شارك برايك يهمنا Feedback Feedback mhassanabo@gmail.com
maboeleneen@yahoo.com
أُقدر مقولة إن «التاريخ يكرر نفسه ولكن بصورة ساخرة أحيانا»، ولكننى أعدلها قليلا حيث أرى أن تكرار التاريخ لنفسه فى عالمنا العربى يشكِّل مسخرة فى معظم الأحيان، وهذا ما يجعلنى مضطرا الآن لتكرار ما عبَّرت عنه سابقا حيال جريمة تمويظ عربية كان طرفاها فتح وحماس، عندما اشتبكا فى اقتتال لم يكن دافعه طلب الحق بقدر ما كان حافزه باطل الرغبة فى الاستئثار بالسلطة والنفوذ، سلطة على سجن! ونفوذ داخل سجن!
التمويظ الذى عنيته حيال الاقتتال الفلسطينى الفلسطينى من قبل، والذى أعنيه حيال الاشتباكات المصرية المصرية حاليا، هو نظير ما يحدث بين اثنين من ثيران الموظ يتنافسان بغباوة للفوز بأنثى مغوية، فينتهيان إلى مصيدة ذاتية تقرر لهما نهاية بشعة، وأبشع منها ذلك التهديد الذى تستدرجه هذه النهاية الفردية لأمن الجماعة ككل، وهذا يحدث فى عالم «الموظ»!
والموظ، كما أسلفت، نوع من الأيائل الضخمة ذات الظلف تحيا فى منطقة المراعى القطبية الشمالية، أو «التوندرا»، والتى تغطيها الثلوج معظم السنة باستثناء ثلاثة أشهر لدفء محدود لا ترتفع درجة الحرارة فيه على 10 درجات مئوية، تسمح بالكاد بنمو غطاء عشبى شديد الفقر، وتدفئ الدماء فى عروق ذكور الموظ، فتنبت فى رءوس هذه الذكور قرون تنمو بسرعة عجيبة، تتسع وتتشعب ويكسوها زغب قطيفى، لتبدو كأزواج من مظلات جريدية مفلطحة تتوج الهامات! وهى ليست مظلات فقط، بل هى أجهزة تكييف مدهشة، تسحب الحرارة من داخل الجسوم، وتبددها عبر الزغب، فيبرد الجسم الحرّان ويُنفِّس عنه الكثير مما يتسلل إليه من «سخونة» الجو.
آلية ربانية مذهلة العبقرية لمنع غليان الدماء فى عروق كائنات متآلفة مع الصقيع والجليد وشديدة الحساسية للحرارة، خاصة الذكور الذين تهدد الحرارة النسبية الزائدة خصوبتهم، ولعل هذا هو السر الإلهى فى اختصاص الذكور دون الإناث بهذه القرون المُبرِّدة، لكن التنافس الذكورى الدميم يجلب الغليان السلوكى لرءوس بعض الذكور، فلا نعدم موظين فحلين تعميهما غواية الاستئثار بموظة مغرية، يندفعان فى العراك متناطحين بقرونهما المُحلِّقة، وتكون لتناطحهما ضوضـــاء تمــــــلأ الآفاق وتشـــــل حركـــــــــة القطيع رعبا من هول التناطـــح، فيعجــــــز آباء القطيــــــع وأمهاتــــــــه عن إيقاف الاقتتال.
لا يستمر القتال بين الموظين طويلا بل يخمد كالنار التى تأكل نفسها بنفسها، ويرتمى الفحلان على الأرض معا وفجأة، فقد تشابكت قرونهما تشابكا لا قدرة لهما ولا لغيرهما على فك التحامه. ولا يكون أمام القطيع المصدوم إلا تركهما والمضى بعيدا عن بقعة ورطتهما المشئومة، فثمة ضرورات لسد الجوع وإرواء العطش وإرضاع الصغار من حليب ما تأكل الأمهات وتشرب، وثمة رعب متوقع من الضوارى التى ستجذبها أصوات وروائح لهاث فريستين، مكبلتين بالقرون، وجاهزتين للأكل!
