الجمعة، 26 أغسطس 2011

بقلم الكاتب الكبير محمد المخزنجى

شارك برايك يهمنا Feedback Feedback mhassanabo@gmail.com 
maboeleneen@yahoo.com


بقلم: محمد المخزنجي
25 اغسطس 2011 08:53:08 ص بتوقيت القاهرة
تعليقات: 12

ودموع الجُرذان دم

 منذ ثلاثمائة وسبعة عشر عاما بدأ الكشف عن سر الدموع الحمراء، ففى عام 1694 كان عالم التشريح السويسرى «جوهان جاكوب هاردير» يدقق فى فحص محاجر عيون بعض الأيائل التى يجرى عليها أبحاثه، وعثر على غدة خلف العين فى مؤخر المحجر تفرز سائلا دهنيا يتحول إلى قشور حمراء داكنة عندما يجف، فنشر ورقة بحثية عنوانها «غدة دمعية جديدة فى عيون الأيائل السمراء والحمراء»، ومن ثم حملت الغدة فى المراجع الطبية إلى يومنا اسمه: «غدة هاردير»، لأنه كان أول من اكتشف وجودها، وصنفها كغدة دمعية، ومن بعده توالى اكتشاف دقائق أسرار هذه الغدة فى عيون الطيور والزواحف والقوارض وكثير من الثدييات، وهى متميزة وذات دور بارز فى عيون ذات الحوافر والقوارض، خاصة الجرذان، بينما اندثرت فى عيون البشر.

لقد ثبت من الأبحاث العلمية على هذه الغدة عبر القرون الثلاثة التى مرت منذ اكتشافها، أن بها مستقبلات حساسة للضوء تنظم عمل الغدة الصنوبرية التى تفرز هرمون الميلاتونين المنظم للإيقاع الحيوى، وتحديدا تناوب الصحو والنوم، فإفرازه يزيد فى الظلام ويقل مع الضوء، كما أنه ينظم دورات التكاثر الموسمية فى الحيوانات، وله تأثير ملحوظ كمادة مضادة للأكسدة وحافظة لحيوية الخلايا. أما إفراز غدة «هاردير» التى تغمر كرة العين، فهى إضافة لدورها فى ترطيب العين والمساعدة على تيسير حركتها داخل محاجرها، تسهِّل انزلاق الغشاء الرامش على عيون الحيوانات التى بلا أجفان متحركة، وتُعتبر سائلا واقيا من شدة الضوء فى كائنات ليلية مثل الجرذان، وتقوم بدور منظم للحرارة، وتشكل أحد مصادر الفيرمونات أو الروائح الجاذبة والمعتبرة كلغة لدى الحيوانات. أما اللون الأحمر فى إفراز هذه الغدة والتى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما فهى حكاية خاصة، تتفاقم فى ظروف خاصة، وتحمل فى طياتها دلالات خاصة، تبدَّت لى وأنا أتابع وقائع تحرير طرابلس واقتحام قلعة باب العزيزية واختفاء القذافى وعياله وكتائب إجرامه أمام بسالة الثوار!

إفرازات غدة هاردير التى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما، يعود لونها الأحمر إلى وجود مادة «البورفيرين» فيها، وهى مادة عضوية تشكل جوهر تكوين هيموجلوبين الدم الذى هو «فيرو بورفيرين»، أى بورفيرين يحتوى فى قلبه الجزيئى على أيون الحديد. فليس تصور عيون الجرذان عندما يغزر فيها هذا الإفراز ببعيد عن الإحساس بأنها تبكى دما، خاصة عندما نعرف الظروف التى يغزر فيها إفراز هذه الغدة لهذا السائل الذى لا تستطيع قناة بين تجويف العين والأنف تصريف فيضانه، فيتكاثف الفائض حول العين كدم أحمر قاتم، وتقوم الفئران بمحاولة مسحه بقوادمها فيتلطخ فراؤها بالبقع الحمراء وتصطبغ باللون القانى مخالبها!

هذه الدموع شبه الدامية فى عيون الجرذان تفيض وتصير واضحة جدا ولافتة فى ظروف الشدة، ومنها : الحرمان من النوم، ومعاناة الجوع والعطش والآلام، خاصة آلام المفاصل! وكذلك الخوف!. فهل نتصور القذافى وعياله السفلة خارج هذه الدائرة من الشدائد والتعاسة والبؤس، وهم يهربون عبر الأنفاق تحت أرض قلعة العزيزية إلى المجهول؟ رعبا من فتك الشعب المجروح والمقروح بهم، وخوفا من قفص محكمة الجنايات الدولية الذى ينتظرهم لقاء جرائمهم ضد الإنسانية المتمثلة فيما ارتكبوه ضد شعبهم من مذابح. هذه المحكمة التى عندما سُئل عنها قبيح الخلقة والخلق «زيف القذافى» فى الشريط المدسوس قبل سقوط قلعة أهله، أشاح متبجحا يقول: «طظ فى المحكمة الدولية»!

لقد سمَّى القذافى المنتفضين على نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من القهر وشطحات الجنون وتبديد ثروة الأمة والعربدة على حساب الحاضر وأجيال المستقبل وتكميم الأفواه وإذلال النفوس: «جرذان. جرذان»، وها هى إرادة الله وحكمة التاريخ تجعل مصير القذافى وأولاده المتوحشين والمتعجرفين والكذبة مثل أبيهم، يصيرون بالفعل فى موقع الجرذان، يمضون تحت وطأة شدة ساحقة، مطأطئين داخل أنفاق مظلمة أو معتمة إلى حيث لا يقين لهم ولا أمان يركنون إليه أو نجاة يثقون فيها. كائنات بشرية مخضبة الأيادى بدم الأحرار والأبرياء وملوثة بما سرقت وما نهبت مما لا يحق لها ولا يجوز. يتسللون فى متاهات العتمة كما جرذان بشرية، تبكى عيونها ندامة بلون الدم حتى وإن كانت لا تدمع.

لقد كان جنون العظمة وهو ينفخ الطاغية بالهواء الفاسد والهباء، يبديه لنفسه وفى عينى مرآته ومنافقيه فخما وضخما، ملك ملوك قبائل قارة الإنسان الأول، وقائد عالمى، بينما الحقيقة التى كشف عنها سقوط قلعة باب العزيزية وهروبه المشين، أنه مجرد جرذ بشرى أخضعه رعب المصير لأن يستسلم لحقيقة ضآلته فى نهاية المطاف، بينما كان من اتهمهم بأنهم جرذان، ينظفون بنايات القلعة وحدائقها بأسلحتهم المتواضعة وبسالتهم الهائلة، فتنكمش مدرعات كتائبه وتختبئ الصواريخ وتزول ألوان صوره المزركشة وكتبه الخضراء البلهاء، وعلى غراره مضى أولاده الذين كانوا يدركون وضاعة حقائقهم فيتحايلون عليها بالانتفاخ مثل أبيهم، لكن ليس فى أزياء ملك الملوك وديك الديوك وطاووس الطواويس، بل فى التسلى باقتناء النمور والأسود!

شىء عجيب ويدعو للتساؤل والبحث فى علم النفس المرضى: لماذا هذه الهواية بالذات فى اقتناء وترويض الوحوش لدى أبناء الأباطرة والطغاة؟ عدى صدام حسين كان مولعا أيضا بتربية الأسود! وكأنهم كانوا لا شعوريا يقومون بحيل نفسية تزيح عنهم الشعور بحقيقة الوضاعة وعتامة الفراغ والافتقار إلى أية جدارة حقيقية فى أنفسهم، فيوهمون أنفسهم بالقدرة على إخضاع الوحوش. لكنهم لم يكونوا حتى فى هذه يجرؤون على التمشى مع نمر مربوط أو أسد مكبل، بل يقفون عند حدود المنظرة بتلعيب الأشبال والجراء تحت عيون آلات التصوير! غيرهم من أبناء الطغاة كان يعوض شعوره بالنقص والخلو من كل موهبة وأى جدارة، بتقمص ملامح الخيلاء والتمنظُر بصولجان النفوذ والتطاول بأرقام الفلوس! فمن الجرذ اليوم؟

من الجرذ؟ والجرذان هى أدنأ الثدييات طباعا وسيرة، ناقلة براغيث الطاعون وقمل التيفوس عبر أوبئة التاريخ، وسارقة ثلث ما تنتجه البشرية فى البلدان الفقيرة من طعام، والتى تأكل لا لتغتذى وتشبع بل لتبْرُد أسنانها الأمامية حتى لا تواصل النمو فتعجز عن إغلاق أفواهها وتموت بأفواه مفتوحة. كائنات بشعة فى مملكة الحيوان قاطبة، تأكل صغارها إن جاعت، وتفترس إخوتها وأبناء نوعها إن عنَّ لها ذلك. كائنات وسخة فى عرف البشرية دون منازع، لهذا أوَّلت البشرية دموعها الضاربة إلى الحمرة بأنها بكاء بالدم. فما بال البشر الذين قادهم نهمهم وغرورهم وعبادتهم للسلطة والتسلط ونسيان الحق والعدل وكرامات الناس، إلى مصير البشر الجرذان؟

ثلاثمائة وسبعة عشر عاما مضت منذ كشف عالم التشريح السويسرى هاردير عن تلك الغدة فى محاجر عيون الأيائل التى تفرز ما يشبه دمعا دمويا تفيض به العيون خاصة عيون الجرذان، وخمسة شهور مرت منذ أطلق القذافى وصف الجرذان على أحرار شعبه عندما انتفضوا يرفضون قهر نظامه، واثنان وأربعون عاما من حكمه المتسلط والمستهبل والمستهتر واللئيم والكاذب والفاسد انصرمت بعد الجثوم الطويل الثقيل على صدر هذا البلد الطيب أهله. وها هى الأنفاق تحت أرض باب العزيزية تُظهِر من الجرذ اليوم؟ ومن تبكى عيونه، بدلا من الدموع دما من الندامة والمهانة وخسران الغرور وسفاهة الطمع؟

فمن الجُرذ اليوم ؟

لا يُراقصون النيران

 تنذهل العيون وهى تشاهد العشرات من هذه العظايات طويلة الذيول التى تشبه السحالى تراقص النيران فى المدافئ فى برد شتاء الشمال الكابى الطويل الثقيل، تظهر كأنها تنبثق من ألسنة اللهب وتمور فى قلبها وفى قلبها تذوب ثم تختفى لتستقر أسطورتها فى حكايا الشماليين، عن العظايات عاشقة النار التى تولد من النار وتختفى فى النار، ولا يدركون سرها إلا متأخرا عندما تهدم المعرفة خرافة الأسطورة، وتكشف عن واقع أسطورة أخرى حيَّة فى قلبها، وتظل الدهشة ثمِلة بأعاجيب الحياة والكائنات.

