بذلك نسمع تصريحا لقس شارد يعلن الاستعداد لسفك الدماء والاستشهاد إن تم فرض شىء على الأقباط بالقوة ! ماذا يعنى ذلك؟!


وماذا يعنى أن يعاند قلة من شباب الثورة بمقولة الخروج فى «ثورة ثانية» واعتصام فى ميدان التحرير لحين تحقيق مطالب الثورة الأصلية وتسليم العسكريين السلطة لحكم مدنى «فورا»، إلا أن يكون ذلك دعوة لصدام كارثى جديد مع العسكريين، ودوران البلاد فى حلقة مفرغة من الجنون والدم، فى غيبة أى التفاف جماهيرى حول توجه هذه القلة، مع كل المخاطر المُحقَّقة لهذا التسليم «الفورى» لمجهول مدنى «فورى» بالطبع! وبرغم كل الأخطاء بل الخطايا التى وقع فيها المجلس العسكرى خاصة فى الفترة الأخيرة، فلن يستطيع عاقل أن ينفى دور القوات المسلحة كمؤسسة مانعة لتفكك الدولة منذ الانهيار الأمنى وحتى الآن، بل إنهاتبعا لتاريخها وطبيعة تكوينها كبوتقة جامعة لكل طوائف وأطياف الأمة دون تمييز تمثل الحارس لمدنية الدولة لاطائفيتها الخطرة، ولمن لايعجبه هذا الكلام أدعوه ليتذكر معى تصريح الفريق عنان بأن «مدنية الدولة مسألة أمن قومى»، وهى مقولة صحيحة فى الإطار الداخلى لمصر التعددية، والإطار الخارجى لمصر التى تعيش فى قلب العالم المعاصر!


قالها رئيس الأركان فهاج عليه عش دبابير التعصب الدينى وتركه دعاة الدولة المدنية وحيدا خشية أن يُتهموا بموالاة «العسكر»! والشيء نفسه مع تصريح اللواء مختار الملا بأن الأغلبية البرلمانية لا تمثل كل المصريين، وهى حقيقة واقعية يتأسس عليها أى تشكيل عادل لواضعى الدستور. ويومها أيضا لم يجد اللواء الملا من القائلين بتوسيع لجنة إعداد الدستور من يصطف مع تصريحه الصحيح قطعا. فماذا يعنى ذلك؟


وماذا يعنى فى الوقت نفسه ذلك الهجوم الشامل على منظمات المجتمع المدنى فى ظل حكم المجلس العسكرى (برغم اشمئزازى من بواطن بعض التمويل الأجنبى لبعض هذه المنظمات) دون مساس ولا حتى مجرد المساءلة عن تمويل خارجى آخر لجمعيات وفاعليات تحت لافتات دينية، وهو تمويل لا تقل خطورة بواطنه عن بواطن التمويل الأجنبى لبعض منظمات المجتمع المدنى، بل هى خطورة أشد نكيرا لا على شكل الحكم وتشكيل الدولة فقط، بل على روح التسامح التاريخى الحافظ لمسلَّمات الأمة المصرية والضامن للُحمتها الجغرافية والسكانية المهددة باستجلاب تزمت وتعصب مجتمعات نفطية دون أن يكون لدينا ترفها النفطى الذى يفتح أبوابا ليست خافية وإن كانت سرية تعوِّض بها هذه المجتمعات ما تعانيه من عقابيل التعصب والتزمت الداخلى بانفلات جامح، وفاضح أحيانا، خارج الحدود وداخل القصور، وهى مجتمعات سماها الشيخ راشد الغنوشى القائد المسلم المستنير «مجتمعات النفاق». فماذا يريدون منا؟ وماذا نفعل؟!


إن من لا يردعه ضميره بضبط الأقوال والأفعال على حسب ما يترتب عليها من نتائج، ينبغى مساءلته بالقانون وبحصار الرأى العام، مع إعطاء فرصة للتسامح والصفح إن ثبت حسن النوايا، فثمة مؤامرة حقيقية دولية وإقليمية تتعرض لها مصر ككيان تاريخى وطموح مستقبلى، وليس سيناريو حرق مصر يوم 25 يناير هو عين المؤامرة، فالمؤامرة الحقيقية مفتوحة التاريخ ومطبوخة على مهل ولا تتمثل فى «التقسيم» الجغرافى بإكراه خارجى على نمط مؤامرة «سايكس بيكو سازانوف» التى مزقت المشرق العربى وانكشفت خباياها سنة 1916، بل تتمثل فى تمزيق جديد للمجتمعات العربية وعلى رأسها مصر بآلية «لانقسام» الطوعى داخل المجتمع الواحد عبر الفتن الطائفية والعرقية والعشائرية، كتنفيذ مطوَّر للمخطط الذى وضعه الصهيونى الشيطانى البريطانى المتآمر كبرنادر لويس المولود سنة 1916 نفسها!


 قد يكون هذا أمرا آجلا، مما يفسح لبعض من يظنون أنهم ينتصرون لطوائفهم أو مذاهبهم بالتعصب أن يراجعوا أنفسهم حتى لا يتورطوا بحسن نية ودون انتباه فى تنفيذ مخطط هذا الشيطان البشرى الصهيونى، ورُعاته من المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة ومن يمضى على دربهم فى منطقتنا العربية، فالنوايا الحسنة أحيانا تكون طريقا إلى الجحيم، وهذا ما أربأ بشباب طيب ومخلص من بعض الإسلاميين أن يقعوا فيه جريا على تحريضات بعض الشائخين قصيرى النظر السياسى، والروحى.


أما عن العاجل فهو: ما الذى يمكن أن نفعله الآن، وتحديدا فى ذكرى ثورة يناير التى تحل بعد أقل من أسبوعين؟! وإننى لا أفهم أخلاقية منطق «الاحتفال» بعد كل هذه الدماء التى سالت والأرواح التى أُزهقت والأكاذيب والتخبطات والعطالة والفُرقة على مدى سنة كاملة، لكننى أفهم أن يكون 25 يناير يوما أخلاقيا تتذاكر فيه الأمة فضل شهدائها وجرحاها الذين منحوها هدية التاريخ الأفضل بالتحرر من ربقة عصابة دنيئة كانت تخرب مصر لصالح أطماعها البليدة. نتذاكر معاناتهم ومعاناة ذويهم خاصة الفقراء منهم، ونتوافق على أن حقوقهم على الأمة واجب أخلاقى على سلم أولوية الأولويات فى كل حين.


وبحساب الأخلاق أيضا أتصور أن يكون هذا اليوم مناسبة للدفاع عن توافق الأمة حول قرار عدم العودة إلى الخلف، والإقرار بشرعية برلمان تم انتخابه بغض النظر عن كل ما شاب هذه الانتخابات من نقائص، أما الطقس الاحتفالى الأهم فهو الدفاع عن وسطية الأمة المصرية واعتدالها الدينى والدنيوى، لا بأى شكل من أشكال الاعتصام ولا الهتافات التى يسهل شططها، بل بمسيرات حضارية صامتة ترفع لافتات كل معانى الوسطية المصرية الحميدة والاعتدال النبيل لجماعتنا الوطنية، ويسير فيها عموم الناس وعلى رأسهم رجال الأزهر الشريف والفنانون والكُتاب وتحرسها قوات رمزية من الجيش والشرطة تتشابك أيدى رجالها مع أيادى شباب الثورة من كل الأطياف. وما المانع أن نفرح قليلا بصدح موسيقات الجيش والشرطة، فالفرح النقى من كل ابتذال هو احتياج إنسانى فطرى، بل هو تحفيز للتسامح الدينى والدنيوى، وتأهيل عاطفى لنهضة مأمولة تأخرنا كثيرا فى اللحاق بها. فهل أحلم؟!
 ليكن أننى أحلم، فلولا أحلام النوم لعطبت العقول ولولا أحلام اليقظة لتقزَّم الإبداع الإنسانى كله، ثم إننى سئمت مستنقع الجدل والتراشق السياسى الذى قد أكون انزلقت إلى شيء من حوافه، والذى أرى أن ردمه ضرورة حياة ونهوض وعافية وطنية، ولن يتأتى إلا بالعمل فى مشروع نهضوى مصرى مادى ومعنوى وروحى شامل وكبير وجامع، هذا هو المقياس الذى يحقق التيقن من الإيمان الذى وإن وقر فى القلب فلابد أن يصدقه العمل، الفعل البادى للعيان والكاسح لكل ترهات التنابذ واللؤم والتعصب والانغلاق والغفلة. ولعلى أكون قد اخترت طريقى فى هذا السبيل، بأن أستقيل من مقارفة قرف السياسة التى لم يخلقنى الله لها، وأكرس ما تبقى من طاقتى والعمر للثقافة العلمية وللأدب. فالثورة الثانية المأمولة طويلة المدى، ومطلبها ليس مجرد التغيير السياسى، بل تغيير ما ران على العقول والأرواح والأذواق من بؤس أنظمة الاستبداد والفساد والقهر التى لابد أننا قد أصابنا منها القليل أو الكثير، والواقع شاهد. وكل على نفسه شهيد.

هرم المنصورة الإنسانى

أضف تعليقك تعليقات : 32
آخر تحديث: الخميس 29 ديسمبر 2011 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة
برغم مرور عشرات السنوات لايزال المشهد محفورا فى ذاكرتى بقوة، فقد أبصرت الدكتور غنيم يصطحب فلاحا فقيرا فى محطة قطارات الدلتا الصغيرة التى تطوف بقرى ومراكز المحافظة، وتابعته من بعيد وهو يقطع للفلاح التذكرة ثم يساعده فى الصعود إلى عربة القطار ويجلسه ويوصى من حوله برعايته.

كنت طالبا فى السنة الإعدادية بكلية طب المنصورة أسمع عن الدكتور غنيم وقسم (4) الذى حوَّله إلى أعجوبة طبية فى مبنى المستشفى الجامعى القديم، والصرامة التى تقارب الشراسة فى الحفاظ على الأداء العالى فى ذلك القسم، والتى كان وجهها الآخر عطفا عظيم الإنسانية والعناية بالمرضى الفقراء، إلى درجة أنه بعد أن يُجرى للمريض الجراحة ويتعافى، يأخذه بنفسه ليوصله إلى المحطة ليعيده مُعزَّزا مُكرَّما إلى قريته.

حكايات مذهله عن حب هذا الرجل وعطفه على الفلاحين خاصة، مآثر يقدم فيها بيمينه ما لا تراه يساره، واحترام بالغ لكرامة هؤلاء الفقراء من رجل لم يخش فى الحق لومة لائم، ولن أكون متجاوزا إن قلت إن هذا الرجل كان واحدا من أنبل الفرسان الذين أسهموا إسهاما مباشرا فى إسقاط طاغوت مبارك وعصابته، بذاته المُجاهِرة، وبتعاونه مع طلائع القوى الوطنية التى دخلت فى مجابهة صريحة وشجاعة ضد الاستبداد والفساد، ولم يكن هيابا ولا مراوغا ولا مساوما فى كل مواقفه.

عام 1976عندما لمع إنجازه العلمى بنجاح غير مسبوق لأول عملية زرع كلى فى الشرق الأوسط، أبدى الدكتور غنيم مثالا نادرا لإنكار الذات والتعفف عن الظهور، وأناب عنه من يُعرِّف بالإنجاز كجهد جماعى لفريق طبى نُشِرت صور أفراده جميعا دون أن تكون هناك صورة له هو، قائد الفريق وصاحب الفضل الأول فى ذلك النجاح الطبى التاريخى، فقد كان منشغلا بتحقيق حلم إقامة أول مركز متخصص فى أمراض الكلى والمسالك البولية فى المنطقة، وهو ما حققه بالفعل عام 1983 بمستوى عالمى يضارع بل يفوق كثيرا ما يماثله فى دول أكثر تقدما من بلادنا.

عالج مركز الدكتور غنيم قرابة 2 مليون مريض معظمهم من الفقراء بالمجان، وصار مقصدا عربيا وعالميا لتدريب أطباء متخصصين رفيعى المستوى، أما أهم أدوار الدكتور غنيم الذى قاد هذه المأثرة، فهى تخريج أجيال من الأطباء المصريين العلماء يحظون بالاحترام والتبجيل فى كل أنحاء الدنيا، وكانوا يحصدون جوائز الدولة العلمية وغيرها عن جدارة، وبعضهم صاروا مُحكِّمين دوليين فى التخصص يقيِّمون أعمال باحثين كبار من أوروبا وأمريكا. والعظمة الحقيقية فى كل ذلك، هى أن هؤلاء العلماء الذين صنعهم غنيم على عينه، كانوا يبدأون مسيرة تألقهم ولمعان نجومهم وهم شباب، فيكون عطاؤهم للناس أطول وأغزر، ولعل هذا العلم الذى ينفع الناس والذى وافره الدكتور غنيم لمن بعده ليمنحوه بدورهم لمن يليهم، هو أطيب صدقة جارية لهذا الرجل الكبير ومن ساروا ويسيرون على دربه.