فى عراء «التوندرا» التى تعصف بها الرياح الباردة الهُوج، يواجه الموظان المشتبكان مصيرين لا ثالث لهما: إما أن يموتا فى المكان جوعا وعطشا ثم ينتفخان وينفجران وتجذب روائح عفنهما ضباع الشمال وعقبان الثلوج وديدان الأرض. وإما أن يتم نهشهما حيين بأنياب ثعالب الثلج وذئاب الجليد ومخالب الدببة القطبية، وهى أنياب ومخالب لا تشبعها وجبة واحدة من موظين، لأن لواحم المنطقة القطبية الشمالية كما معشبيها، لا تأكل لمجرد الشبع، بل تأكل لتكدس رصيدا من الشحم واللحم تسحب منه ما يبقيها على قيد الحياة طوال أشهر الشتاء البارد المعتم الطويل، فبعد أن تقضى الضوارى على الموظين المربوطين بالقرون، ستهاجم بقية القطيع، وتفترس منه الدانى والطرى والبطىء، أى الصغار. لهذا لا تأسى جماعة الموظ على الغبيين المطروحين على الأرض، فتسارع بالفرار لتنجو بصغارها وكبارها، مصغية لنداء الحياة والنجاة، وملبية دعوات أرض الله الواسعة، الواعدة بالأمان والعشب.
هذه الهجرة التى تنقذ جماعة الموظ من دفع فاتورة دامية ثمنا لغباوة ذكرين منتسبين لها، تمثِّل ترفا يعز على المجتمعات البشرية المأزومة بل يستحيل، فالدنيا باتت مثقلة بسكانها الذين بلغ تعدادهم يوم الاثنين الماضى سبعة مليارات نسمة، ثم إن هناك حدودا وجوازات سفر وتأشيرات دخول، وما من هجرة بغير ذلك إلا بزوارق متهالكة تغرق بمعظم راكبيها قبل أن تبلغ شواطئ الحلم أو الوهم. فماذا يفعل الناس أمام جرائم التمويظ البشرى الذى يرتكبه أفراد كذبة لغايات شخصية دنيئة واضحة، ليس من بينها أبدا تلك الغايات التى تحركها دوافع مشروعة لدى ذكور حيوانات الموظ، فى نطاق غريزة التزاوج وهدف استمرار النوع. فماذا تفعل الجماعة البشرية حيال أمواظها البشر؟
ماذا تفعل جماعة المصريين حيال اشتباكات غبية وأنانية لأمواظ من المصريين، يقامرون بأمان ونهوض أمة، ليحوذوا نفوذا تتشهاه نفوسهم النرجسية وينالوا سلطة تتلمظ عليها ساديتهم المخبأة؟ ماذا تفعل الأغلبية المصرية التى يتاجر فيها طائفيون متعصبون، وفئويون متربصون، وذيول وفلول.. جميعهم لا يبتغون وجه الحق، بل يتطلعون إلى طيف سلطة، أى سلطة، وصولجان تسلط؟!
ماذا يفعل سرب أمتنا الممثل للأغلبية الصامتة فى مواجهة عبث وجنوح وإجرام تلك الاشتباكات والتقاذفات العدوانية التى تنتشر فى أكثر من موقع، وتجتذب إليها أكثر من شر؟ ومنها، على سبيل المثال الصارخ الواضح الفاضح القريب: ما يحث من تحريض وإزكاء لنار الفتنة بين القضاة والمحامين، ويرتكبه أفراد محددون واضحو الدوافع الشخصية المتهافتة أو خفيو النوايا التخريبية اللئيمة، دون أى اعتبار من ضمير لصالح الأمة المُرهَقة التى تنشد الطمأنية وترتجى الأمان، ولا يسأل معظم أبنائها الله إلا الستر والعافية؟
هل ينتبه الطيبون والمخلصون والشرفاء الكُثر فى جماعة المحامين كما جماعة القضاة، أن ذلك الاشتباك الذى ظاهره الكرامة الفئوية، إنما يصب فى صالح حفنة من المحرضين من الجانبين ويفتك بقلب الدولة؟ وهل هناك قلب للدولة أكثر وجيبا من جناحى العدالة الممثَّلين بالقضاء والمحاماة، بعد أن قصم المُجرمون ظهرها الأمنى ولا يزالون يفعلون؟ أم أن الشعور بالمسئولية الوطنية والأخلاقية والروحية التى هى فوق كل الذوات المنتفخة بأناها، باتت فى خبر كان، ومن ثم صارت كينونة الأمة فى خطر فوضى تبرر أو تمهد لصرخة الفزع الأكبر، وطلب الأحكام العرفية؟!