إنه السمندل مرة أخرى، أو السمندر، أو السلامندر، لكنه ها هنا سمندر النار «salamander Fire» كما تسميه بعض المراجع العلمية ناهيك عن كتب العجائب والغرائب، بل إن كتب التراث العربى لم تفوِّت الإفتاء فى أمره، فسماه الجواهرى «السندل» وابن خلكان «السمند» وقالا إنه طائر! وقال عنه الدميرى صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى: «من عجيب أمره استلذاذه بالنار ومكثه فيها وإذا اتسخ جلده لا يُغسل إلا بالنار، وهو دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل يُنسج من وبرها مناديل إذا اتسخت ألقيت فى النار فتنصلح ولا تحترق»، وزعم آخرون أنه «طائر يبيض ويفرخ فى النار»! أما القزوينى فاكتفى بالقول «إنه نوع من الفأر يدخل النار»!

وإنه لسمندل، مجرد سمندل بائس من طائفة البرمائيات لا وبر له ولا ريش ولا يولد من النار ولا يرقص فى النار لكن ألسنة النار هى التى تلحق بأذياله كضربات قدر ينجو منها بأعجوبة من أعاجيب ضعفه وتعويضات هذا الضعف التى حباه بها خالقنا وخالقه الرحيم، فهذا البرمائى الضئيل الذى لا تتجاوز أقصى سماكته عند رأسه المدوَّر عن سماكة إصبع، ولا يزيد طوله على شبر بما فى ذلك ذيله المستدق الطويل، هو ككل السمندلات، يتزود جلدها المتغضن بغدد تفرز رطوبة لزجة تصطاد ما تيسر من أكسجين الجو وتذيبه فى قوامها وتنقله إلى داخل هذا الكائن من ذوات الدم البارد، أى التى تتغير درجة حرارتها الداخلية مع حرارة ما يحيط بها، تبرد إن بردت، وتسخن إن سخنت، لكنها قطعا لا تحتمل تطرفات برد الثلوج ولا سُعار حرارة النار!

كل ما فى الأمر أن هذه الكائنات الضعيفة عندما يباغتها برد الشمال القارس تبحث عن مخابئ تتوارى فيها من عصف الرياح الصقيعية وانهمار الثلوج اللادغة، ويتواكب أن تجد بعض مرادها فى كتل خشب الأشجار القديمة التى قطعها البشر وخزنوها فى أكواخ بجوار منازلهم، فتسارع هذه الكائنات بالاختباء فى شقوق هذا الخشب القديم، وعندما يُلقِم البشر مدافئهم بقطع الخشب وتشتعل، تقع الواقعة على أجساد هذه الكائنات الضعيفة، فتفر من الشقوق لتجد نفسها فى لهيب النار، لا تُراقصه ولا تُعاقصه، بل تبحث مذعورة حائرة متخبطة عن سُبل للهروب، فتبدو لعين البشر راقصة فى النار!

وهى لا ترقص فى النار، بل تحتمل جحيمها ملسوعة متقافزة حتى تنفتح لها أبواب الرحمة، وتنشط إفرازات الرطوبة اللزجة من غدد جلدها بغزارة استثنائية، فتعزل عن الأجساد الهشة هول السخونة والحرق حتى تتمكن من الهرب عبر مداخن المدافئ، وتظن أبصار البشر كليلة البصيرة أنها اختفت فى النار كما ظنتها من النار جاءت!

«ليست معجزة، لكنها قوانين لم تُكتشَف» هكذا تقول الحكمة الصينية عن الخوارق، ولا شك أن هناك خوارق فوق مستوى الإدراك البشرى، لكن المعرفة فى عميق إدراكاتها لا تبعدنا عن الإيمان بمعجزات الخلق، بل تقربنا من اليقين فى قدرات الخالق وتهدينا إلى التواضع ونبذ الكِبر، ثم إننا يمكن أن نقرأ عبر سطورها رسائل مهمة، سواء بالاتفاق أو المخالفة، وإننى لأقرأ عبر أسطورة هذا الصغير الضعيف الناجى من النار بيد القدرة، واقعا غريبا لطائفة من البشر مولعة بالرقص فى النار بالمعنى المجازى لأحوالهم النفسية. بشر تفتقد نفوسهم الطمأنينة برغم ما يبدونه من مظاهر الاستقرار والتوازن ورسوخ اليقين، وهم عِوضا عن أن التماس موارد الطمأنينة ليرتوا منها فتطمئن نفوسهم، يسعون بوعى أو بلاوعى إلى بث عدم الطمأنينة فيما حولهم. وهم فى تسعيرهم لنيران القلق هذه، لا يتورعون عن التلويح برايات تشنجاتهم مستخدمين فى ذلك كل مزاعم احتكار الصواب، سواء كانت دينية متعصبة أو دنيوية متخشبة.

نحن فى لحظة وطنية حرجة بالفعل، وهى تستتبع الانتقال من إيحاءات الأمثولة إلى صريح الرأى، فمن أمثولة سمندل النار هذه نستبين نوعا من البشر لديهم ولع حقيقى بالرقص فى النيران، نيران المعاظلة والعنف فى القول أو الفعل، وتسعير الخلاف حيثما حلوا، لأنهم لا يطيقون اختلافا معهم أو عنهم، فهم طاقة استبداد وتسلط فى نهاية الأمر. ومن العجيب أنهم يخرجون كما سمندل النار من الشقوق، شقوق عتامة تطرفاتهم الفكرية وتأويلاتهم الجانحة، سواء كأيديولوجيا سياسية أو ادعاء دينى، وبرغم التباين الشاسع بين مظاهرهم ومخابرهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلا أنهم ينطوون تحت التركيبة النفسية ذاتها، تركيبة المتعصب، المتيبس، الجامد، الذى لا يشع طمأنية ولا يعكسها لأنه لا يمتلكها ولا يسعى لامتلاكها. وهؤلاء هم وقود فتنة التاريخ، وفتنة لحظتنا الحاضرة.

لقد هممت بأن أذكر نماذج من هؤلاء وأولئك من مدمنى الرقص فى نار الشقاق والتكاره، لكننى اهتديت إلى سبيل آخر لنبذ هذا السوء، لا بتحديده ورفضه، بل بالإشارة إلى نقيضه وتثمينه، ونقيضه بشر أسوياء جميلين يعرفون حدودهم تحت سماء الله الرقيقة الرحيبة التى نختنق ونحترق إن تجاوزنا أجواز زرقتها الخفيفة، ويعرفون حدودهم على أرض ربنا التى لا نحيا على سطح ألواحها التكتونية الواهية العائمة على جحيم من صُهارة إلا برحمة من لدنه، ومن ثم تجد فى هؤلاء البشر الجميلين المتواضعين رحمة بأنفسهم وبأوطانهم والناس، كل الناس. وتجد فيهم تسامحا، وأفقا سياسيا واجتماعيا ودينيا ودنيويا رحيبا، وأذكر منهم على سبيل الأمثلة لا الحصر: مجموعة الشباب العذب ممن يُسَمَّون «سلفيو كوستا» فى انفتاحهم وتعايشهم المتسامح مع المختلفين عنهم، والدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح فى فهمه الراقى لثقافة ما بعد العلمانية، والدكتور عبدالجليل مصطفى وموازنته المسئولة عن حدود الاحتجاج ومراعاة المخاطر الوطنية والصالح العام للأمة، وكثيرين من شباب الإخوان وبعض كبارهم، كما كثيرين من شباب اليساريين والليبراليين وبعض كبارهم، وليس أخيرا كل هؤلاء الذين يقبلون الخير أنَّى كانت مصادره كما فى مسألة الاتفاق على مبادئ عامة لدستور جامع لكل أبناء الوطن الواحد، ناهيك عن الأغلبية الساحقة من المصريين الوسطيين بطبيعتهم، من كل الطوائف والمشارب والطبقات، الذين امتعضوا من تلويح رايات قلة شيوعية بلهاء فى الميدان، وفزعوا من تشنجات وهتافات تعصب وعدوانية غُلاة الوهابية فى الميدان نفسه.

متى نصل إلى حقيقة أن مدمنى الرقص فى جحيم الأنفس مفتقدة الطمأنينة بكل ألوانهم واشكالهم ومقولاتهم وراياتهم وتعصباتهم وجمودهم ما هم فى بحر الثمانين مليونا أو يزيد إلا قلة، بينما مطمئنو النفوس عاشقو الأنوار من كل الاجتهادات والمشارب كثرة، ومتى ننحى أو نحيِّد قلة مدمنى الجحيم النفسى حتى لا يدمروا لحظتنا ويصادروا الغد، ونفسح المدى لعشاق الضياء، صعودا نحو أفق أفضل وأجمل وأرحم؟

أمامنا الكثير من الخير الذى يتوجب علينا أيها الناس مباشرته والتبكير فى إنجازه، وعدم الإفساح لسخافات المولعين بمراقصة النار حتى لا يُعاق هذا الإنجاز: بناء ديمقراطى فيه الخير لكل الناس، يصون حقوق الإنسان أشرف المخلوقات، ويصون حق المواطنة للجميع كموقف أخلاقى دينى ودنيوى معا، ويضمن تداول السلطة ودولة القانون وِقاء من أى تسلط وسطوة، وهذا يعنى التأسيس لمبادئ دستور جامع اتفق فيه كل الفرقاء على أن تكون المادة الثانية فيه مصونة، كما رحَّب إسلاميون عدول بأن تضاف للدستور المأمول مادة تصون حقوق غير المسلمين . فأين المشكلة؟ وأين فى ذلك فزاعة ما يسميه البعض التفافا على إرادة الأغلبية إذا كان هذا التوافق يصون حقوق الأغلبية كما الأقلية، وسواء بشرت به مسودة مبادئ دستورية أو إعلان دستورى جديد؟!

وبموازاة ذلك البناء الديمقراطى، أمامنا، ودون إبطاء أيضا، الشروع فى بناء نهضوى حضارى، اجتماعى واقتصادى وثقافى تحدياته كثيرة نعم، نعم تحدياته كثيرة وخطيرة بعد كل التخريب والنهب الذى اقترفه (وولداه وعصابة المنتفعين من استبداده وفساده) ذلك النائم اللاهى الآن على سرير طبى فى قفص المحاكمة الأخيرة المشهودة، لكننا نستطيع.