الدكتور غنيم لم يكن عالما ناجحا فقط، بل كان جرَّاحا فذا، وقد أخبرنى الدكتور على عباس كيف أنه عندما التحق بدراسة زمالة الجراحة فى لندن، كان من يقيِّم دفعته من الإنجليز والأجانب أحد أكبر وأشهر أساتذة الجراحة فى بريطانيا، وعندما عرف أنه مصرى سأله بعد انتهاء التقييم: «هل تعرف بلدة اسمها المنصورة؟» جاوبه الدكتور على «أنا من المنصورة»، فسأله «عندكم جرَّاح اسمه محمد غنيم؟»، وبعدما أجابه الدكتور على، انطلق أستاذ الجراحة الإنجليزى الكبير فى الترنُّم منبهرا وهو يحكى عن مهارة الجراح محمد غنيم الذى كان يُجرى جراحات كبرى فى وقت أقل كثيرا مما يستغرقه الأساتذة الإنجليز وبطرق ونتائج أفضل.

أذكر هذه الواقعة لأقول إن الدكتور غنيم بشهرته العلمية وموهبته النادرة كأحد أمهر جراحى العالم فى مجال الكلى والمسالك البولية، إضافة لقدراته الإدارية المرموقة فى إنشاء وتطوير مركز الكلى بكلية طب المنصورة، كان يستطيع أن يصير بليونيرا فى وقت قياسى دون أن يسرق أو ينهب لو أنه توجه للاستثمار الخاص والتربح من الطب، لكنه لم يفعل ذلك، وظل طوال مسيرته المهنية وحتى الآن متفرغا لعمله العلمى، لم يفتح عيادة ولم يشارك فى مستشفى خاص، بل كان يصب عائد ما يجريه من عمليات كبرى خارج مصر فى خزينة المركز لتعود فى النهاية لصالح المرضى الفقراء.

هذا السلوك النبيل لا تفسير له إلا أن هذا الرجل كان يرى السعادة فى العيش بكرامة والإخلاص فى مهنته الإنسانية، وإرضاء نفسه بالشغف العلمى الذى لايزال يواصل أبحاثه دون أن يكف عن بناء مراكز جديدة أسوة بالمركز الأم فى المنصورة، وقد كان مركز الكلى فى «منية سمنود» هو الملاذ الذى أنقذ حياة مئات مرضى مركز المنصورة عندما شب فيه حريق منذ سنوات.

الدكتور غنيم لم يغير شقته التى سكنها منذ كان مدرسا شابا فى كلية الطب، وعندما تشرفت بزيارته فى بيته أخيرا وجدتنى أسأله «دكتور غنيم، أنت كان يمكنك أن تجمع مئات الملايين وتعيش فى قصر ويكون لديك أسطول سيارات بل حتى طائرة، ألم يزعجك أن ترى آخرين يقلُّون عنك فى مجالك يحققون ذلك أو شبه ذلك؟».

رد الدكتور غنيم على سؤالى مستغربا بسؤال: «ولماذا، فنحن نعيش جيدا، نأكل بشكل جيد، ونرتدى ثيابا لائقة، ونسافر، وهذه الشقة تكفينا». هذه الإجابة جعلت دعاء عظيما يومض فى صدرى «اللهم اجعلنى بالاستغناء غنيا»، فهذا رجل حافظ على غِنى روحه بالقدرة على الاستغناء عن الترف والرضا بالمعقول من العيش الكريم، فدانت له السعادة الإنسانية شريفة صافية عزيزة.

إنه رجل ممن يرضى عنهم الله والناس، فقد طبق بشكل عملى رسالة الحديث الشريف «إنما تُنصَرون وتُرزَقون بضعافكم» فنصرته لضعاف مرضى الفقراء والفلاحين حدوتة مصرية ترفع رأس أمة، ورعايته الإنسانية الشخصية لكثير من أسرهم فيها مآثر لا يحكيها ولا يحب أن يحكيها أحد، فهو أبعد ما يكون عن التفاخر، وأشد ما يكون حرصا على كرامات الناس، خاصة الضعاف منهم، وقد جاءت اختياراته السياسية تتسق مع ذلك وتغتنى بمعانيه.

الدكتور محمد غنيم احتقر المراوغة فى الحياة وفى السياسة ولم يعرف غير الصدق والصراحة فى توجهاته السياسية، رفض الرأسمالية المتوحشة مهما كانت أقنعتها، ونادى بخطاب دينى مستنير، وأشاح عن الوزارات التى عُرضت عليه ورئاسة الوزارة التى رفضها مكبلة زائفة. ومضى فى السياسة على الدرب نفسه الذى اطمأنت إليه نفسه فى الطب والحياة، فتبنَّى برنامجا قويما ينشد الحرية التى تصون كرامة الإنسان وتحافظ على العدل الاجتماعى وحقوق المواطنة ودولة القانون وتركز على انتشال فقراء الناس مما يعانونه من بؤس وظلم. كما أنه لم يهمل حق الأجيال القادمة فى تسلُّم وطن أفضل فكان من أوائل من اجتهدوا لوضع تصور علمى نهضوى لمصر المستقبل.

لكل ما سبق، ولكثير من الخير الذى تضيق عن ذِكره السطور، لم يكن غريبا أن يدعم هذا العالم الجليل والإنسان الكبير نضال الشباب الذين عانوا وضحوا للتخلص من نظام الاستبداد والفساد السابق، ورفعوا شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية فى ميادين الثورة وعلى أرض الواقع ولأجل المستقبل الذى لا نجاة لمصر فيه إلا بتحقُّق مضامين هذه الشعارات النبيلة.

اختار الدكتور غنيم أن يكون داعما للشباب الذين تلهج ضمائرهم بأن الثورة مستمرة، وتُعلى فى أفق مصر عموما والمنصورة خصوصا هرما من إنسانية الإنسان. ومثلى لا يستطيع إلا أن يكون مع هذا الاختيار لذلك الهرم الإنسانى وأن ينضم للملتفين حوله.

ملاكمة الليل

أضف تعليقك تعليقات : 9
آخر تحديث: الخميس 22 ديسمبر 2011 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة
هناك قصة، وراءها حقيقة، وفيهما قانون !

فلنبدأ بالقصة التى كتبتها منذ ما يقارب ثلاثين سنة:

ملاكمة الليل

لم يعد أمامنا فى مواجهته وحتى آخر الليل إلا أن نتلاكم.. يضرب بعضنا بعضا نحن الذين جعلنا مصير السجن أكثر تقاربا من الإخوة الأشقاء.. نضرب ضربا جنونيا بعد أن فشلت كل أساليبنا فى مواجهته، منذ بدأنا نحس بتكاثره وهياجه مع أول الليل.

لقد أبقينا مصابيح الزنزانات الضئيلة مضاءة لعله يبقى ملتصقا بالسقف كشأنه فى النهارات الكثيرة الماضية، لكنه لم يفعل. ثم بدا كأنه يتوالد من الهواء ليتخم الهواء ويمص دمنا، ونوشك أن نتنفسه لفرط كثافته التى جعلت الهواء أمام أبصارنا دون مبالغة أسود.

رحنا نضربه بالمنشات التى صنعناها من مزق ملابسنا ونسالة أطراف البطاطين. وأشعلنا كل ما لدينا من خرق وأوراق كنا نخبئها لنهرِّب فيها رسائلنا، لعله يهرب من الدخان، حتى أوشك أن يخنقنا ويعمينا الدخان. ومع ذلك لم يتوقف وواصل شن غاراته على جلودنا.. على دمائنا. وكان كثيفا ولجوجا ومؤلما، وأسوأ من إيلامه كان صوت أزيزه الذى بدا كأنما يدوِّم داخل قواقع آذاننا نفسها.

كأنه عدو بشرى.. كريه، وقاس، وغبى، انطلق أكثر من صوت بيننا يسبه سبابا مغلولا ومعبأ بالكراهية، بينما كانت أيادينا لا تكف عن محاولة سحقه بصفعات ولطمات وضربات نوجهها بأنفسنا لأنفسنا حيثما حط..على الوجوه أو السيقان أو الصدور أو الرقاب أو الأذرع. ومن شدة الضربات وكثرتها بدا أننا نفقد شيئا فشيئا شعورنا بالألم.

ولعل هذا الشعور بالخدر الذى كانت تجلبه إلى أبداننا الضربات، ولعله مطلق اليأس والرغبة فى مقاتلته حتى النهاية حتى لو دفعنا ثمنا لإيقافه أن تتحطم عظامنا نفسها.. لعل هذا كله هو ما قادنا إلى فعل التلاكم عندما اكتشفنا أن كل واحد منا أقدر على رؤيته فوق جسد زميله، أمامه، ومن ثم أقدر على تحديد موقع الضربات الصائبة. وشرعنا نتلاكم.

 كانت اللكمات مترددة متباعدة فى البداية، وما لبثت حتى صارت جنونا جماعيا تتخلله الصيحات مع كل شعور بابتلال القبضات من سوائل انسحاقه المدمَّمة اللزجة. ورحنا برغم بدء ظهور الكدمات، نحس باختفاء الآلام، ويتصاعد إحساسنا باختفائها مع كل ضربة ساحقة لأكبر كمية منه، سواء توجهها قبضاتنا أو تتلقاها الأجسام.

 مكثنا نتلاكم برغم إحساسنا بأن كثافته لم تتناقص، لكن مجرد أن هذه اللكمات صارت كأنها وجودنا ذاته، فى مواجهته، واصلنا توجيهها، وتلقيها، بآخر ما فى دواخلنا من احتقار له، وبآخر ما فى أبداننا من قوة، حتى أننا تعاقبنا نتساقط من شدة الإنهاك، كما قتلى المعارك الضارية.. متناثرين ومتكومين فى أوضاع لم يتهيأ لها البشر عند النوم، بأذرع لُويت تحت الأجساد، وأرجل ملتفة، وأفواه مفتوحة، وعيون لم تكمل إغماضها.

 لم يكن نوما قريرا بالتأكيد ذلك الذى تساقطنا فيه منهكين، لأننا فزعنا على النور يتدفق عبر الأبواب الحديدية التى فتحوها لنا لنذهب إلى دورات المياه فى الصباح. ورحنا نخرج من الزنزانات أشباه نيام، ولم نكمل استيقاظنا إلا بعدما أحسسنا بأقدامنا تدوس فى طبقة كثيفة من رماد أسود هش يغطى الطرقة الطويلة كلها، بطريقة توحى بأنه لحظة كنا نتساقط منهكين، غائبين، كان هو يتساقط ميتا موتا جماعيا خارج الأبواب، وكأنه مطر أسود يابس ينهمر على بلاط الطرقة.

 ●●●

تلك القصة، تكاد تكون تسجيلا حَرفيا لليلة بشعة قضيناها فى عنبر «التأديب» بمعتقل المرج، وهو عنبر حديث البناء وحداثته تجعله أشبه بثلاجة للموتى الأحياء، فهو من أسمنت وحديد وبلاط تخلو مجتمعة من عتاقة وثقل أبنية السجون القديمة، وتجعل برد الشتاء قارصا كما أسياخ من جليد لاتكف عن اختراق الأجساد والنفاذ إلى العظام، وقد كان ذلك الشتاء فى نهاية عام 81 وبداية 82، قاسيا جدا هناك، وزاد من قسوته شعورنا ببلادة تلفيق القضية التى حشرونا فيها بالتهمة الكاذبة المكررة ذاتها «تشكيل تنظيم لقلب نظام الحكم»، بينما لم يكن هناك تنظيم ولا يحزنون، ثم إننى كنت قد فارقت الاهتمام بالسياسة عموما وصببت جل اهتمامى بالأدب والطب. والأنكى من ذلك أننى كنت خارجا قُبيل اعتقالى بيومين من عملية جراحية جرحها لم يُنزَع ضمادُه.