نسأل الله بحق هذه الأيام المباركة أن يراجع مشعلو الحرائق أنفسهم فى رحاب أيام العيد التى تغسل بالروحانية والود أدران النفوس، وإن لم يفعلوا فلتكن لنا عنهم هجرة جماعية، لا كهجرة جماعة أيائل الموظ بعيدا عن فخاخ وتهديد حماقة بعض فحولها، ولا كهجرة زوارق الغرق إلى شواطئ غريبة باتت مكتظة بأصحابها، بل هجرة فى هجران يبتعد بنا عن كل هذا الشر الذى يستسهل إيقاد نيرانه مشعلو الحرائق هؤلاء، من كل لون وصنف وملة.
من أطيب مفاجآت دعوة العشاء واللقاء مع رجب طيب أردوغان أننى فوجئت بحضور الدكتور غنيم من المنصورة، وكان يُستقبل بحفاوة ومحبة من رموز العمل الوطنى فى القاعة، بجوار صديقه وشقيق دربه الدكتور محمد أبوالغار، سلَّمت على الدكتور أبوالغار وكان الدكتور غنيم ملتفتا للسلام على أصدقائه ومحبيه، وما إن استدار ورآنى حتى غمرنى بحرارة الود التى أذابت شعورا مقيما عندى بالتقصير تجاهه، فقد كان بيننا موعد تأخرت عنه شهورا، وتحول السلام إلى عناق أبهجنى وأراحنى فهمست فى أذنه معتذرا عن تقصيرى، لأفاجأ به يلتمس لى عذرا «فى اللخبطة اللى موجودة».
وأى لخبطة؟! قلتها بأسف لم يتمكن منه الإحباط، ففى حضرة الدكتور غنيم لا مكان للإحباط، فهو يذكرنى دائما بمقولة لطه حسين عندما سُئل عن السعادة فأجاب: «السعادة هى أن نقوم بما يتوجب علينا القيام به»، ولقد قام غنيم ويقوم بأقصى ما يتوجب على مصرى محترم أن يقوم به، سواء فى مضماره الطبى الذى ارتفع به إلى مستوى عالمى رفيع الإنسانية ونفاذ الرؤية والرقى المهنى، أو فى دوره الوطنى متواصل الشجاعة والتفانى، كمناهض عنيد للنظام الساقط فى أوج جبروت ذلك النظام، ثم بعد الثورة التى تكالبت عليها كثرة الضباع والسباع والخفافيش والثعالب!
برغم عمله السياسى الوطنى لم يكف الدكتور غنيم عن عمله العلمى، سالكا على الأرض المصرية مسار الجراحين العالميين الكبار، فبعد أن يقطعوا الشوط الهائل فى مسيرتهم العلاجية، ينعطفون لفتح نوافذ واسعة على البحث العلمى المعملى. ولقد قطع الدكتور غنيم على هذا الدرب وفى مجال أبحاث الخلايا الجذعية خطوات واعدة وذات وزن دولى، لكنه كعالم حقيقى يحترم نفسه ويحترم العلم، يرفض أن يتحدث عن منجزه إلا بعد تمامه.