نعم، لو أخلصنا النية ونقينا الإرادة: نستطيع.

بقلم: محمد المخزنجي
11 اغسطس 2011 09:29:28 ص بتوقيت القاهرة
تعليقات: 24

فتنة السمندل

 كلاهما فى الدنيا ضعيف، لا هو سابح من كائنات الماء، ولا هو زاحف من كائنات اليابسة، يعودان إلى أصلهما الماء ليكملا دورة التناسل، فتفقس بيضاتهما شراغف تشبه الأسماك فى عيشها وتنفسها من الخياشيم، ثم تكبر لتخرج إلى البر، فتنبثق فى صدورها رئات، لكنها تكون ضعيفة لا تكفى أبدا لتنفسهما من هواء الدنيا، فيعوضان عجزهما بالتنفس من الجلد، وحتى يحصلا على مزيد من الأوكسجين فلابد أن يكون ذائبا فى الماء، لهذا تظل جلودهما منداة بفعل غدد للترطيب يختصان بها، أحدهما يغادر طور طفولته فيتلاشى ذيله ويصير ضفدعا، والآخر يظل يسحب ذيله بجسمه المستدق المتطاول فيبدو من السحالى، لكنه سمندل، أو سمندر، أو سلامندر!

وهاهما يتواجهان، كمفترس وفريسة، وليس لديهما من أدوات القنص غير لسانين غريبين على غير عادة ألسنة معظم الكائنات، فلساناهما مثبتان فى طرف أفواههما لا نهاية الحلوق، يقذفان لسانيهما المدججين بلزوجة كثيفة وطرف عضلى فيمتد اللسان كأنشوطة لحمية ويختطف الفريسة بسرعة البرق، وبسرعة البرق يعود بها إلى جوف الفم الذى لا عظام فيه، فتُبتلَع بلا مضغ لتهضمها الأمعاء. فأيهما سيلتهم الآخر؟

يقف الضفدع مثل هضبة مختالا بحجمه الذى يعادل عشرة أضعاف حجم هذا النوع الضئيل من السمندل، ويثبت السمندل فى مواجهة الضفدع فتانا بلون جلده المرقش بصفرة فاقعة على سواد حالك لامع، تطرف أعينهما البارزة ليس كما تطرف الأجفان، بل لأن كلا منهما يتلمظ للفتك بالآخر، فعيونهما ليس لها محاجر عظمية تستقر فيها، بل هى سائبة تتحرك ما تحرك الحلقوم، فكأن كلا منهما يهدد الآخر: «سآكلك»؟!

«سآكلك» تؤكد حركة عيون الضفدع التهديد، فيرد السمندل بنظرة عينين صغيرتين بارزتين فى سكون متحد: «كلنى»! وبرغم الوعى الموروث فى فطرة الضفدع بما يمثله تزاوج اللونين الأصفر الفاقع والأسود الخالص من نذير، إلا أن السمندل يفتنه ويطيح بحذره، وبسرعة البرق ينقذف لسان الضفدع مثل حربة لحمية فيختطف السمندل ويلقى به فى الفم الكبير لينزلق إلى الجوف المظلم. تبدو المواجهة قد حُسمت، لكن هيهات!

بعد دقيقتين يتقبض جسد الضفدع لا تقبض جسد مُتخَم يهضم صيده، بل تقبض عاصفة تحرق جوف هذا الجسد، ثم يسكن سكون الموت بفم مفتوح، وإذا بترقيط اللونين الأصفر والأسود يطل من فم الضفدع الميت، وها هو السمندل يخرج سليما حيا من جثة غريمه. فلم يكن السمندل منذ البداية يقف موقف المواجهة مع الضفدع، بل يتخذ هيئة الفتنة، يغويه تحت ستار التحدى هاتفا: «ابتلعنى»، فابتلعه، وكلاهما كانا مطمئنا إلى مكمن قوته، الضفدع يثق فى كبر حجمه النسبى ورنين نقيقه العالى، والسمندل يثق فى فتك ما يضمره جلده من سم، فجلد السمندل شديد التجعيد يخفى غددا سامة سرعان ما تنشط مع بدء عصارات الهضم اللاذعة فى جوف الضفدع بالعمل.

يموت الضفدع مسموما فى دقيقتين بينما السمندل فى جوفه يتحرك، وها هو السمندل فى الدقيقة الثالثة يخرج خروج الحى من الميت مزهوا بنصره، لكنه لا يكون إلا نصرا فاتنا وزائلا!

لا أعرف لماذا وجدت سيرة السمندل تطاردنى هذا الأسبوع، ربما لأنه كان أسبوعا أحسست فيه بوطأة الفتنة من حولنا، بكل ما تنطوى عليه كلمة الفتنة من معانى، فالفتنة تتضمن معنى الإعجاب والاستهواء والتوله، كما تعنى الابتلاء والاضطراب والضلال، والشيطان فتان، والوسواس فتان الصدور، وفى السمندل كل ذلك، لكن فتنته ليست إلا نتيجة ضعفه الخلقى، فمن أين أتتنا الفتنة التى شعرت بها ثقيلة رذيلة هذا الأسبوع، حتى إنها ألجأتنى إلى العود لتأمل غرابة المخلوقات لعلى أفهم غرائب البشر.

لماذا انحدرنا إلى هذا الأداء المشوه بعد أن أنجزنا ثورة تاريخية فاتنة بكل معانى فتنة الجمال؟ لا سبب أراه عبر تأملى لفتنة السمندل، إلا أننا ابتُلينا بمن يُفتتَن بيننا ببوارق القوة لا أنوار الحق، والقوة حين تسبق الحق وتعتليه تصير مثل ثقة السمندل فى قوة فتك السموم فى جلده، ومثل غرور الضفدع فى قوة حجمه مقارنة بحجم سمندل ضئيل. صحيح أن السمندل قتل الضفدع الذى شرع فى قتله، لكنه كان قتل قريب لقريب، وهو خرق لسلامة الفطرة ينذر بسوء العاقبة للجميع!

الآن أتصور أن الفارق الحاسم بين مجتمعات البشر الأرقى ومجتمعات الكائنات الأدنى يكمن فى أن الديمومة البشرية تغذيها روح التشارك والتعاون والتآلف، سواء بإلزام القانون الذى لا يعرف الاستثناء، أو بروح التحضر المتجذرة فى الأعماق، أو بكليهما معا، ليستقر فى النهاية «سلم أهلى» لا غنى عنه لاستمرار ونماء هذه المجتمعات. أما فى كائنات البرارى والغابات والأحراش، فثمة قانون آخر يتسق مع محدودية أدوات الفتك لدى هذه الكائنات، فأشد أنواع الأنياب والمخالب دموية، تظل فقيرة بائسة إذا ما قورنت بما ابتدعته قريحة الإنسان من أدوات الفتك وأسلحة الدمار وفخاخ المكر.

كائنات البرية الأدنى تخرج كل صباح أو كل مساء لتبحث عن فريسة تتغذى بها، فيما تكون هى نفسها عرضة للافتراس من وحش أكبر. ليس ثمة مفاضلة هنا بين الحق وبين القوة، فالقوة هى الحق الذى ينظم مسيرة البرارى والغابات لأنها فى النهاية قوة محكومة بتدبير إلهى أعلى، ومنظومة فى دائرة من نقاط يكمل بعضها بعضا، ومن ثم لا يحتاج النمر أو الغزال أو الأفعى أو البعوضة أو العصفور أو الدودة ميثاقا يرسم الحدود الفاصلة بين تضارب الرغبات، لأن الرغبات نفسها محدودة بقانون الاكتفاء الغريزى، فالأسد لا يفترس غزالا وهو شبعان، حتى لو كان فى مرمى مخالبه أو أنيابه، والغزال يعرف ذلك، وأشهد أننى رأيت فى غابة «إيتوشا» سربا من الغزلان يجاور عائلة من الأسود حول بركة الماء، يرتويان معا فى حالة من «السلام الاجتماعى» العجيب، لأن الأسود كانت مشبعة بوجبة من جاموسة برية التهمتها لتوها وهى لا تريد المزيد حتى لا تهلكها التخمة، غريزتها تنبهها إلى ذلك وهى تمتثل للتنبيه، والغزلان بدورها تشم رائحة شبع الأسود فتطمئن، وترين على الغابة هدنة فطرية تصون استمرار الحياة فى مجتمعات قانونها «إما آكل أو مأكول»، قاتل أو مقتول!

الآن أتصور أننى فهمت سر هذه الفجاجة التى تصطخب هاهنا بعد أن بلغنا ذروة من الرقى البشرى جسدتها أيام الميدان البكر وقواه الباسلة النقية الأولى، فقد كان هناك فى أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة إعمال لقانون الحق فوق القوة والانتصار للمجموع لا للذوات، سواء الذوات الفردية أو العصابية أو التنظيمية، لكننا انحدرنا إلى فظاظة طلب القوة قبل الحق، بل طلب القوة بغوغائية ومكر أسخم من سم السمندل المخبوء فى جلده. فتنة بدأتها قوى كانت واقعيا ضد الثورة، وانساقت إليها بعد ذلك قوى تفانت صادقة فى صناعة الثورة!

إن مشهد فتنة السمندل حيث الاستقواء بين قريبين بالحجم فى جانب وبالمكر فى جانب آخر، لا يعلن انتصارا نهائيا لطرف على طرف، فمثل هذا الخرق لقوانين الفطرة لا يمر دون عقاب شامل، فالسمندل سرعان ما يلتحق بمصير الضفدع، لأنه وقد فتنته قوة السم فى جلده، يظن أنه يستطيع إغراء أى كان بابتلاعه ليقتله بسمِّه، لكن هذه المعادلة تخيب عندما يفتن السمندل حية رقطاء فيغيب فى جوفها لتهضمه بكل ما فيه من سموم وغيوم!

هناك فى مصر الآن من يصر على الفتنة، وما دامت سوية الفطرة تتراجع أمام ادعاء الغلبة بالكثرة أو الارتكان إلى فعالية السموم المُضمَرة، وكلها أنماط من تسييد القهر بالقوة، فلابد من إحقاق الحق بتعاهد توافقى لا يزدريه إلا ظالم. تعاهد على قيم جامعة وحاكمة بالحق الذى يرتضيه الإنسان والرحمن، ولا أظن حق الموطنة وحقوق الإنسان وضمان تداول السلطة وديموقراطية الدولة المدنية الحديثة الطامحة للعدل والحرية والنهوض إلا مسالك إنسانية لا تجافى الفطرة، وتنجينا من شر المهالك.. مهالك فتنة اللحظة، وشتات المستقبل.