 فى تلك الليلة من ليالى سجننا، داهمنا ذلك الهجوم الضارى من جحافل بعوض جعلت الجو حولنا معتما أسود برغم اشتعال الضوء، غيوم من مئات آلاف البعوض إن لم يكن ملايين، فى ظاهرة كأنها خارجة من جوف الأساطير الإغريقية أو الخيال الأسود الجامح. غليان بشع من الطنين واللسع وإزهاق الروح والحقد الذى خلناه يتقصدنا كأنما بتدبير وتواطؤ مع السلطات الغاشمة فى ليلة شديدة القسوة لم يبدُ لها آخر، وكان ما وصفته فى القصة يكاد يكون حرفيا، كما أن النهاية المذهلة كانت بالضبط كما وصفتها: موت جماعى حاشد لذلك الوباء الذى داهمنا بهياجه الضارى حتى مطلق اليأس، وأذهلنى كما أذهل غيرى فى الصباح ذلك المشهد لطبقة ركام البعوض الميت التى غطت بلاط ردهة العنبر بين صفى الزنزانات تحت شبكة الفولاذ التى تُصفِّح السقف وتتبدى عبرها زرقة السماء المنيرة الرحيمة، فكأن عاصفة من تراب أسود أو رماد حريق حطت رحالها على ذلك البلاط فاتح اللون فجعلته بساطا من سواد، رحنا نحس بهشاشته ونحن ندوس فيه باستغراب ورهبة، وشىء من التشفى!

 الآن، أتذكر هذه القصة، وتلك الليلة، والقانون الذى تيقنت من ثبات استنتاجه عبر قراءاتٍ ورصدٍ لظواهر مماثلة، فما من عصف لوباء، وما من هياج لظاهرة طبيعية، إلا وكان بلوغها أوج ضرواتها إيذانا بنهايتها. ونحن الآن فى مصر تتعاقب وتتجمع على أمتنا مظاهر من التغول مختلفة ومؤتلفة، تعصف بثورة 25 يناير والأفق المنطقى الذى كان مأمولا منها، ولصالح رغبات أنانية، من أفراد وجهات واتجاهات تتوخى القوة قبل الحق، وتتبع فى ذلك وسائل من عنف الفعل وعنف القول بلغت حد الهياج.

 تفحُّش وتوحُّش فظيعان، فى صورة جنود يسحلون البنات ويدوسون بأحذيتهم الثقيلة فى لحمهن أو يبولون على رؤوس الخلق جهارا نهارا أو يتباذؤون بالأصابع فوق أسطح البنايات الرسمية التى اتخذوا منها أبراجا حربية للرشق بالحجارة ! وبموازاة ذلك العدوان المادى، كان هناك قصف معنوى متوحش ومُتفحش من جانب آخر، ضد الوسطية المصرية الحميدة، دينا ودنيا..

 قصف قام ويقوم به بعض من يزعمون أن دعواهم خالصة لله ورسوله، وما هى إلا مشوبة بزهو أنفسهم بأنفسهم وحرصهم على استلاب وعى مُريديهم، بأداء مسرحى تليفزيونى زاعق لا ينم عن صدق حقيقى ولا يليق بأى دعوى روحية، بينهم من أفتى فى أمر الأدب بلا معرفة ولا أدب، ونعت حضارة فجر تاريخنا وتاريخ الدنيا بالعفونة، وأفتى بأن الديمقراطية كفر، بالرغم من أنه كان يتعاطاها ويدعو الناس للإقبال عليها لانتخابه، فأسقطه الناس! ومثله ذلك الذى يشوح ويلوح بيديه وهو يزعق فى أحاديثه، ولا تعرف لماذا يزعق مادام أمامه ميكروفون، إلا إذا كان لا يريد أن يترك أى مساحة لمستمعيه ومشاهديه للتفكُّر والتدبُّر فى بضاعته سطحية المضمون واللاعبة على وتر واحد هو التفزيع بالموت للحط من شأن الحياة، وكأن الحياة ليست هبة ونعمة من خالق الحياة تستحق الاحتفاء، ولعله يستمرئ هذا الزعيق لافتقاده اليقين فيما يلقيه على الناس باندفاع وتسرع، وقد خاض فى الأعراض بكذب اضطرته الحقيقة أن يتراجع عنه فغمر تراجعه بمديح ذاته، وكأن أعراض الناس لعبة فى جئير حنجرته، وهاهو مرة أخرى يهرف بما لا يعرف فيزعم أن جامعة القاهرة قد تأسست لهدم الشريعة الإسلامية! ومن فرط ضراوة غلظته وصلفه أنه قال ذلك وهو ضيف على أسرة من أسر كليات هذه الجامعة العريقة نفسها!

 ما من هياج متوحِّش أو متفحِّش يبلغ ذروة الضراوة إلا كان إيذانا بنهاية ذاته أو أفول ظاهرته، وما أعجب أن تجتمع كل هذه الهيجانات الضارية فى وقت واحد، فلعلها إرادة الله تؤذن بقرب انزياحها جميعا، لنباشر ما تأخرنا فيه كثيرا كثيرا لحد الخيبة والمرارة : أن نبدأ البناء والنهوض على قاعدة التوافق الوطنى واحترام حقوق الإنسان كإنسان والمواطن كمواطن، بلا تغوُّل سُلطة أو تسلُّط، ولا استفحال دعاة تكفير وتنفير وفرقة، ولا تمدُّد لعشوائية الاحتجاج والرفض، ولا خسارة شبه مجانية لأنقى وأطهر ما فى هذه الأمة. 

(ملحوظة: المسيرة النسائية التى سارت فى حماية الشباب للتنديد بانتهاكات قوات من الجيش لكرامة المصريات والمصريين، جاءت نموذجا حضاريا مخالفا لعشوائيات الاحتجاج والرفض، وكانت عظيمة التأثير وعصيَة على التشويه والاختراق، ليتها تُتخذ مثالا جديرا بالاتباع).   

يا زمان الوصل فى الأندلس

أضف تعليقك تعليقات : 22
آخر تحديث: الخميس 15 ديسمبر 2011 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة
خبر إقامة فيروز لثلاثة حفلات فى بيروت مؤخرا أيقظ داخلى شوقا لسماعها، خاصة فى أدائها الباهر لموشح «جاءك الغيث إذا الغيث همى / يا زمان الوصل فى الأندلس»، لكننى نسيت أن أكتب اسمها ملحقا بالطلب فقدم لى «جوجول» قائمة بعدة خيارات للموشح بأصوات مختلفة أثار فضولى بينها واحد لمنشد كويتى شاب شديد عذوبة الصوت اسمه «حمُّود الخضر»، يؤدى الموشح فى إطار «الأناشيد الإسلامية»، وقد احتفظ النشيد بمطلع القصيدة الأصلية وميزانها الشعرى وإيقاع اللحن، لكنه غيَّر الكلمات لتصب فى اتجاه الحنين إلى الأندلس الضائع والتنادى بضرورة إرجاعه، فوجدت نفسى حيال مبحثين لا مبحث واحد.

عذوبة صوت المنشد وتناغم الجوقة واتساق اللحن مع ضرب الدفوف ورنين الأوتار، إضافة لجمال الصور المأخوذة بين حدائق وعمارة القصور والصروح التى خلفتها دولة الأندلس فى إسبانيا، كل هذا ضاعف من شحنة الجمال وإرعاش العاطفة عند سماع ومشاهدة «فيديو» الموشح. لكن الرسالة التى حملتها الكلمات البديلة عن كلمات القصيدة الأصلية لم تمر بالسلاسة نفسها التى اجتاحت العاطفة، عندما تلقاها العقل. ولشدة انجذابى إلى جمال الصوت واللحن والمَشاهد، وجدتنى راغبا فى مقارنة هذا الإنشاد بما شدت به فيروز وصدح به صباح فخرى عندما غنيا الموشح نفسه.

المعروف أن فيروز كما صباح فخرى، لم يأخذا من القصيدة الأصلية التى أبدعها الشاعر الطبيب الوزير الأديب العالِم «لسان الدين بن الخطيب»، إلا القليل من تلك المطوَّلة الشعرية التى تُعد من أبدع عيون الشعر العربى الأندلسى المُتميز بعذوبة التعبير ودقة التصوير ورقة العاطفة المصبوبة كلها فى قالب موسيقى رقراق وساحر الجاذبية. سمعت فيروز أولا وكررت سماعها الذى يغسل الجوانح بالضوء والندى، فلم أطق التثنية بصباح فخرى الذى بدا لى أداؤه ثقيلا جدا وبطيئا جدا ومُفارقا لروح القصيدة الأساس، فعدت إلى تحليق فيروز وذكاء الرحبانية الذين أعطوا مطلع القصيدة للجوقة، واختصوا صوت فيروز بتسنم قمة الذكرى وطواف الفراشة فوق زهر الحنين:

فى ليال ٍ كتمتْ سر الهوى     بالدجى لولا شموس الغُررِ

مال نجم الكأس فيها وهوى    مستقيم السير سعد الأثرِ

●●●

حين لذّ النوم شيئاً أو كما       هجم الصبح هجوم الحرسِ

غارت الشهب بنا أو ربما     أثرت فينا عيون النرجس ِ

●●●

يا أُهَيلَ الحى من وادى الغضا          وبقلبى مسكنٌ أنتم به

ضاق عن وجدى بكم رحب الفضا       لا أبالى شرقه من غربه

●●●

أحور المقلة معسول اللمى     جال فى النَّفْس مجالَ النَّفَسِ

سدَّد السهم فأصمى إذ رمى    بفؤادى نَبلة المفترسِ

أعدت قراءة المطولة الشعرية لابن الخطيب وأنا أكرر سماع صوت فيروز، فاستعدت كارها ما لاقاه هذا المسلم العربى الفذ من مصير الفتن التى تتسلح بلبوس الدين لتغترف من أدنأ عطايا الدنيا، فعندما تولَّى على المغرب السلطان «المستنصر» بمساعدة «الغنى بالله» ملك غرناطة اشترط الأخير على الأول أن يسلمه الوزير ابن الخطيب ليفتك به بعد أن أوغر الحاقدون صدره عليه بالكذب، فقبض عليه المستنصر، وأرسل الغرناطى وزيره «ابن زمرك» إلى فاس حيث انعقد مجلس «للخاصه» قضى على الخطيب بتهمة «الزندقه وسلوك مذاهب الفلاسفة» وقدم بعض «الفقهاء» فتوى بقتله، وفى سجنه هبط بعض الأرذال بمعية ابن زمرك وخنقوه ليلا فى مرقده، ثم دُفن فى مقبرة (باب المحروق) والتى ربما سميت بهذا الاسم اشتقاقا من تحريق جثة ابن الخطيب بعد موته! فأى دين لقاتليه وخانقية وحارقيه السفلة الكَذَبة؟!

عدت لفيديو المنشد «حمود الخضر»، ولم أمل من تكرار سماعه والتأثر به، لكننى أدركت أن عذوبة الصوت ورقة صياغة الكلمات البديلة فى الموشح، لم تكن إلا تغليفا بديعا لرسالة عتيقة تنطوى على مغالطة مضى زمان تمريرها، ويُخشى من استمراء تكرارها أو تكرار ما يماثلها لدينا من بعض المتعصبين الذين يروِّجون أنهم أصحاب الدين دون غيرهم، وهى مغالطة فى حق الله والناس ينبغى أن ينأى بنفسه عنها أى مؤمن حقيقى يعلم أن صدق التدين لايقاس بالادعاءات والمظاهر، فهو أمر من أمور القلوب التى لايعلمها إلا علام الغيوب.

الذهنية المتطرفة كما فى كل جنوح نفسى تمارس الهرب من متطلبات وأعباء الواقع الحقيقية بالإزاحة إلى طلب الحدود القصوى، سواء بالدعوة للخلافة، أو استعادة الأندلس، أو الشطط فى تكفير الناس وقمع حرية اختياراتهم الحياتية التى لا تتعارض مع سمح الدين وصريحه، ويُلحِقون بذلك تعهير الأدب وتصنيم الآثار وشيطنة الموسيقى وتفسيق الغناء، فكأن الدنيا حرام فى حرام!

فى إنشاد «حمود الخضر» البديع للموشحة الأندلسية مبدولة الكلمات، والتى لا يُسأل عنها المُنشد الشاب الموهوب، تبدت استعادة «الأندلس السليب» دالة على ذلك المهرب وتلك الإزاحة:

فالحبيب الحر يسعى للحبيب   فجرنا يا أمتى صار قريب

آن أن نرجع ذا المجد السليب  عائدون أمتى لا تيأسى

عندما يطوح الاستقطاب الحاد بالرءوس، فلا عوائق أمام العسف بالواقع ومقتضى الحال وفقه الضرورة والدفع القسرى بالأمور إلى تخومها القصوى، بينما الحدود الدنيا غير متحققة، وهو نمط من التفكير تلجأ إليه النزعات المتطرفة لتدارى قصور رؤيتها فى الإصلاح الممكن والمتاح للواقع الذى خلفته عقود الاستبداد والفساد كما فى حالتنا المصرية، والذى يتطلب جهادا حقيقيا أصعب من أى «غزوة» لاستعادة الأندلس، فهو هنا، على هذه الأرض وفى هذا الزمان.