فى آخر لقاء به، دعانى الدكتور غنيم للاطلاع على بعض ما توصل إليه، وكنا وقوفا أمام حاسوبه الشخصى وهو يعرض صور الشرائح المعملية، وراح يعرفنى بما أشاهده، بافتتان جمالى وكأنه يعرض لوحات فنية باهرة تعبِّر فيها الخلايا عن تطوراتها وتغيراتها الجينية بتشكيلات لونية وتكوينية صاعقة الجمال. وهو عالِم فنان، أسعدنى كثيرا عندما استضافنى فى شقته، التى لم يغيرها منذ كان مدرسا شابا، بعرض شىء من الأفلام التسجيلية التى صورها تحت الماء فى البحر الأحمر باهر الألوان الذى يهوى الغوص فى أعماقه، أفلام تكاد تكون احترافية فى تصويرها والمونتاج والموسيقى التصويرية المصاحبة والتترات!
رجل مثل هذا عندما يعمل فى السياسة أصدقه، بل أمضى معه دون تردد بعد أن علمتنى الأيام أن السلوك هو معيار المصداقية لا حنجورية ولا برَّاق الكلام. ولولا أننى اخترت لنفسى موقع الكاتب المستقل عن أى انتماء سياسى لانضممت دون تردد لحزب الدكتور غنيم والدكتور أبوالغار، الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، لمجرد أنهما فيه، فما بالك عندما يكونان من مؤسسيه. وإننى أتعجب للأحزاب الديمقراطية المؤمنة بالعدل الاجتماعى كشرط حقيقى للحرية، لماذا لاتجعل من هذا المُرتكَز نواة لتحالف سياسى مصرى للدولة الحديثة وطموح النهضة؟!
وعلى ذكر النهضة، فقد أوحت لى ببُعد من أبعادها اللازمة، إشارة من الدكتور غنيم وردت فى لقاء مع النبيهة منى الشاذلى فى برنامج العاشرة مساء، وقد كانت الإشارة عن عمل الدكتور «شينيا ياماناكا» فى مجال الخلايا الجذعية، والذى توقع له الدكتور غنيم فوزا مُستحَقا بجائزة نوبل لو عدِلت الجائزة. لم تستغرق هذه الإشارة أكثر من دقيقة لخص فيها الدكتور غنيم إنجاز العالم اليابانى بأنه إعادة الساعة الحيوية للخلية البالغة إلى الوراء لترجع إلى النقطة التى كانت فيها خلية جنينية، ومن ثم لا تعود هناك حاجة لاقتناص خلايا من أجنة مُجهَضة لمواصلة أبحاث الخلايا الجذعية الواعدة جدا فى مجال الطب التجديدى.
فى هذه الدقيقة التى مر فيها الدكتور غنيم بتركيز واضح على ما يقوم به العالم اليابانى، وجدت مستقبِلات الدهشة داخلى تومض بشدة، وشرعت بعدها وحتى كتابة هذه السطور فى تعقب هذه الرؤية العلمية الاستثنائية وتأمل محتواها الموحى بالكثير فى العلم وفى الحياة، وفى قضية النهضة المرتجاة لدينا.
وهل لنا من نجاة مما نحن فيه من «لخبطة» إلا بإزاحة كل معوقات التهافت والتخلف والتنطع، عن درب هذه النهضة؟
لقد تعرَّف العالَم من قبل على عملية تحويل الخلايا الجسدية البالغة إلى خلايا جنينية عند الإعلان عن ميلاد النعجة «دوللى» بالاستنساخ، وهى العملية التى قام بها فريق بحثى بقيادة الدكتور إيان ويلموت عام 1996، وفى هذه العملية تم التحويل عن طريق «التجويع والترويع» للخلية المستهدَفة، وأظن أننى أول من صك هذا التعبير عندما كتبت عن الاكتشاف فى حينه لمجلة العربى حين كنت محررها العلمى، فعبرت بشكل أدبى عن المحتوى العلمى لدفع الخلية الجسدية لتصير جنينية بعد سحب المواد المغذية من محيطها وصعق نواتها بشحنة كهربية دقيقة، كما نوهت إلى تشابه ذلك الشرط القاسى مع ظاهرة ازدياد الخصوبة تحت وطأة الخوف والجوع عند البشر، وهى الظاهرة التى رصدها عالم الاجتماع خوسيه دى كاسترو فى كتابه «جغرافية الجوع»، وأومأت إلى تشابه ذلك كله مع حالات الولادة المبكرة أو وضع البيض قبل الأوان عند تعرض إناث الحيوانات أو الحشرات لشدائد مُهدِّدة للحياة.