بقلم: محمد المخزنجي
4 اغسطس 2011 09:23:00 ص بتوقيت القاهرة
تعليقات: 20

اكلو الجبـــس

 رواية الكاتب اليونانى العالمى كازانتزاكس «المسيح يُصلَب من جديد» (وأرجو ألا يتمطع مُتنطِّع ويحاسبنى على عنوان الرواية)، تحكى عن قرية منسية شديدة الفقر لا تتميز بشىء سِوى حفل دينى سنوى يُعيد فيه أهل القرية تمثيل أسبوع آلام السيد المسيح وعشائه الأخير والخيانة التى تعرض لها من يهوذا الاسخريوطى الذى وشى به لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة ثم ندم على فعلته ورد المال لليهود وقتل نفسه.

لقد اجتمع أعيان القرية وخورى كنيستها لاختيار الأفراد الذين سيقومون بدور الشخصيات فى هذه التمثيلية، فلم يجدوا مشقة إلا فى تحديد من يقوم بدور يهوذا، ووقع اختيارهم على سروجى القرية «بنايوتى آكل الجبس»، لكنه رفض هذا الدور عندما استدعوه لأخذ موافقته وظل يكرر بهلع «خائن للمسيح؟! أنا؟ كلا.. كلا»، وانتهى التفاوض بفرض هذا الدور عليه، وسرعان ما صار موصوما فى القرية باسم «يهوذا»!

بنايوتى هذا كان شخصا بسيطا فطريا تماما، ضخم الجثة وخشن الهيئة وجلفا على نحو ما، لكنه فى قرارته كان طفلا كبيرا نقى السريرة خاليا من كل مكر، وعاشقا متيما بحب أرملة سيئة السمعة لم تكن تبادله الحب وتتلاعب به، بينما هو مثابر على حبها واعتبارها قضية حياته، وفيما كان سادرا فى هذا الحب الأخرق، لم يكتشف إلا متأخرا كيف أنه كان يتحول فى أذهان أهل القرية إلى «يهوذا» فعلى، حتى إن شعره الأحمر اعتبروه مطابقا لهيئة شيطان تحوطه هالة من نار!

كانوا يشيطنونه، وكلما اكتشف شيطنتهم له، يزداد قسوة وخشونة وغلظة فى التعامل معهم، بل إنه تقمص دور يهوذا بلا وعى، وصار يعتبر أن أعدى أعدائه هم الذين وقع عليهم الاختيار ليقوموا بدور المخلصين الأخيار فى التمثيلية، لأنهم قبولهم لعب هذه الأدوار تعارض مع دور الخائن المفروض عليه، إنما كانوا يسهمون فى تحقيره ويرسخون يهوذيته، فصاروا فى عرفه شياطين، وصار خيرهم شرا عنده!

ما حدث لبنايوتى آكل الجبس يكاد يكون موحيا ببعض ما يحدث لجماعتنا الوطنية فى الفوضى الأخيرة، حيث لم يعد هناك تبيُّن للحق أو الباطل بتجرد فى ضوء المصلحة العامة للأمة، بل صار حكم كل فريق على غيره نابعا من موقع التربص أو التربص المضاد، ومن ثم غامت المعايير وصار من ليس معى فهو ضدى، ومن كان ضدى فهو شيطان، وفى هوجة هذه الشيطنة راح كثيرون يخالفون حتى ضمائرهم فى الأحكام الموضوعية على الآخرين، وصار الدمغ والتلطيخ سهلا ومجانيا، واستشرى الافتئات بسطحية أو بانتهازية «اللى تغلب به العب به»، لتشتعل حرب باردة يمكن أن تنفخ فيها أى ريح لتتأجج، لا لتحرق الفرقاء فى حومة هذه الهوجة وحدهم، ولكن لتحرق وطنا يجفف التلهِّى عروقه حتى توشك أن تنقلب قشا ينتظر شرارة الحريق!

إن لحظة تجرُّد واحدة فى النظر إلى ما جرى فى الفترة الأخيرة ببصيرة لا يزيغها التحزب أو التعصب أو الهوى والميل، تكشف عن وباء «التعميم فى التجريم» الذى انزلق إليه معظم فرقاء الساحة السياسية المصرية الراهنة، فالليبراليون ودعاة الدولة المدنية صاروا فى عيون خصومهم دعاة دولة بلا دين ولا أخلاق بل تطور الأمر إلى دمغهم بأنهم دعاة إباحية وفجور علنى. وفى مقابل هذا الافتئات على الليبراليين نرى افتئاتا بديلا من بعض الليبراليين يعمم أن «كل» الإخوان استئصاليون ومخادعون وطلاب سُلطة دينية. أما ادعاء أن «كل» السلفيين مشاريع إرهابية ودُمى تحركها مليارات أو ملايين السعودية، فهو تعميم مضلل لا لجموع الناس بل حتى لمن يرون فى هذا التوجه مخاطر كامنة، لأنه ينحرف بهم عن التقييم الصحيح للظاهرة وآليات التعامل معها. ولا يمكن أن نغفل فى هذا السياق جنوح النقد للمؤسسة العسكرية واستفزاز الهتافات اللامسئولة ضد رموزها وأدوارها المُتخيَّلة أو الافتراضية عند البعض. كما لا نغفل عن تلطيخ بعض منتسبى هذه المؤسسة للحركات الشبابية والمقاومة كـ«6 أبريل» و«كفاية» واثنين من المرشحين للرئاسة لم يتم تحديدهما!

هوجة تجريم وتأثيم وتلطيخ وشيطنة وتعميم اندفع فى ساحة وغاها كثيرون من كل أركان الجماعة الوطنية، والنتيجة ليست فقط شق صف قوى الثورة وتوهين تماسكها، بل التحشيد الغوغائى الذى لا يخدم قيمة حقيقية ويفشى حالة التسيب والاستباحة الأمنية، وهو أمر غاية فى الخطورة وغير أخلاقى بأية معايير دينية أو دنيوية سوية، لأنه فى النهاية إما أن يحرق وطنا تكاثر فيه الهشيم، أو يفوِّت على هذا الوطن فرصة نهضة صارت ضرورة إنقاذ لا خيار ترف.

لقد قرأت رواية «المسيح يُصلب من جديد» فى أولى سنوات الجامعة، لكننى عندما عدت إليها مؤخرا اكتشفت فيها أبعادا كانت غائبة عن رؤيتى الأولى البعيدة، وكما أن عملية الإبداع الأدبى يحدث أن تتجاوز حدود رؤية الأديب، كذلك القارئ يمكن أن يقرأ فى العمل الأدبى أبعادا لم تخطر على باله من القراءة الأولى، فمن وصْف كازانتزاكس لتاريخ بنايوتى الجارى على الألسنة فى موضوع رهاناته وأكله لتماثيل الجبس، نتبين أن بنايوتى يُفترَض أن يكون قد التهم أطنانا من الجبس تكفى لسد أمعاء قبيلة أفيال كاملة، فهى مبالغة هدفها فضح أكذوبة الأسطورة وكشف تهافت صانعيها.

كما اكتشفت فى القراءة الجديدة للرواية أن الكاتب أراد ولو بشكل لا شعورى أن يُعرِّى مسخرة هذه القرية الضائعة التى يملأ سكانها فراغ وقتهم وخسة إرادتهم بالتلهى والتسلى الوحشى ببعضهم البعض حتى لا يتجشموا عناء تغيير البؤس الذى يعيشون فيه وتبديل المهانة التى تحيط بهم فى ظل والٍ غريب الأطوار ينهبهم ويزدريهم ويتسلط عليهم، وأعيان خانعون لمشيئة هذا الوالى بينما هم يتسلطون على مواطنيهم فى الوقت نفسه. فهى حالة «صياعة» شاملة لقرية تدور فى حلقة مفرغة من الخفة الدميمة والعبث التافه.

إننى أحس أن هذه «الهوجة» التى نعيشها، هى ابنة منحرفة لحالة «صياعة» كبرى لجماعة بشرية لا تدرك أو لا تريد أن تدرك حجم التحديات التى أورثها إياها نظام ساقط نخر سوسه معظم مقومات الدولة والتهم جراده مدخرات قواها على مدى عشرات السنين، وتركها فى حضيض لا سبيل إلى تجاوزه إلا بعمل جاد جدا، وغير قابل أبدا للتأجيل أو التشتيت فى مقارعات سقيمة تشعل حربا باردة بدوافع عبثية، وراجعوا معى جُل ما اشتجر فى الميدان فى الفترة الأخيرة من عشوائية الاعتصام ومجانية الهتافات المتجاوزة والمطالب الشاردة والاندفاعات غير المحسوبة، وأخيرا العدوانية اللفظية والمتعصبة فى مظاهرات جمعة الفُرقة. ولنسأل أنفسنا بصدق: هل يمكن أن تكون هذه سمات بشرٍ تواقين للنهوض علما وفنا وزراعة وصناعة؟

لقد دخلنا ببلدنا فى معضلة حقيقية، لكنها ليست مُستعصية على الحل لو قررنا بإخلاص أن ننبذ كل هذه «الصياعة» المُقنَّعة ونتعاهد على الشروع فى إقامة بلد ناهض، ديمقراطى، يحترم حق المواطنة لأى من مواطنيه، ويحتكم إلى القانون، ويدرأ عن مستقبله أية شبهات فى تسلط حكم أو فصيل أو وجهة نظر أُحادية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدخول فى حالة مصارحة شريفة، لتصحيح الادعاءات، ثم تجاوزها والانتقال بسرعة إلى كل ما هو نبيل ومشترك بين جميع أطياف الجماعة الوطنية، ومن ثم أرانى ضد مفهوم تكوين جبهة للقوى «الليبرالية» كما أرانى ضد مفهوم تكوين جبهة للقوى «الإسلامية»، فكلاهما تكريس لمبارزات لا تحتملها هذه اللحظة الحرجة.

إننى أدعو، وبرغم كل ما ترسب فى النفوس من مرارات، إلى تكوين «جبهة قوى ديمقراطية» يدخل فيها كل من يقر باحترام الاختلاف فى إطار الإتلاف لأجل أهداف النهوض، فى دولة مدنية حديثة تقوم على مبادئ تداول السلطة واحترام كامل حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وعدم انفراد فصيل أو فريق أو أيديولوجيا بصبغ الأمة بصبغة قناعات خاصة أيا كان لونها، وفى هذه الحالة من المُكاشفة والمؤالفة لا أظن أى مخلص شريف يمكن أن يكون ضد أى اتفاقات وقائية للمستقبل تتحاشى التغول والتسلط ومصادرة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان لأى من أبناء هذه الأمة.