المعركة هنا والآن تتمثل فى مواجهة عدونا القريب : الفساد، التخلف، الفقر، القهر، الجهل، الجوع، البلطجة. وهى معركة مشتركة يتوجب على الجميع أن ينخرطوا فيها دون تكفير ولا تنفير ولا شطح بعيد، فالأندلس التى ينبغى إعادتها مكنونة فى هذه الأرض، وحول هذا النهر، لا أبعد من ذلك فى الزمان أو المكان، وإلا مكثنا ندور فى سفوحنا وننحدر فى مهاوينا، ونعيد خطف وحبس وتكفير وخنق وحرق «لسان الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن سعيد بن الخطيب»، أشجى من شدا للحب والحنين والشوق للمجد المغدور:

جادك الغيث إذا الغيث همى    يا زمان الوصل بالأندلسِ

لم يكن وصلك إلا حلما         فى الكرى أو خلسة المختلسِ

إذ يقود الدهر أشتات المنى     ننقل الخطو على ما ترسمُ

زُمرا بين فُرادى وثنا           مثلما يدعو الحجيجَ الموسمُ

«المنتصرون»

أضف تعليقك تعليقات : 39
آخر تحديث: الخميس 8 ديسمبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة
شارع «كريشياتيك» فى قلب مدينة كييف هو شارع التسوق والاستجمام والثقافة فى آن واحد، ففيه المقاهى اللطيفة والمطاعم المشهورة والمحال الأنيقة، وفيه أيضا أكثر من سينما ومسرح وأكثر من متجر كبير للكتب، وأكثر من متحف ومعرض للفن الرفيع، فى بدايته البانوراما التاريخية وفى نهايته دار الأوبرا، وقد كنت أقضى أوقات فراغى فى هذا الشارع متجولا بين المكتبات ومتمشيا لساعات طويلة على ضفتيه الفسيحتين، وعندما كنت أتعب أدخل دارا للسينما التسجيلية لأشاهد فيلما قصيرا وأستريح، ثم أخرج لأواصل التمشى حتى يعاودنى التعب فأدخل معرضا أو متحفا للفن.

كانت المتاحف متنوعة ومتخصصة تبعا لموضوعها أو فترة إبداعها أو المدرسة الفنية المنتمية إليها، وفى كل متحف أكثر من لوحة «أساس» لقيمتها التاريخية أو قيمة الفنان الذى أبدعها، وبعضهم فنانون عالميون، وهذه توضع فى قاعة منفردة أو فى ركن خاص وأمامها عدة مقاعد لراحة الزوار الذين يحبون التأمل ويطيلون المكوث، ومن بين هذه اللوحات كانت هناك لوحة بانورامية مقياسها يقارب مترا ونصف المتر فى ثلاثة أمتار، بعنوان «المنتصرون»، جلست أمامها وتأملتها أكثر من مرة، وها هى تعود الآن إلى ذاكرتى وكأنها تطفو من غياهب الذاكرة بكامل قوتها التعبيرية وصراخ ألوانها التى ساد بينها الأزرق الفيروزى والأحمر النارى.

تُجسِّد اللوحة مشهد ساحة معركة من معارك القرون الغابرة التى قوامها الرجال والخيول والسيوف. ومن خلال اختلاف ألوان وأشكال أزياء المتحاربين فيها نعرف أن المنهزمين يرتدون أزياء بلون الأزرق الفيروزى الملطخ بحمرة الدم القانية، والمنتصرون يرتدون أزياء بلون بنى وأشاير برتقالية. وقد انتشر المنتصرون بين جثث الخيول النازفة وأجساد المنهزمين الذين فارقوا الحياة غارقين فى دمائهم، وقد بدا المنتصرون فى حالة نشوة وحشية وجشع همجى وهم يجردون القتلى من ثيابهم ومما يحتفظون به فى جيوبهم أو حول أعناقهم، هذا يقيس سترة مكللة بالنياشين، وذاك يبدى سعادته بحذاء طويل الرقبة، وآخر يفتش فى جيوب محتضر مفزوع العينين، ولم يخلُ المنظر من منتصر ينزع عن حصان نازف سرجه ولجامه.

كانت اللوحة برغم قوتها الفنية وبلاغتها التعبيرية وحرفيتها العالية تدفع إلى النفس شعورا بالنفور، بل حتى الاشمئزاز، ولعل هذا ما أراده الفنان عن عمد، لهذا لم أكن أحب أن أمكث أمامها طويلا وإن كنت عاودت تأملها على فترات قصيرة لأكثر من مرة، فقد كانت هناك تفاصيل تُكرِّس للانطباع الذى أراد الفنان الإيحاء به، فملامح المنتصرين فيها توحش وجشع، وأصابعهم الملطخة بحمرة الدم تكاد تكون مخالب همجية لكائنات ما قبل التاريخ.

أظن أننى قرأت الرسالة التى تكتنزها هذه اللوحة، بل تتمثل لى واضحة الآن: فلحظة الانتصار المادى فى معركة أو انتخابات أو أى منافسة بشرية يمكن أن تكشف عن نبل أو وضاعة الهدف الذى حارب من أجله المنتصر، والوسائل الأخلاقية أو اللا أخلاقية التى استنها لنفسه فى النزال، كما أنها تكشف عن تحضُّر العنصر السائد فى تكوينه أو تخلفه، إنسانيته أو وحشيته، وهذه كلها يمكن أن تشير إلى رؤيته الكامنة لحدود حقوقه كما نطاق واجباته. هل سيتغول فى الأرض والناس والحياة على اعتبارها غنائم معركة، أم سينحنى تواضعا ليكبح غرور نصره، ويعرف أن الانتصار الكبير للإنسان يرتب عليه مسئوليات كبيرة تجاه الإنسانية بما فيها من هزمهم.

أى معركة فى الحياة، سواء معركة انتخابية أو حربية أو رياضية، ما هى إلا حلقة واحدة من سلسلة ستتبعها حتما حلقات، تماما كما أن الساعة التاريخية فى عمر الزمن ليست مجرد ساعة وتمر، بل هى ساعة من ساعات القدر، وليس فى التاريخ، ولا فى حياة البشر، ما يمكن أن يردها إن ضاعت، ولا يستطيع ألف عام أن يستعيد ما فوتته هذه الساعة الواحدة التى يهيل فيها المنتصرون التراب اللا أخلاقى على انتصارهم، فهى ليست مجرد ساعة، بل هى طامة قوة مدمرة تظل سنين تغلُّ طاقة انتصارهم وتشلها.

هى ساعات انتصارات مادية ممهورة بتوقيع هزائم أخلاقية. وإذا كانت الانتصارات الحربية وغير الحربية تدوم ذكراها لأجيال معدودة، فإن الهزائم الأخلاقية تظل محفورة فى ذاكرة أجيال لا عد لها. لقد انتصر من انتصر فى الانتخابات الأخيرة، ولا يستطيع عادل صادق أن يزعم أن هذا الانتصار كان وليد نبالة مطلقة أو صدق خالص أو استقامة خالية من التجاوزات الأخلاقية والخروقات القانونية. وكل هذا يمكن التغاضى عنه لأن كل من خاض هذه المعركة من كل الفرقاء وافق على المضى فيها بملابساتها والتباساتها. ومن ثم لابد من قبول النتيجة، لكن سلوك بعض المنتصرين بات يحتم فتح صفحة حساب لا غنى عنها.

وها نحن فى مساء الثلاثاء، نقف فى ساحة انتهاء الجولة الأولى من هذه الانتخابات التى ستعقبها جولتان، وإذا ببعض المنتصرين يقصفون الأمة بمدافع عدوانية تضع فى مرمى الازدراء تاريخ هذه الأمة وإرثها الثقافى وملامحها النفسية والاجتماعية والروحية المتكونة عبر طبقات الزمان: وسطيتها، آدابها، فنونها، تسامحها، تعايشها الدينى، كل هذا توهَّم بعض المغترين بانتصارهم أنهم قادرون على محوه فى ساعة واحدة من ساعات اضطراب التاريخ، سيان حصلوا عليها بالصواب أو الخطأ، مادامت الأمور فى هذه الساعة باتت تقاس بالنتيجة، وصار السؤال بعدها: ماذا أنتم فاعلون بانتصاركم؟


 سؤال تعجل بعض هؤلاء المنتصرين الجدد فى الإجابة عنه بفظاظة وجهالة متغطرسة، فصار التاريخ المصرى فى غيِّهم «عفنا»! وصارت ملامح هذا التاريخ الماثلة فى صخور تذهل الدنيا بروعة نحتها عورات يجب طمسها أو «تغطيتها بالشمع»! أما أحد أعمدة الأدب المصرى الحديث الذى انحنى لإبداعه العالم ومنحه أرفع جوائز الدنيا فقد صار فى عرف هؤلاء كاتب «دعارة»! بينما الديمقراطية التى ركبها هؤلاء البعض وصولا إلى ما صاروا يتغطرسون به، فقد جحدوها لأنهم لا يعُدُّونها حراما فقط، بل «كفر» !
 لقد مضى على مشاهدتى للوحة «المنتصرون» ما يقارب ربع قرن، وها أنا ذا استعيدها الآن بفضل مشهد بعض المنتصرين فى انتخاباتنا الأخيرة، فتوحى لى عدوانية هؤلاء المنتصرين فى المشهد القريب بتفسيرٍ لوحشية أولئك المنتصرين فى لوحة الحرب البعيدة، ومن هذا التفسير استنتج البشاعة المشتركة فى كليهما، وهى: الاستباحة.
 منتصرو لوحة الحرب الغابرة استباحوا خصومهم فلم يراعوا للموت حرمة لأنهم اعتبروهم غير بشر، وبعض منتصرى الانتخابات الأخيرة لم يراعوا لتاريخ الأمة ولا لرموز إبداعها ولا لثمار كفاحها ولا لسمت روحها توقيرا ولا تقديرا، فاستباحوها لأنهم يرونها أمة ضالة وهم هُداتها!


 مصر والله كبيرة وعارفة وصبورة، وكِبرهم صغير وجهول وعَجول، فلا خوف منهم ولا خشية، بل هم من ينبغى أن يخافوا هذه الأمة، وأن يخشوا من رب العالمين فيها، فالأيام دول.
(ملحوظة: صباح الأربعاء: تحية لمصر العارفة الصبور التى أنجحت النجار وأسقطت الشحات، فى لمحتين صغيرتين عظيمتى الإضاءة، انتصارا لوسطية روحها وصدق شبابها وتحضُّر أعماقها، والقادم بإذن الله أفضل).

فرح مجروح

أضف تعليقك تعليقات : 28
آخر تحديث: الخميس 1 ديسمبر 2011 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة
يقع مسكنى على مقربة أمتار من العمارة التى كان يسكن فى شقة صغيرة ببدرومها الدكتور جمال حمدان، وكنت كلما مررت بمكانه أشعر بالأسى والأسف، ليس فقط للطريقة التى عاملته بها الدولة من جحود وهو أحد أكثر أبناء مصر إخلاصا لها وأصدق عبقرياتها نقاء فى حبها، ولكن أيضا، وبالأساس، لما كان يحدث فى مصر من تآكل بشع ومتسارع للهرم الأعظم فى تكوينها، الذى جدد اكتشافه وأرخ له وبشر به جمال حمدان.. هرم الوسطية والاعتدال فى الشخصية المصرية، بشرا وبيئة وأعماقا تاريخية.. دينا ودنيا.

وفى يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين، حيث تجلت ملحمة خروج ملايين المصريين للإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات الأخيرة، تعمدت أن أمر وأتوقف أمام المكان الذى كان يسكنه جمال حمدان، وأمكث فى وقفتى الصامتة لحظات، كأننى أنقل إليه فى صمت التخاطر بُشرى عودة ظهور اكتشافه الذى كادت تطمره رداءة العقود الأخيرة وعواديها، بل الذى كدنا نحن أنفسنا نحسبه قد اندثر فينا أو انكسر، وأننا بصدد تحول تاريخى للشخصية المصرية أقرب إلى التشوه التدميرى. وكنت وأنا أخاطره بهذه البشارة التى استقرأتها فى طوابير طوفان الناخبين المصريين فى هذين اليومين الرائعين، يخالط فرحى حزن قريب، فكأن صورتين للحزن والفرح تراكبتا معا، لتشوش كل منهما الأخرى.