الجديد فى عمل شينيا ياماناكا أنه لم يجوِّع ولم يروِّع الخلايا البالغة حتى تتحول إلى خلايا جنينية، بل قام بما يسميه «إعادة برمجة» الخلية، بحيث تعود عقارب ساعتها الحيوية إلى مرحلة مبكرة كانت فيها خلية جنينية، وبتعبير آخر: إعادة الخلية إلى شبابها الولود، ولكن بوسائل غير خشنة ولا عدوانية كما فى عملية الاستنساخ، وإنما بتسلل ناعم لغرس أربعة جينات محددة فى المجمع الوراثى للخلية (الجينوم)، عن طريق فيروسات معقَّمة تعمل كوسيلة نقل تحمل هذه الجينات وتنزلها فى جينوم الخلية. بعد ذلك تقوم هذه الجينات المقحَمة بعملية تنشيط لجينات فى الجينوم كانت خاملة، وتثبيط جينات أخرى كانت نشطة، فتعود عقارب الساعة الحيوية للخلية إلى زمنٍ كانت فيه جنينية، وهى عملية ابتكرها شينيا ياماناكا ومنحها اسم «الخلايا المصنعة متعددة القدرات الكامنة «iPs»، إشارة إلى قدرة الخلايا الجنينية على توليد خلايا أخرى من أنواع مختلفة، للقلب أوالمخ أو الجلد أو العضلات أو غيرها. وهو فتح مذهل فى أفق الطب التجديدى، أوحى لى بفكرة للنهوض، لو أصررنا على النهوض مما نحن فيه!
أتذكر فى لقاء بعيد بالدكتور غنيم فى المنصورة أننى رجوته وقد كان ينزل للشوارع لجمع توقيعات المطالب السبعة للجمعية الوطنية للتغيير إبان ذروة جبروت نظام مبارك الساقط وحزبه المنحل، رجوته ألا ينزل الشارع حفظا لمقامه وخوفا عليه، فما كان منه إلا أن قال لى «بصراحة أنا بانزل علشان ادعم حماس مجموعة شباب زى الفُل إخلاص وأدب ووطنية ومش عايزهم يُحبَطوا». وهذه هى المسألة الآن، فى أبحاث الخلايا الجذعية الأكثر تطورا، كما فى السياسة ومطامح الترقى والنهوض.
هذه هى المسألة، وراجعوا معى ما وصلنا إليه، ابتداء من فتنة التعديلات الدستورية ولجنتها الاستشارية التعيسة ومتحدثها الإعلامى المتعصب القاتم والعائد ليهدد بمظاهرات الخمسمائة مليون! وصولا إلى متملقى المجلس العسكرى بالأمس والذين تنافخوا يهددونه الآن بالاستشهاد لو خالف هواهم وتلمُظهم للسلطة، إضافة إلى مهازل المكفِّرين للأقباط وغير الأقباط، والمدعين كذبا بأن الليبرالية تعنى كشف العورات، والمهلِّسين بزعم أن محاكمة مبارك حرام وتصدير الغاز لإسرائيل حلال! ولتلاحظوا أن كل هؤلاء ممن تجاوزوا سن الكهولة، وعيَّنوا أنفسهم معلمى الأمة وآياتها ووكلاء الله فى الأرض، شأنهم فى خلطة ما يسمى بالإسلام السياسى، شأن عواجيز الفرح من المتمترسين وراء الحصون الخشبية لمقولات الشيوعية الآفلة، بينما الشباب هاهنا وهاهناك براء منهم.