إن تضييع الجهد والوقت لا يعنى إلا انخراطنا فى جوقة الصياعة المُقنَّعة والاشتغال بصناعة أساطير آكلى الجبس، حيث لا تكون النتيجة وقفا على انسداد وتيبس قنوات تواصل لحظتنا الوطنية التاريخية، بل تكلس الأدمغة وتكسرها عندما يضرب بعضها بعضا فى مناطحات الضياع! وليحفظ الله أمتنا والعقول.



بقلم: محمد المخزنجي
28 يوليو 2011 08:47:26 ص بتوقيت القاهرة
تعليقات: 18

الانشطار والانفجار

 عام 1934 قام العالم الإيطالى إنريكو فيرمى بتصويب سيل من النيوترونات على عينة من اليورانيوم فحصل على نتائج أثارت دهشته، لكنه لم يفهم كنهها فى حينه. وكان لابد أن تنقضى عدة سنوات من عمل مجموعات بحثية فى بلدان مختلفة لاكتشاف الجنى الذى أطلقه فيرمى من قمقمه، والذى سُمِّى فيما بعد «الانشطار النووى»، وما يتبعه من «تفاعل متسلسل» يمثل القاعدة التى تقوم عليها القنابل الذرية كما المفاعلات النووية. فبقصف ذرات اليورانيوم بسيل من النيوترونات تنشطر نواة كل ذرة إلى أنوية أصغر تكون غنية بالنيوترونات، ومن ثم غير مستقرة، فتطلق الزائد من نيوتروناتها لتستقر، وتضرب النيوترونات الناتجة ذرات يورانيوم أخرى، فيقع انشطار جديد، وهكذا تمضى سلسلة الانشطار مطلقة قدرا هائلا من الطاقة فى صورة حرارة جحيمية وإشعاع قاتل لم يكف الإنسان عن محاولة ترويضهما، وإن ظل الجنى بين الحين والحين يؤكد أن لا أمان له.

يقول أهل الذرة إن التفاعل المتسلسل لابد له من كتلة حرجة من الوقود النووى كاليورانيوم، تضمن توليد نيوترونات كافية تعوِّض ما يُفلت خارج هذه الكتلة وتسبب انشطارات جديدة ليتواصل التفاعل المتسلسل. ولقد بدا لى أن هناك تفاعلا متسلسلا مماثلا يقع فى مصر مؤخرا، ويُنتج طاقة تدمير هائلة حلَّت بمكان طاقة كانت ولاتزال وينبغى أن توجه نحو البناء والصعود، وهى مدمرة لأن قذائفها الطائشة عديمة المسئولية ومتدنية، بعد كل الحكمة الحضارية التى تجلت بها الكتلة الوطنية فى ثورة يناير، فكأن شعبا حل بمكان شعب الثورة، وشركاء تم مسخهم إلى فرقاء، فتكاثرت قذائف الطيش الذى أوحل فيه مسئولون وفصائل وأفراد لم نرهم على هذا النحو أبدا ولا حسبنا فيهم هذه الخفة المؤذية.

يمكن أن نتفهم بواعث المعتصمين فى الميدان احتجاجا على تباطؤ يوحى بالتواطؤ، وغضبا من إهمال لمن لا ينبغى إهمالهم من ذوى الفضل الأول فى هذه الثورة من شهداء ومصابين وذوى شهداء ومصابين. بل يمكن أن نتفهم الإحساس العميق لدى كثيرين من معتصمى الميدان وجلهم من الفقراء بأن ثمة تلاعبا بثورة شاركوا فيها بأرواحهم وكانوا يأملون منها الكثير وبأسرع ما يمكن، لكنها خذلت أشواقهم ولم يحصلوا منها ولو على مجرد الأمل.

ويمكن أن نتفهم حتى الاندفاع فى رفع سقف المطالب وتجاوز الهتافات، لكن من الصعب قبول يافطة مكتوبة بخط ركيك ومثبتة فوق مدخل «المُجمَّع» تقول: «مفتوح بأمر الثورة»، والشىء نفسه فى التهديد بإغلاق محطة المترو، فذلك لا ينم عن أية حكمة «ثورية»، لأنها ببساطة ضد منطق الثوار الذين ينبغى أن يكون أول أولوياتهم اكتساب تعاطف جموع الناس العاديين الذين يشكلون حصن أمان الثورة وجيش دفاعها الجرار فى اللحظات الفاصلة.

أما الانقياد لدعوى الذهاب للتظاهر أمام وزارة الدفاع فكانت حماقة أُرجِّح أن أخساء مأجورين اندسوا بين المتظاهرين، واستدرجوا طيش المراهقة الثورية لدى الكثيرين منهم، فكان فخ «موقعة العباسية»، والكشف عن مشهد مَعيب تصورنا أن زمانه قد ولَّى، لكنه أوضح أن حثالات الأمس لاتزال موجودة وتقدم خدماتها الرديئة متى ما سُمح لها أو غُضَّ الطرف عنها. وكانت برغم ادعائها مناصرة المجلس العسكرى مُهينة لمقامه الذى أشهد أن به رجالا رائعين وطنيا وعقليا وتوجها أصيلا نحو الدولة المدنية الحديثة والديموقراطية، وكانت هذه الموقعة أبعد ما تكون عن رُقى تكوينهم، وكان قطع الطريق على المظاهرة بحاجز الأسلاك الشائكة وصفَّى الشرطة العسكرية والمدرعات عملا صحيحا وواجبا وكافيا أيضا.

لقد تكرر فى موقعة العباسية ذلك المنظر البغيض للشراشيح والبلطجية المأجورين وفرق الكاراتيه المُنظمة التى كانت تنكل بشريفات وشرفاء الوقفات الاحتجاجية فى عز سطوة النظام الساقط على سلالم نقابة الصحفيين وأمام دار القضاء العالى وفى ميادين وسط البلد ومحافظات مصر من منتسبى حركة «كفاية» و«كلنا خالد سعيد» و«6 أبريل» وعمال المحلة. شاهدنا: امرأة ضخمة متوحشة كانت تُلقى بكتل الدبش من فوق سطح أحد بيوت العباسية مغلقة النوافذ مما ينم عن كونها قطعا ليست من سكان البيت.

وأفراد فرق الكاراتيه الغابرة وطريقتهم الشرسة فى القبض على الشباب بعصر الرقاب تحت آباطهم، والسنج نمطية الأشكال التى رأينها من قبل فى أيدى مروِّعى الناس فى أيام انتخابات التزوير. هؤلاء لم يكونوا قطعا من أبناء العباسية فى هذه المنطقة التى يسكنها أصلاء من الطبقة الوسطى المحترمة. وإن كان كل ما سبق لا يُعفى المتظاهرين من المسئولية فيما حدث، على اعتبار أنهم وفروا لهؤلاء الذريعة والفرصة.

صحيح أن البيان المنسوب للمجلس العسكرى مُتضمنا اتهام حركة 6 أبريل بالعمالة وتلقى أموال وتدريب على السلاح من الخارج كان بمثابة تحريض على المتظاهرين، وكان أدنى كثيرا من قيمة وقامة ما يمثله المجلس العسكرى فى انبثاقه عن مؤسسة وطنية عريقة تتميز أعمالها بالدقة ولا تعرف لعبة فُرقة الأمة. وصحيح أن تصريحات بعض أفراد من المجلس العسكرى كانت متهافتة فيما يخص وصم حركة «كفاية» بأنها ليست مصرية وتكرار وتوسيع اتهام حركة 6 أبريل بالعمالة وتلطيخ سمعة اثنين من المرشحين للرئاسة بالتهمة نفسها.

لكن ذلك لا ينبغى أن يُعمى بصيرة أى ثائر لديه حد أدنى من الوعى السياسى بضرورة الحفاظ على تماسك وهيبة المؤسسة العسكرية والمجلس العسكرى، ليس تملقا كما يفعل البعض، ولكن من واقع الإحساس بالمسئولية عن سلامة ووحدة النواة الصلبة الممسكة بكيان «الدولة»، وإلا كنا مستهترين نُلقى ببلادنا فى مصير الصومال وعراق المجرم «بريمر».

أما آخر نماذج قذائف الطيش المُستهجَن فتجلت فى حديث لواء يتم تقديمه بلقب «خبير استراتيجى» خلال اتصال مع المحترمة والجادة والمخلصة، الإعلامية الشابة الموهوبة دينا عبدالرحمن، واتهم فيها كاتبة وإنسانة فائقة الاحترام لا تكتب إلا من موقع صدق هى الأستاذة نجلاء بدير بأنها «مُخرِّبة»! وزعم أن هناك من يعلم مصر الديموقراطية كطفل فى «كى جى»! وكان واجبا مهنيا وأخلاقيا أن ترد دينا عبدالرحمن غيبة كاتبتنا النبيلة وهو ماقامت به بكل تهذيب ووضوح وشجاعة، لتواجَه برد فعل سلبى أستغرب كثيرا صدوره من الدكتور أحمد بهجت الذى أعتبره أحد أفضل رجال الأعمال المصريين حسا وطنيا وطموحا صادقا لنهضة الأمة، وله فضل لا يمكن إنكاره فى إرهاصات ما قبل ثورة يناير عبر جدية قناة دريم خاصة فى برنامجَى منى الشاذلى ودينا عبدالرحمن على امتداد سنوات صعبة، وكلنا يعرف الثمن الباهظ الذى دفعه من صحته مقابل هذا القدر من المقاومة!

فى المفاعلات النووية التى يجرى فى قلبها الانشطار سالكا مسار التفاعل المتسلسل، يحدث أحيانا أن يُفلت هذا التفاعل من محاور التحكُم، وتطيش قذائف نيوتروناته فى فيض متسارع يثير جنون الانشطار ويولد طاقة تهدد بانصهار قلب المفاعل وانهياره وحدوث كارثة نووية. وفى مثل هذه الحالة يكون الحل الحاسم هو إيقاف المفاعل عن العمل لحين إعادة الانضباط، منعا لوقوع الكارثة. والشىء نفسه يمكن تطبيقه على حالتنا التى تكاثرت فيها مؤخرا قذائف الانشطار الطائشة، ليس ممن ذكرت فقط، ولكن أيضا ممن انتهزوا الفرصة ونفخوا صدورهم وأشهروا أسلحة التهديد والتكفير و«تطهير التحرير» نيابة عن الدولة!