صورة الحزن مبعثها تلك المجزرة القريبة التى راح ضحيتها فى ميدان التحرير وما حوله 43 شهيدا من أنقى وأعز أبناء مصر، ثلاثة وأربعون شابا وشابة بينهم طبيب غض وطبيبة فى عز صباها، قُتلوا رميا بالرصاص وخنقا بالغاز ودهسا لم أر أبشع منه لشاب فى التاسعة عشر سَحق الدهس حوضه فانفجر لحم وجلد قاع الحوض وانشق عن نافورة من دم امتزج بماء وملح المثانة، وصنع ظاهرة مزلزلة لكل من كان له قلب، فدم الشاب الذى تدفق من هذا الجرح الفاغر لم يتخثر ولم يسود ولا اغمق، وظل على احمراره القانى، فكأنه صرخة مشتعلة تتواصل لتدل على جريمة فى حق الدم المهدور والمغدور والمسفوح غيلة.. تطالب بالقصاص.

أمَّا ذلك الصبى الجميل الموهوب ابن الخامسة عشرة، طالب الصف الأول بمدرسة ثانوية فى الاسماعيلية، والذى كأنما كان ينعى نفسه ويدين وحشية قاتليه بأغنية عديد نبوئى مسجلة قبل مقتله، فقد كانت بكائيتة مُحرِقة، لا على مقتله هو وحده، بل على مقتل العشرات مثله، كما على إطفاء النور فى عشرات العيون الشابة التى فقأتها عمدا طلقات الحقارة والانحطاط النفسى. وفى قسم العيون بمستشفى قصر العينى ثمة عنبر كامل مملوء بهؤلاء الشباب الذين أُطلقت النيران عمدا على عيونهم، هذا غير كثيرين مثلهم تشردوا فى ظلمات القاهرة بحثا عمن يوقف نزيف عيونهم هنا أو هناك؟

 على صورة الألم والحزن تلك، جاءت صورة طوابير ملايين المصريات والمصريين الذين هبوا لنداء الانتخابات الأخيرة، وكانت صورة تحمل بشارة أمل لا شك فيها، لكنها لم تستطع إلا أن تتراكب على صورة الحزن الذى لم يغادر، ولا ينبغى أن يغادر، حتى ينقضى العزاء ويحل الجزاء، فى قصاص بت أوقن فى قدومه مع الوقت، ومن خلال ما استقرأته فى صورة طوابير ملايين الناخبين الذين لم يتوقع فيضانهم الجياش أحد، لا أنا ولا غيرى، ولا حتى من وضعوا الانتخابات نصب أعينهم أولا وأخيرا وفوق كل شىء حتى جثامين الشهداء ودم الجرحى وضياء العيون.

 هؤلاء الملايين من الناخبين المصريين فى غالبيتهم العظمى لم يخرجوا لاختيار هذا الحزب أو ذاك، ولا هذا الاتجاه أو ذاك، وأيا ما ستكون النتائج المرتقبة وأيا ما ستكون ادعاءات البعض، فقد خرجوا مدفوعين بأشواقهم الحارقة للأمان فى بلدهم والاطمئنان على أبنائهم، وهى ظاهرة لا يمكن تفسيرها بعيدا عن غريزة الدفاع عن النفس فى مواجهة خطر لم يعد بعيدا ولم يعد خافيا على أحد، ومن ثم فهى ظاهرة مرتبطة شعوريا ولا شعوريا بجرس الخطر الذى قرعته يد المذبحة، وما كان ممكنا أن تكون بهذا الزخم الطوفانى إلا بانطوائها على أقصى الاستشعار بهول الفاجعة، وهو استشعار يدل على فزْعة نهوض لسمة مصرية أصيلة فى شعبنا.

فى تلك الهبة المصرية الملايينية المذهلة، لم يكن عسيرا أبدا أن أتبين تهافت نسبة الخارجين عن الوسطية الذين ملأوا حياتنا تهديدا ووعيدا فى هوجة الشهور الأخيرة، حتى بتنا ننتظر من سيفرض علينا نمطه من الثياب والمظهر وطريقة العيش، ويسوقنا للتعبد على طريقته ولو بالتقريع والمقارع وكأن مصر كافرة وفى حاجة إلى دين جديد. لكن هذا الجئير وذلك الحشد سرعان ما تبديا على حقيقتهما كمحض هبة من غبار زوبعت فوق نهر الوسطية المصرية الكبير وهو كامن، وعندما فاض ذلك النهر تساقط الغبار على صفحته الجارية فتبدد، دون أن يفقد النهر عذوبته وصفوه.

 هذا لا يعنى أبدا أن نتيجة الانتخابات الحالية ستخذل مقارع ومقالع الناشزين عن الوسطية المصرية، فهذه الوسطية نفسها ونتيجة لفضيلة الطيبة والدماثة الراسخة فى طبعها، يُمكن نشل إرادتها بسيف الحياء أو مزالق المجاملة أو التساهل فى تمرير الأمور، خاصة وفترة «الصمت الانتخابى» القانونية والأخلاقية قد كسرها الخارجون عن الوسطية بجئير زاعق، ودون رادع من قانون أو مؤاخذة.

علينا ألا نندفع كثيرا وراء وهم نقاء النتائج المُنتظره، لكن علينا فى الوقت نفسه أن نستبشر بصعود القلعة البشرية المصرية الحية، قلعة الوسطية المصرية الحميدة الحامية لبلادنا من هبوب رياح سَموم لم يكف عن قذفنا بها قيظ وعماء رمال الصحراء، ويناظرها لسعات بردٍ أنانية جاحدة لم يكف عن تسريبها إلينا خبث الشمال.

فى «شخصية مصر» كتب جمال حمدان: «ليس من قبيل التطرف أو التبسيط، ولا هو من باب الوهم أو التسطيح، أن سمة الاعتدال من أبرز السمات العامة الأساسية للشخصية المصرية، فالوسطية والتوازن سمات رئيسية عريضة فى كل جوانب الوجود المصرى تقريبا، الأرض والناس، الحضارة والقوة، الأخذ والعطاء». كما كتب: «كان أمرا محتوما أن تكتسب الشخصية المصرية صفات الاعتدال والاتزان والوسطية، وأن تتفاهم مع الدين بهذه المفاهيم العميقة، وأى فهم للدين خارج نطاق هذه الحدود إنما يمثل انكسارا فى الشخصية المصرية، وهو على أبسط الفروض، حالة مَرضية تحتاج إلى علاج وصبر حتى تعود الشخصية المصرية إلى طبيعتها». وأضاف: «انصبَّت الديانات السماوية جميعا فى مصر على التوالى، ولعبت مصر فى مراحل الدعوة إلى ثلاثتها دورا أو آخر، فكانت لموسى قاعدة ومنطلقا، ولعيسى ملجأ وملاذا، بينما كانت مع النبى محمد هدية ومودَّة».

نعم، لقد مرَّت على المصريين عقود عصيبة من القسوة المحلية والترحال والتسخير فى الغربة، وتشويه تراثها القيمى بجائحة من جراد بشرى حكم وتحكم وطغى وتكبر وتوحش وتفحش فى السنين الأخيرة، حتى حقَّت حكمة التحذير من غضب الحليم، ومصر الوسطية المتسامحة المتدينة الحلوة الطيبة الضاحكة الساخرة الصبور غضبت، بل تمرست بالغضب من فرط فجاجة دفعها إلى الغضب، وهى إن لم تفرض حسم وسطيتها العفية الذكية فى هذه الجولة، فإن فى القادمات متسعا أكيدا، شرط أن نذود جميعا عن بديهية «تداول السلطة»، أيا ما سيكون البرلمان القادم والحكومة المرتَقبة والرئيس المُنتظر.

ويبقى لى فى هذا الفرح المجروح بالحزن، أن أقول مخلصا لإخوتنا المعتصمين فى ميدان التحرير: إن الدرب طويل وملىء بعواقب ومُجاهدات لابد أن نضعها فى الحسبان، وهذا مما أود أن يدركه نقاؤهم، فيعرفون أن البراءة صيد سهل فى حومة لؤم مزمن ومتمرِّس ولا يتورع عن تزييف مشاعره وشعاراته.

لهذا أطالب شرفاء الميدان بالتقاط أنفاسهم وأخذ هدنة حتى الخامس والعشرين من يناير القادم، فليخلوا الميدان شرط أن يحصلوا على وعد بعدم ملاحقتهم وتعهد بمحاسبة المجرمين فى حق إخوتهم من مصابين وشهداء وتعويض وعلاج من يستحق التعويض والعلاج.

 هدنة شهرين تُختَبر فيها النوايا التى نتمنى أن تصدق بعد هذه الانفراجة وهذا القبس من التفاؤل، وأن تمتلك الإراداة على المضى قدما على درب مطالب الثورة الواضحة البكر «حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية». أرجوكم فكروا فى الأمر، فلا إخلاص لمن يترككم تُهزَمون بينما الحصار حولكم يُحكم متاريسه.

وبآخر ما تبقى من حسن الظن بمن يمسكون بمقاليد الأمور فى مصر الآن، أردد على مسامع ضمائرهم الوطنية ما قاله جمال حمدان «أمام مصر خياران لا ثالث لهما. الانحدار التاريخى أو الثورة التاريخية»، فاغتنموا فرصة التاريخ، لأن مصر تستعيد روحها بالفعل.

رحم الله جمال حمدان.

(ملحوظة: بعد إنهاء هذا المقال فى العاشرة من مساء الثلاثاء جاءت الأخبار الصادمة عن «باعة جائلين» يهاجمون شباب المصابين والمعتصمين بالتحرير بالحجارة والأسلحة البيضاء وزجاجات المولوتوف وبنادق الرش!! أى لؤم. وأى حزن؟ أكرر اقتراح الهدنة والإخلاء الطوعى للميدان حتى 25 يناير، لنحتفل بسنوية الثورة، أو نستعيدها).

انتخابات قِلَّة الحيا

أضف تعليقك تعليقات : 42
آخر تحديث: الإثنين 28 نوفمبر 2011 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة
والحيا هو الحياء بجواز تخفيف الهمزة، حيث الحياء من الحياة، لهذا يقال إن قلة الحياء أو قلة الحيا من موت القلب والروح. وفى الحديث الشريف يكون الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر، لأن الحياء من الإيمان، ولو شئنا التحديد لعدنا إلى أن لكل دين خلقا، وخُلق الإسلام هو الحياء. أو الحيا. فأين الحياء أو الحيا فى هذه الانتخابات التى أسست على عيب، وصيغت بعيب، وتنعقد فى ظروف مثقلة بأعيب العيب، بل الحرام؟

انتخابات ما هى إلا نقطة على منحنى انطلق من نقطة فاسدة ضللت أمة عن سواء السبيل فى بناء مصر جديدة بعد إزاحة طاغوت عصابة حكم الاستبداد والفساد الساقط، فبدلا من المسير على درب الصواب الذى اتبعته أمم توافقت مع ضمائرها وصدق تطلعات بنيها، وأقربها إلينا تونس، تواطأ من تواطأ وقايض من قايض لاختلاق متاهة عجيبة بتعديلات دستورية نسفت البداية الصحيحة لإنشاء دستور توافقى جديد، تُجرى على هديه انتخابات ديمقراطية صحيحة، يصعد منها برلمان سوى وقوى، ونختار بها رئيسا لا ينحدر بنا إلى مباذل الفرعنة.

 وها هى النتيجة: مزيد من الضياع والاتضاع.
انتخابات صيغت بلعبكة لا تعرف هل هى وليدة الغباء أو الدهاء، ووُضعت لها أُطر قانونية لم يحترمها أحد، سواء فى نطاق الدعاية التى لم تحترم شروطا من دين حق أو دنيا نقية، ومن ثم لن تكون النتيجة إلاَّ تنويعا على انتخابات الحكم الساقط، إلا قليلا، إن كان ثمة قليل، بعد منحة تمديد تصويت كل مرحلة إلى يومين، ستبيت فيهما الصناديق فى ليل يعلم الله خباياه، والأرجح أن تتكشف المنحة عن محنة!

أمَا ثالثة الأسافى، وعيب العيب فى هذه الانتخابات الرديئة، فتكمن فى توقيت انعقادها الذى يشى بموت أو موات الأرواح والقلوب، أى قلة الحيا وخواء الضمائر لدى كل المتكالبين على هذه الانتخابات والمتشبثين بها، وما أتعسها سلطة يقبض عليها من يقبض وهى تقطر بدم واحد وأربعين شابا شهيدا، حتى الآن، وتتعرق بمياه عيون عشرات الشباب الذين فقأ المجرمون الساديون عيونهم، وتغامض عن هذا الإجرام وتلك السادية من كانت عيونهم على الانتخابات أولا، والانتخابات أخيرا.