الذين صنعوا الثورة هم أساسا شباب، من كافة أطياف المجتمع المصرى واجتهاداته السياسية والفكرية، وهم قادرون على العودة إلى بكارة أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة، شرط أن يتخلصوا من قبضات الشيخوخة التى تصر على احتوائهم، فهم خلايا ربانية «متعددة القدرات الكامنة»، وقادرون على توجُّه صحى نحو المستقبل، وقابلون بصفاء لاستعادة وحدة الأمة، سواء كانوا من يسار أو يمين، من إخوان أو سلف. بل حتى شباب الألتراس، ذلك الجندى الباسل المجهول فى انتصار الثورة، كاسرو شوكة التغول الأمنى لنظام المخلوع وحزبه المنحل.
هؤلاء الشباب جميعا هم الخير والبركة الحقيقية وعتاد النهوض لو تنازل العواجيز عن نرجسية عتيهم فى العمر وعشقهم للأضواء والمقاعد العالية والمنابر التى يقرفص تحت أقدامها شباب أطهر من مرتقيها لو تخلصوا من سحر الاستلاب الأسود للشائخين أرواحا وعمرا داخل الثياب البيضاء.
ونداء لشرفاء المجلس العسكرى، الذين لا أزال مؤمنا بصدق وطنيتهم وحيرة إخلاصهم أمام سوء من استشاروهم من المدنيين العواجيز الذين راكموا عليهم وعلى الأمة كل هذا الضباب القاتم، إنه إثم وطنى وروحى عظيم أن يظل شاب وطنى واحد فى السجن مهما كانت ذريعة القبض عليه، فهؤلاء الشباب هم لبنات بناء المستقبل، تماما مثل خلايا المنشأ الشابة متعددة القدرات الكامنة، وهم الأقرب والأصدق من الجوهر الوطنى للعسكرية المصرية مهما تجاوزا. ولتراجع الأمة نفسها، فقد آن أوان المراجعة، وإلا تمدَّد عته الشيخوخة الروحية وموت الأمل.
منذ ثلاثمائة وسبعة عشر عاما بدأ الكشف عن سر الدموع الحمراء، ففى عام 1694 كان عالم التشريح السويسرى «جوهان جاكوب هاردير» يدقق فى فحص محاجر عيون بعض الأيائل التى يجرى عليها أبحاثه، وعثر على غدة خلف العين فى مؤخر المحجر تفرز سائلا دهنيا يتحول إلى قشور حمراء داكنة عندما يجف، فنشر ورقة بحثية عنوانها «غدة دمعية جديدة فى عيون الأيائل السمراء والحمراء»، ومن ثم حملت الغدة فى المراجع الطبية إلى يومنا اسمه: «غدة هاردير»، لأنه كان أول من اكتشف وجودها، وصنفها كغدة دمعية، ومن بعده توالى اكتشاف دقائق أسرار هذه الغدة فى عيون الطيور والزواحف والقوارض وكثير من الثدييات، وهى متميزة وذات دور بارز فى عيون ذات الحوافر والقوارض، خاصة الجرذان، بينما اندثرت فى عيون البشر.