انهيار كيان «الدولة» لا ينبغى أن يقبله مواطن لديه حد أدنى من المسئولية الأخلاقية والروحية والوطنية عن بلده الذى يربأ به أن يتحول إلى دولة فاشلة.

وعندى فى هذا اقتراح محدد:

بعد أيام قليلة سيبدأ شهر رمضان الكريم، وعلى كل القوى المخلصة وبعيدة النظر، والعقلاء الشرفاء من مختلف الفصائل والأطياف، أن يتبنوا الدعوة إلى إيقاف كل التظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، واعتبار هذا الشهر هدنة نرى فيها ما يتوجب إنجازه من مطالب الثورة، خاصة إعمال العدالة فيمن أجرموا فى حق الأمة من عصابة النظام الساقط، وتطهير ما تبقى من فلوله وذيوله فى مواقع التاثير والتدمير دون جور ولا مزايدة، وتفعيل أقصى ما يمكن تفعيله من آليات العدل الاجتماعى لصالح الفقراء.

أما المهمة العاجلة الأكبر لهذه الوزارة فى هذه الهدأة فهى استعادة الأمن الذى تنشط فى ظلاله مبادرات الأمة.

إن الانشطارات الطائشة تخلخل تماسك قوى الثورة وتصدِّع بنيان الدولة، وتتيح لأشباح الماضى فرصة جهنمية لإلهاء مصر عن إنجاز نموذج لدولة حديثة ناهضة عادلة ديموقراطية، وكلنا نلاحظ أن ظلال هذه الأشباح صارت تجترئ على الظهور وتطالب بعودة الماضى الساقط بوقاحة، فى المحاكم، وفى الميادين، وبما يوحى بتلقيهم دعما خفيا من كل من يكرهون لنا الخير من أقارب وأباعد!

بقلم: محمد المخزنجي
21 يوليو 2011 08:16:27 ص بتوقيت القاهرة
تعليقات: 21

الحُكم وشياطين أُخرى

 بطل رواية «الحب وشياطين أخرى» لجابرييل جارثيا ماركيز هو واحد من العشاق الذين يفتننى فى الحياة أو الأدب أو التاريخ تماديهم فى الحب والتضحية من أجله بكل ما عداه، حتى لو وصل بهم الأمر إلى الموت حبا. ولدى ماركيز نماذج صارخة من هذا النوع من المحبين، الذين نكتشف عبر السرد البديع لقصص حبهم، أن كل ما ضحوا به من أجل الحب لم يكن خسرانا لهم، بل خلاصا من أشياء يفوز بخسارتها الإنسان.

وقد كان مجنون الحب فى هذه الرواية راهبا، تحدى كل المحظورات المحيطة بموقعه شديد المحافظة، ليشق طريقه نحو حبه دون هوادة، ونكتشف على وقع خطواته الدامية فى درب آلام الحب هذا، أنه لم يخسر سوى أغلال دنيوية اصطنعها شياطين البشر للتسلط على البشر باسم السماء، وأنه بينما كان يكابد صاعدا نحو حبه المستحيل، أخذ إيمانه يصفو وقلبه الذى أرهفه الحب يصير أقرب إلى الله واسع الغفران كريم الرحمات، وأبعد عن كل شياطين الإنس والجن عديمى الرحمة كارهى الحب.

فى هذه الرواية العذبة الوهاجة، عاد ماركيز ببطله العاشق إلى مرحلة مبكرة من عمره، لنكتشف عبر القراءة أن الحب حقا موهبة، شأنه شأن الفن وكل صنوف الإبداع الإنسانى، وهذه رؤية تتفق تماما مع رؤية الطبيب والمحلل النفسى الأمريكى العالمى الألمانى المولد «إريك فروم» الذى أعتبره أحد معلمىَّ الكبار فى تخصصى وفى فهم فوضى طاحونة الحياة المعاصرة، ففى كتابه الصغير الكبير «فن الحب» الذى هو على عكس ما يوحى به عنوانه الدارج، يتحدث عن الحب الشامل الذى يتكامل به كيان الإنسان، على قواعد راسخة وشفافة من الاحترام والحدب والمسئولية، فيتخلص من أعمق مخاوف أعماقه، «خوف الانفصال»، ذلك الذى يهيمن على لاشعور كل إنسان فور أن يولد ويغادر أحنى وأرفق وأأمن واحات الدنيا: رحم الأم.

خوف الانفصال هذا يعتبره إريك فروم أشد مخاوف الإنسان إثارة لقلقه وإشعاره بافتقاد الطمأنينة، ومن ثم يشكِّل أقوى دوافعه للاتصال الإنسانى الذى يتبلور ويتكثف فى النزوع للحب والسعى للاكتمال به، بل الإشعاع والتنوُّر من خلاله، فيصير الإنسان مؤهلا لحب كل البشر وكل الوجود، فيُمسى ويصبح أعمق شكرا لخالق هذا الوجود.


بطل ماركيز فى هذه الرواية كشف عما أسميه «التكوين الأساس» لموهوبى الحب، فما من موهبة فى أى مجال بشرى إلا بها خصائص تكوينية تتجلى وتتألق مع التجربة والزمن، وتصقلها منحة الحب، وإرادة صون وتنمية ورعاية هذا الحب. وكما كل موهبة تسفر عن بوادرها فى طلعة العمر، كان بطل هذه الرواية، فعندما أرسله أهله وهو فتى صغير ليتعلم فى مدرسة داخلية بعيدة عن بلدته، وصل إلى هذه المدرسة بعد عدة أيام من السفر الشاق على بغلة تحمله مع صندوق حاجياته وهو يرتدى ثوبا لأبيه تم تعديله على مقاسه. وكان ذلك الصندوق أثقل من الفتى بمرتين، لأن أمه وضعت فيه كل ما سيحتاجه ليعيش بكرامة حتى انتهاء مرحلة الدراسة كمستجد. ساعده البواب على وضع الصندوق الثقيل فى منتصف الفناء، وتركه هناك تحت المطر قائلا له: «احمله إلى الطابق الثالث. هناك سيدلونك على مكانك فى المهجع».


وفى لحظة كان جميع من فى المدرسة يطلون من الشرفات على الفناء منتظرين ما الذى سيفعله الفتى الصغير بالصندوق. وحين أدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على أحد، أخرج من الصندوق كومة من الأشياء التى يمكنه حملها بين ذراعيه بتمكُّن، وصعد بها إلى الطابق الثالث على الدرجات الحجرية المرتفعة. أشار له المشرف إلى المكان المخصص له فى صفَّى أَسرَّة مهجع التلاميذ المستجدين فوضع أشياءه فوق السرير، ثم عاد إلى الفناء ليصعد عدة مرات أخرى يحمل فيها ما تبقى من متاعه، وأخيرا أمسك بالصندوق الفارغ من مقبضه وصعد به وهو يجره على الدرج.

«الأساتذة والتلاميذ الذين مابرحوا يراقبونه من الشرفات، كانوا يكفون عن النظر إليه عندما يمر بهم عند كل طابق.

ولكن المدير الذى وقف ينتظره عند نهاية الدرج فى الطابق الثالث حين صعد بالصندوق، بدأ يصفق له. وحذا الآخرون حذوه بحماس. عندئذ علم أنه قد اجتاز بنجاح أول طقوس البدء فى المدرسة، ويتلخص هذا الطقس فى الصعود بالصندوق حتى المهجع دون السؤال عن أى شىء ودون مساعدة من أحد. لقد اعتُبِرت سرعة بديهته، وحُسن فطرته، وصلابة طبعه نموذجا يُحتذى لكل المستجدين!».

كان ذلك فى حدود الرواية، ولكن فى رحاب واقع كواقعنا، فقد يكون ذلك نموذجا يُحتذى فى الحكم أيضا، خاصة لدى رئيس الوزراء فى الفترة الحرجة التى ضاع منها الكثير وما عاد مقبولا أن يضيع أكثر، بسبب رخاوة الإرادة والارتباك وشتات الرؤية، ولا أقول انعدامها، فالمسألة ليست فى حاجة لعبقرية التنظير السياسى، بل فى حاجة ماسة لسرعة البديهة، وحسن الفطرة، وصلابة الإرادة التى هى حسنة فى الحب والحكم أيضا، أما الاكتفاء بالنوايا الحسنة ومحاولة إرضاء كل الناس بوعود غير موثوقة، وأحلام يقظة وردية فيما العين بصيرة واليد قصيرة والوفاض خالٍ، فهى جميعا مما يقود إلى الجحيم ومحافل الشياطين، شياطين الفوضى والبلطجة، واليأس الذى يجنح بالناس إلى الشطط فى القول والفعل.

فى كتابه «فن الحب» يؤكد إريك فروم على عنصر الاحترام للمحبوب كعنصر فارق بين فوران الرغبة العابرة وبين نشدان التوحد فى المصير، والاحترام فى هذه الحالة ليس بروتوكولا ولا إتيكيتا ولا إطراء بمعسول الكلام العابر، بل هو احترام لكينونة مستحقة للرعاية والحدب والإخلاص والامتنان لمجرد وجودها فى الوجود، أقرب ما يكون لحبنا أمهاتنا، ولأوطاننا التى سيجد كل صادق عادل فيها كل تجليات الأمومة مهما بدت قاسية رغما عنها، ورغما عنا، بفعل مكائد شياطين الإنس من الناهبين والطغاة الذين نجحنا جميعا فى توقيف معظمهم وكف أغلب شرورهم وإلقائهم فى جب الزراية بما فعلت أيديهم، بإرادة ثورة 25 يناير التى سيوصَم بالعار كل من يخذل اكتمالها، سواء من ركنى الحكم أو فصائل الأمة.

لقد تصرف الفتى الذى سيغدو بطلا للحب عندما يكبر فى رواية ماركيز بشكل بديع، ينم عن بداهة نبيهة وكرامة إرادة، وفيما يمكن أن نعبِّر عنه فى شأننا السياسى الراهن بـ«الرؤية السياسية» و«تحديد الأولويات» و«إرادة الفعل» و«تقسيم العمل». وهى منظومة كانت واضحة فى نداء الثورة، فلماذا غامت ونامت فى فعل الحكم، خاصة الوزارة التى قدمت القليل جدا وكان يمكن أن تقدم الكثير خلال شهور البطء والتردد المنصرمة، والتى تعكس أول ما تعكس وهن إرادة الحب لهذه الأمة من كل أطراف الحكم، كما فصائل المتنابذين بالألقاب والادعاءات والمطامع الذاتية، صُناع «الهوجة» السياسية والطائفية التى أوشكت على الحلول بمكان الثورة أو تخريبها.