انتخابات بها كل هذا القدر من قلة الحيا، لا يمكن أن تكون واعدة بخير، على قاعدة أن الحياء لا يأتى إلا بالخير، وقلة الحياء عكسه. وإذا زعم الزاعمون أن إرجاء هذه الانتخابات سيجعل الأمور أسوأ، فإن البديهى بعد كل هذا الدم وكل هؤلاء الشهداء، وبعد أن تبينا الفارق الشاسع بين السواء والالتواء، بين هبوط السعار على القوة ورفعة التطلع إلى الحق، أن نختار الأصح الأصدق والأصوب، حتى لو اضطررنا للتوقف برهة. ولنعد إلى بدء صحيح يتمثل فى وفاق وطنى قوامه احترام حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، وهما أمران لا يعرقل مسيرتهما إلا لئيم فى الدنيا ومريب فى الدين.

لقد توافقنا جميعا فى أيام الثورة الثمانية عشرة المجيدة على الثلاثية البديهية «حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية»، فمن يجافيها الآن لن يكون إلا معيب الروح خاوى الضمير؟! أما الصادقون الأمناء مع ربهم والناس والأرض التى جمعتنا إخوة ومواطنين، مدنيين وعسكريين، فالسواء بين والالتواء بين، ودرب الضياء واضح المعالم: توافق دستورى جامع، وانتخابات صادقة الوعد مع النزاهة، يحكمها قانون سوى وصارم يطبق على الجميع ومن يخرج عليه يكون خارجا على إرادة الأمة، ومن ثم ينبثق عن هذا الخير برلمان حقيقى ومؤسسة رئاسة سوية، فلا تنقسم الأمة على نفسها، ولا يمتد شرخ الانقسام إلى ما هو أبعد وأخطر.

قالوا إن لم تستح فافعل ما شئت، ومن المؤكد أنه سيظل هناك من لا يستحى ولن يستحى، لكن كما أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، كذلك قلة الحيا، فالجراح قليل الحياء الذى يسمح لنفسه بتقفيل جرح دون تنظيفه، يؤذى صاحب الجرح بمآلات التلوث المهمل فى الجرح، الذى يمكن أن يتحول إلى خراج داخلى يتحتم إعادة فتحه، أو ناسور يمد أذاه إلى أعضاء يدمرها الأذى، وهو مما يحتم جراحات كبرى فيما بعد، وعندما يحدث ذلك لن يكون إلا دامغا للجراح الأول قليل الحيا بانعدام الضمير.

ويا صحوة الضمائر حيّاكِ الحيا.   


أوزير فى التحرير

أضف تعليقك تعليقات : 15
آخر تحديث: الخميس 24 نوفمبر 2011 - 9:55 ص بتوقيت القاهرة
كانت المليونية هذه المرة مختلفة، فى موعدها وحجمها وشعاراتها، وأهم من ذلك كان المشاركون فى صنعها، وهو الشىء الأهم الذى وجدت نفسى أدقق فى تمحيصه، فرحت أشق طريقى فى الزحام محدقا فى الوجوه والهيئات ملتقطا تعبيرات الملامح ونبرات الأصوات، ووجدت نفسى أقرب ما أكون من الأيام الثمانية عشر المجيدة للثورة النبيلة، فقد كانت الوجوه هى نفسها أو تكاد، والأعمار هى نفسها على الأغلب، والروح التى جعلنا الإحباط نظنها ماتت، نكتشف أنها لم تمت، وهذا أكثر ما وجدته مدعاة للتفاؤل، برغم أن التربص كان ماثلا هناك، وكان يطلق مدافع دخانه الذى لم يكتف بأن يكون ملهبا للعيون ومدوخا للرؤوس هذه المرة، بل كان ساما وقاتلا ويعزز غدر بنادق الرش وطلقات الرصاص الحى وذلك التصويب الإجرامى على العيون.

قررت فى نفسى أن هذه هى المليونية الحقيقية منذ ترك الثوار الحيقيقيون الميدان، وأنها الأغلبية الحقيقية لمن أراد المناطحة بمزاعم الأغلبيات، وهى عودة إلى نبالة الهدف الأصلى «حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية»، بالرغم من أن الهتافات فى هذه المليونية لم تكن تردد هذا الشعار. ومن ثم مثَّلت المليونية إضافة لمغزاها الأساسى فرزا واضحا لثنائية التعارض الأزلى بين طلاب الحق وطلاب السلطة.

كانت الأغلبية شبه المطلقة ضمن هذه الأغلبية المليونية من الشباب، فتيان وفتيات من كافة الطبقات الاجتماعية، ومن مشارب شتى، لكن المشترك بينهم كان واضحا وضوح نضارة العمر وبشاشة الوجوه، برغم أن الموت كان فاغرا فاهه المدجج بالنار والدخان السام والحقد الأسود القادمة كلها من جوف شارع محمد محمود، الحامل لاسم أحد أبشع وزراء داخلية مصر فى العهد الملكى وطغاة وزاراته. وكان طريق الآلام الذى فتحته المليونية عبر احتشاد قلبها، واصلا ما بين «خط النار» على ناصية الشارع الموسوم بالدم، والمستشفيات الميدانية المجاهدة فى العراء، وكانت عربات الإسعاف مع الدراجات النارية لا تكف عن الصراخ والوميض بأنوارها موحية الزرقة، وهى تحمل ذوى الإصابات الجسيمة إلى المستشفيات خارج الميدان.

شباب أعادوا لُحمتهم فى هذه المليونية الانبعاثية دون أن تفرق بينهم أن تكون الذقون حليقة أو مطلقة اللحى، وفتيات محجبات ومنتقبات وسافرات كن أخوات الرجال فى هذه المأثرة. وجميعهم كانت ملامحهم وسلوكهم تعود إلى سيرتهم البكر الأولى والأصدق والأصح، كإخوة فى وطن واحد، ينشد لكل مواطنيه الحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، فقد طالت الشهور واستطالت وبقايا النظام القديم تراوح فى مكانها، بل عادت إلى الظهور بذاءة الاعتداء على الكرامات بكشوف العذرية جنونية الهبوط، ووصم حركات وطنية بالتخوين والعمالة برغم إسهامها المشهود فى مواجهة الاستبداد والفساد فى أوج تجبره وجبروته، وأخيرا محاكمة شباب جميل ونبيل بتهم غير معقولة استنادا إلى شهادات منحطة لكذابات وكذابين أشرين.

شباب وشابات من الليبراليين والإخوان المسلمين والسلفيين، نفضوا من حولهم فى هذه المليونية تلك الأسوار القميئة والمعيقة التى اصطنعها الشيوخ والشائخين، وانفتحوا معا على المثل الأعلى فى هتافهم المشترك القديم القويم «حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية»، فالحرية لاتزال رهن التهديد، والعدالة لم يزل غيابها يوحش، حتى فى حدها الأبسط والأوضح فى أمربديهى كتحديد حد أدنى وحد أعلى للأجور.

كنت أسائل نفسى وأنا أمضى متأملا الوجود والأرواح فى هذه المليونية الصادقة الصافية الحقيقية، كيف تمكنوا من العودة إلى جسد الثورة البكر متوحدين، بعد أن قطَّعت هذا الجسد سكاكين غلاة المتعصبين ومُدى المتلمظين على السلطة، وأمواس هواة الشهرة، وسواطير المتآمرين بالصفقات السرية من أجل القوة لا الحق.

ضفقات خفية فضحت سرها هذه المليونية النبيلة ذاتها؟! فقد كشفت النهاية البائنة عن بداية الصفقة الشائنة، عندما ارتضى شيخ وقور بأن يقوم بدور لا يتناسب مع مقامه القانونى والوطنى والثقافى بدور «ترزى قوانين» على رأس لجنة مريبة التكوين لتعديل مواد دستورية، نسفت الجسر الذى كان قد أجمع عليه كل شركاء الثورة، للعبور نحو انتقال سليم للدولة الديمقراطية الحديثة المحققة لصيحة «حرية، كرامة انسانية، عدالة اجتماعية»، أى دستور توافقى يعلى من حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، ويحدد المسار المتضمن لكل مكونات هذه الصيحة، بانتخابات ديمقراطية نزيهة لاختيار برلمان رشيد، ووزارة نهضة، ورئيس يكون نقيضا لكل الفراعين.

برغم رائحة الغاز الفاسد والقاتل التى كانت تهب على الميدان خفيفة أحيانا وثقيلة فى أحيان أخرى من الجهة الشرقية، وبرغم بعض القمامة التى تراكمت تحت الأفاريز باعثة على التذكر المرير لسحل جثامين الشهداء وتكويمها بانحطاط وتوحش على الأرصفة، فقد أحسست وأنا فى قلب زحام النضارة والبكارة لهذه المليونية النبيلة بدفقات من نسيم نقى يهب على وجهى، وكأن جناحين هائلين يخفقان فى الأعالى مرسلين هواء خفقهما إلى المحتشدين على أرض الميدان، وتداعت إلى ذهنى صورة من أسطورة «أوزير وإيسه»، أو «أوزيريس وإيزيس» (كما ننطقها باللغة الإغريقية أو اليونانية القديمة)، فقد صورت الأسطورة إيسه المجنحة بعد أن جمعت أشلاء جسد زوجها أوزير التى قطَّعها أخوه «ست»، وخفقت عليه بجناحيها فشهق مستعيدا أنفاسه.

رأيت الأسطورة تعيد سيرتها الأولى، متجسدة على أرض التحرير فى إطار جديد خلال هذه المليونية، وفى الأسطورة كان أوزير رمزا للحكمة والعدل، ويرجح أنه حكم فى فترة عُرفت بالعصر الذهبى فى مصر القديمة، حيث نشر القوانين العادلة وتوخى الحقيقة وعلم الناس زراعة القمح وصناعة الخبز، ومن ثم كان رمزا للنيل والقمح والحياة الطالعة من بطن الأرض. وعلى النقيض منه كان أخوه «ست» حامل ألقاب «فائق السطوة. مدمر الضياء. ممثل الظلمات والصحارى الجدباء. قاتل أخيه ومقطعه إربا».

كان كل من الأخوين أوزير وست نقيضا للآخر، وفى التحليل النفسى كان أوزير يمثل طاقة الحب والبناء والنماء بينما كن ست يمثل نزعة التملك والتسلط والتدمير. كانا ممثلين للتناقض الأبدى بين مطمح الحق ومطمع القوة، وكان لابد أن يصطدما، وأن يكون «ست» هو المبادر بالصدام.

ست، القاسى الحاقد النهاب، والذى وضع الحمير حراسا على مخازن ثرواته، رأى نفسه أحق بالحكم من أخيه، فتآمر عليه، وأُمسك متلبسا بتآمره، وحُكم عليه بالاعدام، لكن أوزير لم يحتمل أن يُعدم شقيقه، فافتداه بذبائح من الماشية وأطلق سراحه، لكن ست لم يكف عن تآمره، ونال من أوزير بمعية منتفعين وأشرار من حوله، وقطعه ست عشر قطع، ويقال اثنتى عشرة، وبعثر أشلاءه، لكن إيسه أو إيزيس الموصوفة بأنها «ذكاء العالم» «سيدة الأفق» «مبعث الضياء المرشد» والممثلة لأرض مصر المتأهبة للخصب بمياه النيل الذى يمثله أوزير، جمعت اشلاء زوجها ودفت عليه بجناحيها فالتقط شهقة الحياة، وعاد ينشر الحق والعدل فى مصر.

لم يفتر حقد ست، فعاد إلى تآمره وقتل أوزير وقطعه أربعين قطعة هذه المرة، وعادت إيزيس تجمع اشلاءه وتمنحها نسمة الشهيق ليرجع إليها وإلى الدنيا والناس، فبدا وكأن هذا الصراع أبد، لكنه لم يكن كذلك.

لقد نظر الدارسون إلى القصص الثاوية فى متن الأساطير على اعتبار أنها تعبير رمزى عن معنى يُراد إيصاله، عن حكمة العصور الماضية مُعبَّرا عنها بلغة رمزية مهداة إلى كل العصور التى تليها. وهذه الأسطورة التى تعد أسطورة الأساطير فى التراث المصرى القديم، تمثل تعبيرا جليا عن صراع صبوة الحق فى مواجهة إغواء القوة، فكيف انتهت الأسطورة واختُتِم المعنى؟

لم يكف ست عن قتل أوزير وتقطيعه وبعثرة أعضائه، ولم تيأس إزيس عن جمع أشلاء حبيبها ومنحه قبلة أو شهقة الحياة، لكن أوزير اكتفى بعد أن أنجب من أيزيس ولدهما حورس، وزهد فى الحياة راحلا إلى بطن الأرض، وثمة مفاجأة للأسطورة فى إحدى رواياتها، حيث ظل جسد أوزير الأسمر حافزا للحياة والنماء حتى فى مثواه بعد الموت، لأنه بات المحفز للبذور كى تنبت من فوقه وتطلع من الأرض شجرا ينبت ثمرا وزهورا وغصونا وخضرة.

