الأربعاء، 29 يونيو 2016

مقال يسري فودة منقولة


اراء

يسري فوده: الخيط الرفيع بين الخوف والتواطؤ

"تجنبُ السقوط إلى ما لا نهاية - على فداحة ثمنه - ليس طموحًا كبيراً".. في أول مقال له بعد إعلان عودته إلى مشاهديه عبر DW عربية، يسري فوده يحذر من...

أخي نفسه لم يكن يعلم حين اصطحبته لقراءة الفاتحة على روح أبينا في القرية في أول أيام رمضان قبل أن أعطيه نسخة من مفتاح منزلي وأتلو عليه نصائحي. "هو فيه إيه يا أبيه؟" كان لأسبوعين أن يمرّا أولاً قبل أن يعلم - مثله مثل غيره - أنني سأستأنف عملي الصحفي خارج مصر. إلى هذا الحد صار مجرد العمل الذي يحاول احترام الناس والنفس حجراً ثقيلاً على الصدر ومجلبةً للأذى في بلادي.

دعك من تأميم - أو بالأحرى "تجييش" - الإعلام في مصر ومصادرة المجال العام كله نحو صوت واحد يُتهم الخارجون عنه بالعمالة ومحاولة هدم الدولة. دعك من الأمر الرئاسي المباشر: "مش عايز أسمع كلام تاني ..". دعك من حقيقة أن مصر الآن تحتل المركز الثاني عالمياً في استهداف الصحافة الحرة، لا يسبقها إلى ذلك إلا الصين. دعك من اكتظاظ السجون بآلاف الأصوات الوطنية من مختلف التيارات على خلفية تهم سياسية. دعك من الإخفاء والتعذيب والقتل. دعك من خنق الناجحين المجتهدين الموهوبين الأذكياء المنصفين المسالمين في كل مجال لصالح الفشلة الكسالى منعدمي الموهبة الأغبياء المنافقين البلطجية .. الفضيحة. دعك من أقزمة بلد عملاق كمصر في زمن قياسي. دعك من دعس أي صوت من أي اتجاه يحلم - مجرد حلم - بالعدل ودولة القانون. ودعك من سياسة منهجية لتشويه كل شيئ وأي شيئ له علاقة، من قريب أو من بعيد، بأنقى ثورة في التاريخ المعاصر، سواءٌ في أسبابها أو ملابساتها أو أحداثها أو شعاراتها أو مطالبها أو الوجوه التي ارتبطت بها.

نحن الآن نتحدث عن مستوىً آخر لم يكن حتى يخطر ببال جورج أُورْوِيل. من أمثلته أن حكومةً منزعجةٌ وغاضبة لأن محكمةً قضت بأحقية بلادها في جزء من أراضيها، فتطعن قضائياً في صحة القرار، وهو أمر لم يعرفه التاريخ من قبل، و لا كان قابلاً للخيال. ومن أمثلته كذلك أن محامياً حقوقياً بارزاً متهم الآن باستخدام "اللاعنف" و"علم ثورة العقول" لإسقاط الدولة. هذه تهمة رسمية في سياق التحقيق في قضيةٍ أحرازها مقالات صحفية له في جريدة.

من الدهشة إلى العبث إلى الجنون تنتقل مصر، ولم يكن هذا بين ليلة وضحاها، ولا كان بفعل صدفة، بل كان ممنهجاً وبفعل فاعل، فماذا بعد الجنون؟ لا يحتاج الأمر إلى كثير من التحليل لاستخلاص أن الهدف الرئيس كان، ولا يزال، ما يسمونه "استعادة هيبة الدولة" لغسل آثار ما يسمونه "نكسة 25 يناير". وفي سبيل هذا تُوظَّف الذهنية ذاتُها والأساليب ذاتها - الموجودة في كتالوج الفاشية - للإمعان في خلط مفهوم الوطن بمفهوم الحاكم، وخلط مفهوم الدولة بمفهوم السلطة، وصولاً إلى زرع الخط الرادع من الخوف في قلوب الناس. لكنّ الذي أنشأ جمهورية الخوف في أزمنة غابرة عاجز عن استيعاب المعنى الحقيقي لهذا المفصل التاريخي. هذه قدراته. ومن ثم سرعان ما تتحول استعادة "هيبة الدولة" بين يديه - بمعاييره هو - إلى اكتساب "خيبة الدولة".

في مناخ كهذا، أجد في صدري جانباً أستطيع من خلاله أن أفهم/أتفهم دوافع نوعين من الناس في بلادنا الآن: هذا الذي يتملك الخوف منه فيمشي إلى جوار الحائط حتى وإن لم تكن له حاجة في شيئ. نحن بشر، وقدراتنا على التحمل تختلف. وذلك الذي له حاجة ويريد أن "يعيش" أو أن يستمر في إعالة نفسه (وربما آخرين من ورائه). لكنني أخص من هذين النوعين هؤلاء فقط الذين تتطلع قلوبهم إلى فرج الله. ومن نوافل القول في هذا السياق إن احتراماً لا يوجد في صدري لأولئك الذين يستندون إلى أي من هذين الدافعين تطوعاً بدعم الظلم والباطل.

ليست هذه هي المشكلة على أية حال. المشكلة الكبرى تكمن في أن خيطًا رفيعاً يقف بين النوعين الأولين واحتمال الانزلاق إلى المرحلة التالية: التواطؤ. يخلق جهاد الوقوف دون هذا الخط الرفيع صراعاً نفسيّاً ضاغطًا لدى أصحاب النفوس السوية، تتراكم آثاره يوماً بعد يوم، ولا ينجو منه إلا قليل.

سأضرب لك حالتي أنا مثلاً. منذ صيف 2013 وأنا أذكّر نفسي كل صباح بحتميات النفس البشرية في مقابل "حقائق الواقع". انعكس هذا في قسوة شديدة على النفس وعلى زملائي طوال العام الأخير من عمر برنامج "آخر كلام". رغم التهاب مشاعرنا جميعاً في مصر وتمزق مواقفنا وافتراق سبلنا وعزوف البعض واحتماء البعض الآخر بشرنقة ذهنية/نفسية، لا يعلم كثيرون أن ذلك كان أكثر الأعوام التي أفخر بها في مسيرتي الصحفية كلها. كان "إنجازاً جبّاراً" أن تجد قدماك مسارهما في أوج الهيستيريا وانفتاح البالوعات حولهما من كل اتجاه: لم نسقط. هذا هو الإنجاز! مثلما يختار البعض لدى الطرف الآخر أن يغض الطرف عن أننا - حتى حين أُجبرنا على الابتعاد عن الشاشة في ذلك الصيف - قلناها مرة أخرى على الملأ وقتها في بيان رسمي: "طول ما الدم المصري رخيص، يسقط يسقط أي رئيس".

لكنّ تجنب السقوط ليس طموحاً كبيراً، وأحياناً يكون الصمت أبلغ من الكلام وأكثر قوة. أُجبرنا على الجلوس في البيت لنحو عامين كنت أتابع فيهما من يسقطون ومن يسكتون ومن يرحلون ومن لا يزالون لدى حافة الخيط الرفيع في انتظار فرج الله ومن ينحدرون من تحته إلى حيث تصعب العودة، ومازلنا جميعاً نتابع. تعلمت أن المزايدة على خلق الله حماقة، وأن أقوى دليل على طزاجة عروق الثورة هو استمرار القبضة الحديدية، مثلما تعلمت أن تجنب السقوط إلى ما لا نهاية - على فداحة ثمنه - ليس طموحاً كبيراً، وأن أخي سيغفر لي.

ليست هناك تعليقات:

قران كريم