لم يعد ممكنا احتمال كل هذه الرخاوة فى حب الوطن وكل هذه المجانية فى اختلاق معارك لا لزوم لها وكل هذا الزيغ عن رؤية الأولويات التى لو كنا عملنا على إنجاز عنصر واحد فقط منها وهو «الأمن» لكان لنا فى الصعود شأن ملموس وموقف أفضل. ليتحمل المجلس العسكرى مسئوليته التاريخية كشريك فى صنع هذه الثورة النادرة لا كمجرد حارس لها أو عامل مساعد على إنجاحها كما يزعم بعض المتمترسين خلف مقولات أيديولوجية عفا عنها الزمن، وليكف صناع الفتنة عن النفخ فى نيران التربص والزهو بأغلبية مزعومة، فهذه أمة كبيرة لا أغلبية كبيرة لأى فصيل سياسى أو غير سياسى فيها.

وليتحمل الإعلام مسئوليته الأخلاقية بمراجعة «هرتلاته» السطحية التى لا تعى الفارق الخطير بين حق نقد «الحكم» وبين إضعاف تماسك مكونات «الدولة».

إن الخُسران فى الحب الفردى يُشقى المحبين ويسعد كل شياطين الكراهة لأشواق البشر الطامحين لتجاوز «خوف الانفصال» إلى طمأنينة «الاكتمال بالحب». أما الفشل فى حب الوطن والأمة، فهو يجلب التعاسة للملايين فتبكى عليهم صفحات التاريخ.
ألا نشتهى أن يصفق لنا التاريخ عند الصعود؟

حين تبكي الأرحام


 عندما بلغها نبأ مصرعه، كانت فى الثالثة والستين، وهو عمر تنطوى فيه الأرحام على نفسها وتغفو، لكن رحمها انتفض يبكيه، ودموع الأرحام لا تكون إلاّ دما!

يبدو هذا تعبيرا مجازيا أدبيا، لكن لا، فهناك قاعدة طب نفس جسدية، تقول: عندما لا تدمع العين، يبكى الجسد وبكاء الجسد أشكال وألوان، أعجبها ما أظهرته أنديرا غاندى يوم رحل ابنها سانجاى، إثر سقوط طائرته الخاصة قرب مطار نيودلهى، فى 23 يونيو 1980.

كانت أول رئيسة وزراء لشبه القارة الهندية التى يسكنها مئات الملايين، ولعلها حبست الكثير من دمعها، لكن رحمها الذى انتزع الموت قطعة منه لم يستطع كبح دموعه، فنزف يبكى، أو بكى ينزف.

إننى أخشع كلما تذكرت ذلك العضو الذى رأيته لأول مرة عندما أخذونا، نحن طلاب السنة الرابعة فى كلية الطب لنحضر عملية ولادة قيصرية، فرأيت الكمال والجلال فى أجمل عضو داخل الجسد البشرى كله، ولقد رأيت أكبادا وقلوبا وأمخاخا ورئات وكلى، ولم أجد أجمل ولا أكمل من الرحم.

هو عضو عضلى مجوف، يشبه كمثراة وردية داكنة مقلوبة، منسوجة الألياف بشكل مبهر التماسك وواضح للعيون. يكون بحجم ووزن كمثراة صغيرة لدى الأنثى البكر، لكنه يتضاعف حجما ووزنا مع الحمل، ليصير كما يصفه التعبير العامى البليغ «بيت الوِلْد» !

ونحن الرجال، ما نحن؟ سوى عيال أمهاتنا، وما أصغر أنثى إلا أم، حتى لو كانت بنت يومين، مخلوقة للأمومة. والرحم ليس مجرد وعاء لاحتواء الجنين، بل هو قطار الرحلة كلها، من الإخصاب حتى الولادة، وإلى أن يشاء الله، فنودِّع أمهاتنا بأرحام مستكنة فى دواخلهن، أو تبكينا هذه الأرحام إذا تخطفتنا يد القدر من أحضانهن، فى أى عمر نكون، وأى عمر يكُنّ.
لقد انتفض رحم أنديرا غاندى يبكى فى نزيف حاد كاد يودى بها، حزنا على رحيل طفلها سانجاى، الذى كان فى الرابعة والثلاثين ! وليست أرحام الشيخوخة وحدها هى التى تبكى، فأرحام الصبا الغضة يواتيها البكاء كذلك.

فمع بلوغ الأنثى عمر التهيؤ للأمومة، تنتابها شهريا تغيرات مركّبة، فمبيضاها المولودان بقرابة ثلاثين ألف بويضة، لا يبقى منها لعمر الإنجاب غير خمسمائة، ومن الخمسمائة لا تصل عادة غير بويضة واحدة شهريا إلى أوج النضوج. يطلق المبيض هذه البويضة، فتتلقفها قناة فالوب، لتمضى فى مجراها منتظرة الإخصاب، متوجهة نحو الرحم.

يكون الرحم متأهبا كأى بيتٍ مضيافٍ كريم، ففور انطلاق البويضة، وتحت تأثير الهورمونات المبيضية، الأستروجين والبروجيسترون، يهيئ الرحم بطانته لتغدو تربة صالحة لانزراع البويضة المخصبة، ومن ثم لاستيعاب تحولها إلى جنين.

تغتنى البطانة بمزيد من الأوعية الدموية وتزيد وثارتها بغشاء غنى بالغدد، يرطبه النسغ الزلق والدهون الذائبة ويسخو بالسكَّر.. الجليكوجين.

يُعِدُّ الرحمُ للقادم الغالى، ولدا كان أو بنتا، إقامة فاخرة كاملة، ثم يتوحد معه عندما تضرب المشيمة بجذورها فى عمق جداره، ويفتح مجرى دم الحامل رافدا يغتذى منه الجنين ويتنفس. وبعد شهور الحمل الطويلة، يبكى الرحم عند الولادة، كأنما بدموع أم يغادرها ابنها. فهل أدركنا معنى أن تنادينا أمهاتنا: «يا ضنايه» !

ضنى، ضنى إذا حمل الرحم، وضنى إذا لم يحمل، وهو ضنى يعبِّر عنه بالبكاء أيضا. فهذا الحيض الشهرى ليس إلا بكاء الرحم الذى تضربه حسرة عدم إخصاب البويضة، تنحسر الهورمونات المبيضية عنه، فتتقلص الأوعية الدموية فى بطانته وتنزف، وينسلخ الغشاء عن البطانة متفتتا، فيحمل الدم النازف هذا الفتات ليخرج مع جريان الدم، دموع الطمث! ثم يكفكف الرحم دموعه، آملا فى حلول الضيف الغالى، بعد شهر.

لكن الشهور تتوالى وليس من يجىء، وتمر السنون ويجف الأمل، لدى أكثر من ثلاثة ملايين بنت تجاوزت الخامسة والثلاثين ولم يأتها قطار الزواج فى بلدنا، تبعا لإحصائية قديمة عندما كان تعداد مصر 64 مليونا، ولابد أن أرقام اليأس تضاعفت الآن. بينما بكاء الأرحام القسرى والقهرى مستمر. لماذا ؟

لسبب واضح هو أن هناك أفواجا من الشباب، تتراوح أعدادهم بين ستة وتسعة ملايين، لا يستطيعون مجرد فتح بيت، ولو امتلك الواحد منهم ما يكفى، فقط ما يكفى، لصارع الدنيا كى يفتح هذا البيت، ويضم بنتا يكفكف بكاء رحمها، وهى بحنوِّها تكفيه، فتتواصل الحياة بأندر مصادر ثروتها: البشر.

لكن من أين لكل هذه الملايين من الأولاد والبنات بهذه الدخول التى تكفى فتح البيوت، والدنيا أزمة، وميزانية الدولة يتم تدبيرها بالعجز ؟ سؤال كذوب، ليس لأنه يذكر شيئا غير الحقيقة، بل لأنه لا يذكر إلا جزءا من الحقيقة، أما الباقى، فتتحدث عنه بعض الأرقام التى تداولها برلمانيون تحت القبة، وفى الصحف، وعلى مواقع الانترنت...

فى بيت المالية نفسه، مساعد أول وزير المالية يتقاضى ربع مليون جنيه شهريا، وموظفة تكتفى بمائة وخمسين ألف جنيه، فقط. وهناك 62 ألف مستشار فى الوزارات يتقاضون أكثر من مليارى جنيه سنويا. ومصاريف الحكومة على رحلات سفر المسئولين للخارج وتكاليف علاجهم مليار وخمسمائة وواحد وسبعين مليونا. 53 مليونا تُصرف على المهرجانات. و72 مليونا للتهانى والتعازى فى الصحف. ولسّه!

فأرض مشروع «مدينتى»، كمثال حاضر، والتى تبلغ مساحتها 8 آلاف فدان أى 33.6 مليون متر مربع، لو بيعت بالحد الأدنى لأسعار المزاد العلنى 750 جنيها للمتر، لبلغ ثمنها 25.6 مليار جنيه، بينما يتردد أنها بيعت مقابل 7% من الإنشاءات. وهناك قوائم لأصحاب الحظوة والنفوذ الذين استولوا على أراض شاسعة برخص التراب وباعوها بمبلغ 58.968 مليار جنيه. وتشير آخر أنباء الاستجوابات البرلمانية إلى رقم مرعب يُقدِّر ما ضاع على الأمة فى نهب أراضى الدولة بتريليون جنيه، أى ألف مليار جنيه!

مليارات ومليارات منهوبة، كانت تكفى لو أُحسن توظيفها، لا نقول لكفكفة دمع كل الأرحام العطشى لإكمال دورها الرءوم، لكنها بالتأكيد كانت تكفى للكثير، ولاتزال تكفى، لو أن هناك إرادة للخير تستعيد ولو بعض ما تم نهبه، وتوقف المزيد من النهب والهدر.

أما دموع العيون والأرحام التى تُفجِّرها ضربات القدر، فهى إرادة رب العالمين، نتشارك فى نُبل أحزانها، وصدق المواساة، خاصة عندما يكون الراحلون صغارا من الأطهار، يصعدون فى هالة من الرحمة والنور، ضياء للصدور وللبصائر.. والضمائر.


بقلم: محمد المخزنجي
14 يوليو 2011 08:35:55 ص بتوقيت القاهرة
تعليقات: 31

رُباعية الجَد

«وزارة بجد. تطهير بجد. محاكمة بجد»
كانت هذه الثلاثية التليغرافية هى أوجز وأفصح ما وجدته بين لافتات ميدان التحرير فى جمعة «الثورة أولا».