وأيا كان مآل تجسُّد الأسطورة فى مليونية التحرير الجامعة الأخيرة، ستظل روح الوفاق الجامع لشباب هذه الأمة من كافة أطيافها، إن ثابروا على وفاقهم وأخلصوا له وحافظوا عليه وحموه من تسللات الغوغائية واندساس المخربين المأجورين، هى الثمرة الأنضر والأفضل من ثمار ثورة يناير النبيلة. ومهما كانت محاولات دفن هذه الثمرة، ستظل تُنبِت من بذورها شجرا وزهرا وثمرا يحبه الأخيار ويزيد أقبالهم عليه لتكوين أغلبية سلمية صادقة لا قِبل لقوة بها مهما كانت. فمن يتعظ؟

النكروفيليا فى مصر

أضف تعليقك تعليقات : 31
آخر تحديث: الخميس 17 نوفمبر 2011 - 9:50 ص بتوقيت القاهرة
القصة معروفة، وتنسبها بعض المصادر إلى سيدنا سليمان عليه السلام، حين نظر فى دعوى امرأتين متنازعتين على طفل، ادعت كلتاهما أن الطفل طفلها. فما كان من سيدنا سليمان الحكيم إلا أن اقترح شق الطفل إلى قسمين متماثلين، ولتأخذ كل واحدة قسما.

وما كاد سيدنا سليمان ينهى اقتراحه، حتى أصاب إحدى المرأتين ذعر هائل أفقدها القدرة على النطق، أما غريمتها فقد سارعت قائلة إنها قبلت القسمة. وبعدما أعطى سيدنا سليمان الفرصة للمرأة الهلعة لكى تهدأ وتقدر على الكلام، كان أول ما نطقت به هو تنازلها عن الطفل كله لغريمتها، فهى لا تقبل بتقسيمه. وكان واضحا أنها هى الأم الحقيقية للطفل، فحكم لها سيدنا سليمان بابنها كله.

هذه القصة اتخذ منها رائد علم النفس الاجتماعى البارز «إريك فروم» نموذجا دالا على طرفى نوعين من السلوك أو النزوع النفسى، أولهما نكروفيلى تمثله المرأة الكذوب التى تطلعت لامتلاك الطفل ولو بتقطيعه، وثانيهما بيوفيلى وتمثله الأم الحقيقية التى داست على قلبها مانحة ابنها لغريمتها لأنها لا تقبل المساس به، وفى الترجمة الحرفية لأصل المصطلح، تعنى النكروفيلية عشق الجثث أو الموت، بينما البيوفيلية هى عشق الأحياء أو الحياة.

فيما يخص النكروفيليا، فإن إيريك فروم، فى مُؤلَّفه الموسوعى الفذ «تشريح التدميرية البشرية» «THE ANATOMY OF HUMAN DESTRUCTIVENESS»، وكعادته العبقرية، وسَّع من دلالات المصطلح حتى تجاوز كثيرا بدايته الحرفية المحدودة، فصارت النكروفيليا تشير إلى أشكال متعددة من السلوكيات النفسية التدميرية. فبرغم انطلاقه من نظرية عالم النفس الشهير «سيجموند فرويد» عن «غريزتى الحياة والموت»، إلا أن إريك فروم من خلال ملاحظاته المستقاة من المعطيات السريرية لمرضاه، توصل إلى أن «المجاهدة من أجل الحياة، والمُنازَعة من أجل التدمير»، هما القوتان الأساسيتان المتجابهتان داخل النفس الإنسانية. وفى تعريف موسّع، قال إريك فروم إن النكروفيليا».

هى انجذاب عاطفى تجاه كل ما هو ميت، ومتفسخ، وسقيم، فهى الشغف بتحويل ما هو حى إلى غير حى، وبالتدمير من أجل التدمير، والاهتمام الحصرى بما هو آلى خالص، وهى الشغف بتفكيك كل البِنى الحية».

قبل أن يوسع إريك فروم دلالة مصطلح النكروفيليا، كانت الدلالة فظيعة ومقصورة على نوعين من الظواهر النفسية المرضية متطرفة الشذوذ وبالغتى الندرة بين يدى الأطباء النفسيين وعلماء النفس، وهما: النكروفيليا الجنسية المرتبطة باشتهاء الجثث، والنكروفيليا غير الجنسية المتعلقة باستهواء الجثث، تحديقا ولمسا وتقطيعا بتلذُّذَ! أما عند فروم، فقد أصبحت النكروفيليا إطارا عاما لانحراف شائع هو الاقتناع بأن السبيل الوحيد لحل أية مشكلة أو صراع هو بالقوة والعنف، دون أن يكون الأمر متطلبا لذلك، لأن القوة والعنف فى هذا الانحراف لا يكونان إلا تدميريين، لتحويل الحى إلى ميت، والمتماسك إلى مفكك.. أو هشيم، أو أنقاض.

النكروفيلى عندما يواجَه عقدة لا يرى سوى قطعها، لا حلها بأناة ولا تفكيكها بصبر. والنكروفيليون عموما لا جواب لهم على مشاكل الحياة إلا التدمير، لا الجهد التوافقى، أو التشاركى، أو البنَّاء، فهم لا يرون هذه الحلول لأنهم لا يعرفون إلا الخيارات التدميرية، وينكرون حقيقة أن القوة التدميرية فاشلة على المدى الطويل، لأنهم يعملون على المدى الأقصر عادة، فهم محكومون بهاجس الرغبة فى التملك لا الحب، كما فى حالة المرأة الكذوب التى قبلت شق الطفل لتحصل على نصفه! وهم ماضويون، لأن الماضى لديهم هو الجدير بأن يُعاش، لا الحاضر، ولا المستقبل، فما كان، أى ما هو ميت زمانيا ومكانيا، بمقاييس الحياة المعيشة، يحكم حياتهم ويتحكم فيها. ومن ثم يصير الماضى مقدسا مهما كان غير ملائم، بينما الجديد بلا قيمة، والتغيير جريمة. فما علاقة ذلك بما نحن فيه، فى مصر.. الآن؟!

لو شئنا مثالا تجسيديا معادلا لقضية المرأتين المتنازعتين على أمومة الطفل، حيث يمثل الطفل لغير أمه: المِلكية، الحيازة، السطوة، بل تعزيز القوة، أى السلطة، فإننا سنكتشف على الفور توجهات المتصارعين عليها بهدف الملكية، وبوسائل القوة، فكأننا إزاء أطراف عديدة تطالب بملكية الطفل أو شىء منه، ولو بتقطيعه، وبعبارة مباشرة: طلب السلطة، أو أكبر نصيب من كعكتها، ولو بتمزيق الدولة وشق صفوف الأمة. وليس عسيرا علينا أن ننزع أقنعة مثل الصراع على بداهة الدستور الجامع أو أولوية الانتخابات العابرة للفترة الانتقالية، لنكتشف تحتها مشتركا واحدا هو الرغبة فى حيازة القوة/ السلطة، أو الخوف من فقد القوة / السلطة. وكأن السلطة غاية لمطامع التمكين والاحتكار وليست وسيلة لمطامح الارتقاء والتشارك. ولعل بعض الشعارات الفالتة من هذا الطرف أو ذاك توضح إلى أى مدى تتوارى النكروفيلية بنوازعها التدميرية خلف تصريحات أو هتافات من مثل الاستعداد لتقديم شهداء، أو التهديد بالتصعيد، أو الضغط بالمليونيات، أو تكوين حكومة ميدان وفرضها على الأمة!

هذه الملامح النكروفيلية المموهة على مستوى النخب السياسية والرموز والتكتلات الاجتماعية والحكم أيضا، يناظرها على مستوى العامة مظاهر أوضح وأفظع للنكروفيلية البدائية الوحشية الصريحة، كما فى عمليات القتل بالسلاح الأبيض والأسود، والاحتراب بالبنادق الآلية لأتفه الأسباب بين قرى وقرى، وعائلات وعائلات، وضواحى ومدن، فهى نكروفيليات جماعية لعل من أفظع مظاهرها حوادث الانتقام من عربدة بعض البلطجية بقتلهم وتقطيع أوصالهم والاحتفال الجماهيرى فى الطواف بجثثهم المُمثَّل بها على رءوس الأشهاد.. المبتهجين بالنصر!

لقد قرأت هذا الأسبوع رواية صغيرة بعنوان «نكروفيليا» بقلم كاتبة لا أعرفها ولم أقرأ لها شيئا من قبل اسمها «شيرين هنائى»، والرواية برغم افتقارها إلى خبرة الكتابة المتمكنة، فإنها تنطوى على محتوى درامى متماسك، إضافة لأساس علمى أرجح معه أن الكاتبة إما طبيبة نفسية أو دارسة لعلم النفس المرضى أو مهتمة به، فقد كانت دقيقة فى حدود المعرفة الأولية بالنكروفيليا، وإن كانت قد وقفت بهذه المعرفة عند حدودها الضيقة، ولم تذهب بها بعيدا إلى حيث ذهب إيريك فروم، لكن الإطار الدرامى لروايتها قد يكون مُبّررا مقبولا فى ذلك.

الرواية تحكى عن طبيب نفسى شاب، ميسور ووسيم، يلتقط صبية صغيرة فقيرة مصابة بفقد الشهية العصبى لجعلها حالة بحثية فى رسالته للحصول على الماجستير، لكنه يُفاجَأ بأن تحت سطح هذه الحالة يكمن محتوى نكروفيلى متوحش يبرز بشكل مُطَّرِد يربك الطبيب ويدمر حياته، بل يجعل منه فى النهاية ضحية عملية قتل واشتهاء بشعة وبالغة الشذوذ من مريضته. وبرغم كل ملاحظاتى الفنية على الرواية، فإنها تحتوى على مادة جيدة لفيلم رعب يجمد الأنفاس من زاوية أحسبها غير مطروقة لدينا.

 وقد التقطتُ الرواية وقرأتها متقافزا فوق الهنات الفنية، لأن ملاحظتى على بروز النكروفيليا فى الصراعات السياسية والاجتماعية فى مصر الآن لم يكف عن إثارة فضولى وخشيتى منذ شهور.

فى رواية الكاتبة «شيرين هنائى» مخطط سيناريو لفيلم رعب ناجح، لكن فى تلافيف ما يحدث فى مصر الآن، وما يتبدى فى المجابهات والشعارات والضغوطات والتناحرات والتطلعات إلى السلطة، تنمو بذور لعرض تدميرى شامل ومخيف، تبرز فيه علامات لا يخطئها كل من يعرف خبايا النكروفيليا بدلالاتها الواسعة التى أومأتُ إليها مُتكئا على معرفة إريك فروم الموسوعية بالموضوع الذى هو حجته العالمية، فثمة صيحات تبدو عفوية من أطياف مختلفة وفرقاء متنوعين، مثل «سندفنهم»، و«نموت نموت ويحيا كذا» و«كذا كذا حتى الموت»، تمثل نماذج واضحة وصادمة على ما يختبئ تحت السطح من جبل النكروفيليا الغاطس، جبل البحث عن الخلاص من أى مأزق بالتدمير، بالقوة، بتفسيخ الحى، وتفكيك المتماسك، بالموت، أو الموات. ويؤكد تلك الرؤية ما نلاحظه من غياب موحش للتوجه الصحى النقيض فى صراخ كل المتصارعين والمتنافسين والمتجادلين على القوة / السلطة.. غياب «البيوفيليا» التى تعنى حب الحياة، والتطلع إلى المستقبل، والطموح إلى النهضة.

وقد يلاحظ القراء الأعزاء أننى متحفظ كثيرا فى تسمية الأطراف المنخرطة فى هذا العرض المنذر بالتدميرية، بالنكروفيلية، وهى أطراف تشمل كل الفرقاء فى التعصبات السياسية والاجتماعية والعقائدية والطائفية وفى مواقع الحكم. وتحفظى ليس تأدبا ولا خشية ولا مجاملة لأحد، لكنه محاولة لتنبيه غير المنتبه، وترك منفذ لخروج ونجاة المتورطين إن شاءوا وشاءت ضمائرهم، بالخروج من ظلام النكروفيليا إلى نور البيوفيليا، إلى حب الحياة، الذى لا يكون حبا حقيقيا «مُنتِجا»، على حد تعبير إيريك فروم نفسه فى كتابه الجميل «فن الحب»، إلا بتعميم الحب وإسباغه على الغير، على الناس والكائنات والموجودات كلها، فهى جميعا مثلنا، من خلق الله واهب الحياة، وبمشيئته وإذنه ستنتصر فى مصر الحياة. يا رب الحياة.