وهى ثلاثية لا يختلف معها أى عقل متابع وأى وضمير ناقد لما نحن فيه، فالمأزق الحرج الذى وصلنا إليه هو نتيجة لافتقاد الجد فى ثلاثية الوزارة والتطهير والمحاكمة، وإن كان جد المُحاكمة مختلفا قليلا، فالعدالة فيما يخص محاكمة رأس وعصابة النظام الساقط تتطلب أولوية المحاسبة على جُرمهم الأكبر وهو إفساد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بل الأخلاقية فى مصر، والذى نعانى من عواقبه الآن وسنظل نعانيه لفترة طويلة.

الجدية هى عين المطلوب، وفى مسألة التطهير أعترف أننى لم أكن أراها هائلة الخطورة على النحو الذى تبدَّت عليه من خلال حالة «ضبط وتلبس» وصلتنى وقائعها أخيرا، فقد كنت أتصور أن المنتمين إلى النظام السابق بعيدا عن الصفوف الأولى، يمكن أن يتحسن أداؤهم تحت ضغط الخوف من محاسبة محتملة بعد سقوط النظام الذى كانوا ينافقونه أو يستثمرونه ويحميهم، وربما أن بقايا الخير المطوية عليها كل نفس بشرية يمكن أن تنجلى لدى بعض هؤلاء فى مناخ جديد أنظف. لكن يبدو أن هذه كانت نظرة مثالية أكثر مما ينبغى، وهو ما سيوضحه المثال الذى سأورده، والذى يؤكد أن عملية التطهير ليست انتقاما من فلول وذيول النظام السابق، بل هى ضرورة لإيقاف تخريب خفى يفضحه هذا المثال:
منذ خمس سنوات تم التعاقد بين كلية طب بشرى بإحدى الجامعات المصرية، ومؤسسة ماليزية مثلتها سفارة دولة ماليزيا فى القاهرة وينص التعاقد على ايفاد الطلاب الماليزيين للدراسة بهذه الكلية، نظير مقابل مادى قدره 8000 (ثمانية آلاف) دولار للعام الواحد ولمدة ست سنوات للطالب. (أى 48000 دولار للطالب طوال سنوات الدراسة).

وبلغ إجمالى الطلبة الوافدين لهذه لكلية فى سياق هذا المشروع 450 (اربعمائة وخمسين) طالبا، بإجمالى دخل قدره 3600000 (ثلاثة ملايين وستمائة ألف دولار) يتم الصرف منها على العملية التعليمية والخدمية بكلية الطب والجامعة المعنية كتمويل ذاتى يدعم المخصص للكلية من الموازنة العامة للدولة. الا أنه وبعد الثورة التى شهدتها مصر فوجئ المنسق العام لهذا المشروع، وهو أستاذ فاضل بكلية الطب التى جرى معها التعاقد، بمكالمة تليفونية ورسالة على بريده الالكترونى من المسئولين عن المشروع فى الجانب الماليزى، يستغربون ويستنكرون ما قام به عميد كلية الطب ذاتها عندما خاطب مدير الجهة الماليزية المتعاقدة والممولة للمشروع، قائلا بأنه سوف تكون هناك تغييرات فى القيادات الجامعية المصرية، وكذلك تغييرات جذرية فى المناهج والنظام الدراسى، وأن الأمور بمصر لن تكون مستقرة فى الفترة القادمة، ولهذا ينصحهم هذا العميد بعدم التعاقد مع الجامعات المصرية فى العام المقبل! كما طلب هذا العميد من المدير الماليزى الحضور إلى مصر «على وجه السرعة» لمقابلته «حتى يوجه اليه بعض النصائح»؟!!.

طبعا يمكننا أن نتصور بسهولة نوعية هذه «النصائح» التى سيوجهها عميد طب من هذا النوع للشركاء الماليزيين الذين حرضهم على عدم التعاقد مع الجامعات المصرية لتعليم أبنائهم فى رحابها. وقد كان هذا العميد «أمين لجنة التعليم» فى الحزب المنحل بمحافظته إضافة لكونه أحد المتربحين الكبار من مشاريع الاستثمار الخاص فى الطب!
الجريمة التى ارتكبها عميد الطب هذا، هى نموذج صارخ على مدى الفساد النفسى والأخلاقى فى موضع لا يُخرِّب فيه غير سيكوباتى أريب، يوجِّه طعنة غادرة لكليته وجامعته ووطنه وسمعة المهنة النبيلة التى ينتمى إليها، لمجرد استشعاره بقرب تركه لمنصبه الذى لم يشغله إلا بسبب انتمائه لحزب لا أعتقد أن هناك أمينا وسويا وغنى النفس كان يقبل أن ينتمى إليه، فقد كان ذلك الحزب ساحة للتدليس الواضح والكذب والنفاق وبيع أمة لصالح مغانم شخصية مادية أو معنوية أستغرب كثيرا أن يكون هناك أستاذ طب فى حاجة إليها، خاصة وأن لديه تجارته الطبية الرابحة!
ليست كلية الطب التى جرت فيها هذه الواقعة خطيرة الدلالة والأثر هى الوحيدة التى يدرس فيها طلبة ماليزيون، فهناك كليات طب مصرية أخرى تستقبل آلافا مثلهم، وهذا اعتراف مهم بعلو قامة مدرسة الطب المصرية من دولة صارت متقدمة وقاد نهضتها طبيب هو الدكتور مهاتير محمد، كما أن فى ذلك رد اعتبار للطب المصرى الذى نال منه النظام البائد كثيرا عندما فتح مغارة العلاج على نفقة الدولة فى الخارج للمحاسيب بمليارات كان يمكن لو تم ضخها فى فى فعاليات هذا الطب البحثية والعلاجية لكنا استغنينا إلى حد بعيد عن الحاجة لاستنزاف الملايين فى العلاج بالخارج، ووصلنا إلى نظام طبى يغنينا عن سؤال الكريم أو اللئيم، وهو ما وصلت إليه برؤية مبكرة دولة فقيرة مثل كوبا التى نمتلك تاريخا طبيا وطاقات وخبرات كانت تفوقها كثيرا ولايزال بعضها لدينا يواصل تفوقه العالمى برغم كل التعجيز والتشويه الذى تعرَّض له القطاع الطبى المصرى كما سائر القطاعات التى لم تنجُ من لمسة شيطان التخريب المُنزاح.

بالطبع لا أنكر شدة انفعالى بما يصيب العائلة الكريمة العريقة التى أشرُف بالانتماء إليها، عائلة الطب المصرى التى قفز على سطحها مثل هذا العميد الذى أهان شرفه الإنسانى والمهنى أولا بانتمائه إلى الحزب المنحل، وثانيا بتشرُّب قيم الفساد التى عكسها تصرفه المشين والمخرب والمضاد لناسه وأمته وكرامة مهنته التى هى مهنة للنبالة فى الدنيا كلها حتى أن البروتوكول الملكى البريطانى يقدم الأطباء والقضاة على الوزراء فى حفلات الاستقبال الملكية. وكانت إنجلترا تقبل دخول خريجى كليات الطب المصرية دون امتحانات فى منظومتها الطبية نظرا للثقة فى جودة إعدادهم العلمى والعملى.

وهو مما جارَ عليه زمان استبداد وفساد نظام مبارك الذى أفرز مثل ذلك العميد الذى تجاوز الانتقام من كليته إلى الانتقام من كليات الطب المصرية كلها بل من مصر التى اختار أن يشوه سمعتها فور إحساسه بأنه لن يبقى فى موقعه الذى يدرك أنه لا يستحقه والذى يؤكد تصرفه فى هذه الواقعة أنه بالقطع ليس جديرا به ولا نزيها فيه.

حالة كتلك يمكننا أن نستنتج منها أنه لا أمان لأى منتم للنظام الساقط حتى فى الصفوف الخلفية، ولا دور له فى إعادة بناء وترميم مصر الجديدة التى نتطلع إليها، بل إن احتمالات التخريب أرجح كما فى تلك الحالة. وما دام ذلك كذلك، فإن التطهير يغدو ضرورة إنقاذ قصوى، وهى ليست معضلة فى الجامعات وغير الجامعات، فيمكن أن يُدْعى كل من هم فى مراكز قيادية ممن انتموا للحزب أو النظام الساقط أن يقدموا استقالتهم حفاظا على ما بقى لديهم من كرامة، ومن لا يستقيل فلتتم إقالته مادام يتشبث بالبلادة ويرتضى لنفسه المَهانة، وليحل بمواقع المستقيلين أو المُقالين وكلاء أو نواب فى إدارة تلك الجامعات أو الكليات أو المؤسسات ممن لم ينتموا للحزب المنحل وعصابة الحكم الساقطة، وذلك لحين إجراء انتخابات ديمقراطية لشغل هذه المواقع بمنطق سوى جديد.

أما التطهير الأشمل والأهم، فلابد أن يُقصى كل منتسبى الحزب المنحل من صفوفه الأولى ونوابه البرلمانيين وقياداته فى المحافظات عن ساحة الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، ولو لدورة يتقرر بعدها ما يقرره من ينتخبهم الشعب، وهذا أيضا ليس انتقاما، بل هو إجراء وقائى ضد تخريب محتمل ولا يمكن استبعاده كما فى حالة عميد الطب المذكور.

«وزارة بجد. تطهير بجد. محاكمات بجد»، نعم لهذه المطالب الواضحة كلها، ونعم أيضا لـ«مظاهرات بجد»، وهى لا يمكن أن تكون كذلك إلا فى ثوب حضارى يحرص على كيان «الدولة» ومؤسساتها وهو يضغط لتغيير سلبيات الحكم، أى حكم. وهذا يعنى ألا تُقطع طرق، وألا تُغلق مؤسسات أو تُعطَّل مرافق، وألا يكون هناك عنف فى القول أو الفعل، فبرغم أية ملاحظات، نحن لا نواجه وزارة من وزارات مبارك ولا عصابة تخريب لمصر كان يرأسها المخلوع الذى يستحق ألف مرة أن يُحاكم بجد.

لا ينبغى أن يتماهى ضحايا تحرروا أخيرا، مع أى سلوك لظالمهم الذى سقط، خاصة سلوك التخريب من أى نوع مهما كانت النوايا حسنة، وأخطر أنواع التخريب هو إنهاك ما تبقى من عناصر تماسك «الدولة» فى لحظة سيولة غاية فى الحساسية، والخطر.
 


ليست هناك تعليقات:

قران كريم