حكاية الألم والأمل

أضف تعليقك تعليقات : 23
آخر تحديث: الخميس 10 نوفمبر 2011 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة
بعد مشاركتى فى برنامج «مساء السبت» بقناة أون تى فى، بما أحسب أنها كانت مشاركة تتوخى الصدق والحق والعدل فى الرؤية، واستخدام العقل والعلم والروح معا لصياغة زاوية نظر مجتهدة إلى الواقع، لفت أحد الأصدقاء نظرى إلى من يهاجمنى عبر الانترنت بسبب هذه الحلقة. وعندما أطلعت على هذا الهجوم، هالنى كم التعصب والتخرُّص وفساد التأويل فيه، وكان أكثر ما آلمنى هو أن هذا المتهجم قال إنه أحد خريجى كليتنا طب المنصورة، لكننى لم أعرفه ولا أعرفه، خاصة من صورته الغريبة جالسا على مكتب ووراءه مكتبة عامرة واضح أنه لم يستفد منها، وعلى يمينه العلم السعودى!

الحقيقة أننى تألمت، ليس لأن الهجوم عدوانى وبذىء وحسب، ولكن لأنه كاذب صفيق فى تأويلاته، فأنا لم أتربح من موقف، ولم أسع لجائزة، ولم أنل من دولة حسنى مبارك ولا وزارة ثقافته مليما ولا حظوة، ولم أذهب للاتحاد السوفييتى مبعوثا بمنحة من الحزب الشيوعى الذى لم أكن عضوا به ولا بغيره، بل بمنحة من منظمة التضامن الآفروآسيوى، وأننى فى مجلة العربى كان اجتهادى وجهدى هما مُسوِّغا التحاقى بها وارتقائى فيها، إلى أن استقلت منها بود وكرامة منذ سنوات، كما أننى فى اغترابى مكثت حريصا على كرامتى الإنسانية والوطنية، بما لم يستطعه ولا يستطيعه أمثال ذلك المُستَلَب الممسوخ المُستظِل براية المملكة! والعجيب فى هذا التخرص لذلك الشخص الذى أعماه تعصبه، أنه استخدم فى هجومه الأكاذيب نفسها أو تكاد، التى استخدمها متخشب شيوعى هاجمنى عندما انتقدت الخبل السياسى لمن هتفوا باسم الشيوعية تحت راية حمراء فى ميدان التحرير، واستبقه فى ذلك الهجوم أيام حسنى مبارك واحد من الكتيبة الالكترونية للحكم الساقط والحزب المنحل.

بعد أن تنهدت تخفُّفا من الألم، حمدت الله على بركة أن أنال كراهية هذا الثالوث الملوَّث من مشوهى الروح والعقل على اختلاف ادعاءاتهم الدينية والدنيوية وتباين الرايات التى يستظلون بها.

وجعلتنى الراحة التى عثرت عليها فى ثنايا التنفس العميق والحمد، أتلامس مع أمل لم يكف عن مشاغلتى، وهو أن أقوم ببعض الواجب فى حدود ما يتاح لى لتقديم كُتاب جُدد من الشبان الذين جذب إبداعهم اهتمامى، والملفت أن معظمهم من طلاب وخريجى الكليات الطبية، وعلى وجه الخصوص الكلية التى تخرجت فيها. ولأننى أرى فى نصوص التأمل المسطورة بجمال أدبى ودراية علمية نوعا من الإبداع أعتز به، فإننى أستضيف فارسا طالعا من فرسان هذا الفن الجميل، وهو طبيب يختص فى طب العيون بجامعة المنصورة، كاتب قصة وروائى فاز بمنحة مؤسسة المورد الثقافية، وأنهى لتوِّه رواية متميزة التوجه بطلها وموضوعها أحد أساطين طب الدنيا ومؤسِّسى قوانينه، الحكيم المسلم العظيم «ابن سينا» أو «الرئيس» كما يُكنَّى، وكما عنوان الرواية التى أنجزها كاتبنا الجديد،الطبيب محمد العدوى.


حكاية الألــم

بقلم: محمد العدوى

أليسَ فى إمكاننا أن نَغْلِبَ الألمْ؟

نُرْجِئْهُ إلى صباحٍ قادمٍ؟ أو أمْسِيهْ

نشغُلُهُ؟ نُقْنعهُ بلعبةٍ؟ بأغنيهْ؟

بقصّةٍ قديمةٍ منسيّةِ النَّغَمْ؟

●●●

ومن عساه أن يكون؟

طفل صغير ناعم مستفهم العيون

تسكته تهويدة وربتةٌ حنون

وإن تبسمنا وغنينا له.. ينم

«إنا نحبك يا ألم»

(خمس قصائد للألم ـ نازك الملائكة)

●●●

«.....وأبدأ بعيدا عن موضع الألم الذى يشير إليك به، جاعلا عينيك فى عينيه، باسطا وجهك حتى تطمئن نفسه إليك ويألف جسده يدك. معلقا إحساسك بأطراف أصابعك لا بباطن كفك، رفيقا أولا ثم عميقا بعد ذلك. تقترب قليلا قليلا من موضع ألمه حتى تصل إليه. ستعرفه من وجهه وعينيه أكثر مما يظهر لك فى صوت ألمه. لأن الوجه أصدق فى الإنسان من صوته. وقد يكون المريض كثير التأوه فيما لا ألم منه أو فيما فيه ألم ضعيف، أما الوجه فلا يتغير إلا حين يكون الألم مستحقا لك.

وتذكر قول طاغور: «إننا لا نحسن الإصغاء إلى الطبيعة ولا إلى الألم». مريضك آخر من يستطيع الإصغاء إلى ألمه. الألم أكبر صارف عن الإصغاء، يخالط كل الأصوات فيفسدها ولا تكون كلماته مميزة بينها.. ضجيج، ضجيج قوى.

صوت الألم كصوت كل لغة، تعرفه حرفا حرفا ثم كلمة كلمة ثم جملة جملة. لا تجرب أن تقرأ كثيرا منه وأنت لم تتعلم حروفه كلها. وإياك أن تسكته ولم تعرف بعد ما يريد قوله، لأنه لا يغفر ذلك أبدا.

الألم، أول عهدنا بالحياة. لولا صراخنا فى تلك الساعة، لولا الألم الذى حملنا على هذا الصراخ، لم يكن للهواء أن يخط حرفه الأول فى صدورنا. ما كنا لنسمى أحياءً أبدا. ألمٌ كأنه بقية من ألم أمهاتنا انتقل إلينا مع ما انتقل من غذاء ودم. ألم صغير إذا ما قورن بألمهن. لكنه وبنسبة الجسد إلى الجسد، ألم قوى.

هذه الحياة كتب علينا فيها أن ندخلها متألمين، مُآلمين.

من أين يأتى الألم:

حق على من كُتب عليه أن يولد متألما مؤلِما أن يبحث عن سر ارتباطه هذا، عن قيمته، عما يخفيه وراءه!!

يعرفه صديقا أم عدوا؟ وفيا أم خائنا؟ محييا أو قاتلا؟ يعرف كيف يقف أمامه، كيف يصحبه. متى يمتن له ومتى يغضب منه.

أعصابنا التى تحمل لنا عذوبة الماء ولذة الحلوى سُكْر القبلة ونشوة العناق هى هى من تحمل لنا قلق الألم واضطرابه. للألم مستقبلات خاصة تستشرفه من بعيد، تنتشر تحت الجلد وفى الأغشية المبطنة لفتحات الجسد وفى العضلات والمفاصل. تقرأ التغير فى كل شىء حولها، الحرارة والسعة وكيمياء الجو المحيط. ولها حدود تحفظها، تعلن بعدها رسائلها. تسمى حدود الألم.

حدود الألم لا يتشابه فيها الناس. فإبرة واحدة يمكنها أن تجعل رجلا يبكى من الألم. ويبقى آخر بألم ضرسه لا يبدو منه إلا اضطراب وجهه الصامت. كثرة التنبيه وتقارب مساحات الآلام يجعل حدود الألم تنخفض تدريجيا؛ فما لم نتألم منه فيما سبق قد يجعلنا ننهار حين لا يبقى فينا موضع لاحتمال.

كلمات أصدقائنا العابرة التى قد تحمل فى بعض صورتها شيئا من «ألم» لا نلتفت إليه عادة قد تكون كافية فى لحظة «انخفاض» وحاجة، لأن تهدم كل شىء بيننا. هدمٌ غايته الحفاظ علينا. لا يمكن لأجسادنا ولا نفوسنا استيعاب كل الأشياء حولها مرة واحدة على الدوام. لم نخلق لهذا ولن نستطيعه!!

●●●

يُعرِّف العلماء الألم بأنه «شعور سلبى بعدم السعادة يُعجز المريض عن القيام بعمله المعتاد». والأطباء يرونه علامة على اختلال التجانس فى الجسد الحى وعلى وجود قوة تحاول اجتياز حدوده وتهدده بالخطر. فالجوع والجراح وفقد الأحبة وخذلانهم، وإن اختلفت هيئاتها؛ فكلها قوى تجتاز بهذا الجسد الضعيف حدود طاقته وتخرج به عن تجانسه.

يولد الألم فى أكثر أحواله غريبا ضعيفا، كألم الالتهابات. يستشرف ما حوله. يمد يده مرة ويرفعها. فإن آنس إهمالا وانصرافا عز ذلك عليه؛ ومن ثم يعود قويا قد عرف أين يضع يده ليظهر ويلفت الانتباه إليه. وقد يأتى من ساعته الأولى مندفعا كأنما يهرب من خوف كآلام الحوادث والكسور وآلام الحصوات وألم الخذلان. وقد يأتى الألم ومضة عالية يخف بعدها تماما كأنه ما كان، حين يكون منشؤه من القوة بحيث يقتل العصب الحامل له.

دواء الألم فى زوال سببه، وقد يكون بقطع الطريق التى تحمله. أو بمحو معناه من العقل، فتكون كل كلمات الجملة موجودة صحيحة، يدرك العقل بها أن شيئا ما غير معتاد يحدث، لكنه لا يدرك لذلك معنى. ويكفى غياب المعنى فى صرف الإحساس بالألم.


الوحدة.. ألم

لم يكن الإنسان يوما وحيدا فى هذه الدنيا. فمنذ خلق الله لآدم زوجه حواء «يسكن» إليها. تم له بهذا السكون تجانسه مع كل ما حوله. وكل ما يخرجه من هذا السكون يخرجه من تجانس الحياة وينشئ فيه الألم.

والسكون يتم فى مراحل العمر بأشياء؛ فسكون الطفل فى حضن أمه وأبيه، وسكون الرجل بين يدى زوجة تحبه، وسكون المرأة على كتف زوج يحبها. وسكونهما معا فى حضرة الطفل بينهما. سكون فى سكون. فإن غاب الطفل جُعل سكونهما فى الميزان، فقد يغلب السكونُ الذى يمنحاه معا السكونَ فى حضرة الأطفال وقد لا يغلبه، فيظل بعض الألم فى حضرته حتى يتم بهم.


فى السعادة.. ألم:

وهل تكون السعادة بغيره إلا قوة تدفع الإنسان إلى نهايته. الفرح الطاغى يُعمى إلا عن الاستزادة والطلب، وما لا طاقة للنفس أو للجسد فى استيعابه وتحمله. اللذة الضافية لا عقل لها تنظر به فى حدود الأشياء. ولولا أن الألم حارسنا القابع خلف كل رغبة فيها فرح ولذة، لتهدمت نفوس وأجساد وقلوب تحب الحياة.


العذاب.. الأليم

العذاب هو اللفظ الذى استعمله القرآن لبيان العقاب فى الآخرة، والأليم هى الصفة التى لحقت هذا العذاب لتوضحه. ولفظ العذاب من مادة (ع ذ ب) إذا صفا.. يقال ماء عذب وأيام عِذاب. ولما كان أكبر خوف الناس هو الألم.. كان أقسى العذاب ما فيه ألم.

الله الرحمن حين سمى عقابه اختار له لفظ مادته من الرحمة.. العذوبة والصفاء.. لأن عقابه ليس عقاب الناقم بل عقاب الرحيم..

وكل عقاب لا ألم فيه يفقد قيمته. الألم منبه الإنسان فى طريقه.


رسائل الألم:

لعله يقول فى مرة لا تفعل ذلك مرة أخرى..

ولعله يقول لا تتجاوز حدك..

ولعله يقول أنت حى بمقدار ما فيك من ألم..

لكنه دائما يقول حين ينتهى: لولا أنى أحببتك ما آلمتك..

لنقول له: إنا نحبك يا ألم.. فلا تقسو علينا.

مقالات أخرى للكاتب

ليست هناك تعليقات:

قران كريم