لقد ثبت من الأبحاث العلمية على هذه الغدة عبر القرون الثلاثة التى مرت منذ اكتشافها، أن بها مستقبلات حساسة للضوء تنظم عمل الغدة الصنوبرية التى تفرز هرمون الميلاتونين المنظم للإيقاع الحيوى، وتحديدا تناوب الصحو والنوم، فإفرازه يزيد فى الظلام ويقل مع الضوء، كما أنه ينظم دورات التكاثر الموسمية فى الحيوانات، وله تأثير ملحوظ كمادة مضادة للأكسدة وحافظة لحيوية الخلايا. أما إفراز غدة «هاردير» التى تغمر كرة العين، فهى إضافة لدورها فى ترطيب العين والمساعدة على تيسير حركتها داخل محاجرها، تسهِّل انزلاق الغشاء الرامش على عيون الحيوانات التى بلا أجفان متحركة، وتُعتبر سائلا واقيا من شدة الضوء فى كائنات ليلية مثل الجرذان، وتقوم بدور منظم للحرارة، وتشكل أحد مصادر الفيرمونات أو الروائح الجاذبة والمعتبرة كلغة لدى الحيوانات. أما اللون الأحمر فى إفراز هذه الغدة والتى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما فهى حكاية خاصة، تتفاقم فى ظروف خاصة، وتحمل فى طياتها دلالات خاصة، تبدَّت لى وأنا أتابع وقائع تحرير طرابلس واقتحام قلعة باب العزيزية واختفاء القذافى وعياله وكتائب إجرامه أمام بسالة الثوار!
إفرازات غدة هاردير التى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما، يعود لونها الأحمر إلى وجود مادة «البورفيرين» فيها، وهى مادة عضوية تشكل جوهر تكوين هيموجلوبين الدم الذى هو «فيرو بورفيرين»، أى بورفيرين يحتوى فى قلبه الجزيئى على أيون الحديد. فليس تصور عيون الجرذان عندما يغزر فيها هذا الإفراز ببعيد عن الإحساس بأنها تبكى دما، خاصة عندما نعرف الظروف التى يغزر فيها إفراز هذه الغدة لهذا السائل الذى لا تستطيع قناة بين تجويف العين والأنف تصريف فيضانه، فيتكاثف الفائض حول العين كدم أحمر قاتم، وتقوم الفئران بمحاولة مسحه بقوادمها فيتلطخ فراؤها بالبقع الحمراء وتصطبغ باللون القانى مخالبها!
هذه الدموع شبه الدامية فى عيون الجرذان تفيض وتصير واضحة جدا ولافتة فى ظروف الشدة، ومنها : الحرمان من النوم، ومعاناة الجوع والعطش والآلام، خاصة آلام المفاصل! وكذلك الخوف!. فهل نتصور القذافى وعياله السفلة خارج هذه الدائرة من الشدائد والتعاسة والبؤس، وهم يهربون عبر الأنفاق تحت أرض قلعة العزيزية إلى المجهول؟ رعبا من فتك الشعب المجروح والمقروح بهم، وخوفا من قفص محكمة الجنايات الدولية الذى ينتظرهم لقاء جرائمهم ضد الإنسانية المتمثلة فيما ارتكبوه ضد شعبهم من مذابح. هذه المحكمة التى عندما سُئل عنها قبيح الخلقة والخلق «زيف القذافى» فى الشريط المدسوس قبل سقوط قلعة أهله، أشاح متبجحا يقول: «طظ فى المحكمة الدولية»!
لقد سمَّى القذافى المنتفضين على نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من القهر وشطحات الجنون وتبديد ثروة الأمة والعربدة على حساب الحاضر وأجيال المستقبل وتكميم الأفواه وإذلال النفوس: «جرذان. جرذان»، وها هى إرادة الله وحكمة التاريخ تجعل مصير القذافى وأولاده المتوحشين والمتعجرفين والكذبة مثل أبيهم، يصيرون بالفعل فى موقع الجرذان، يمضون تحت وطأة شدة ساحقة، مطأطئين داخل أنفاق مظلمة أو معتمة إلى حيث لا يقين لهم ولا أمان يركنون إليه أو نجاة يثقون فيها. كائنات بشرية مخضبة الأيادى بدم الأحرار والأبرياء وملوثة بما سرقت وما نهبت مما لا يحق لها ولا يجوز. يتسللون فى متاهات العتمة كما جرذان بشرية، تبكى عيونها ندامة بلون الدم حتى وإن كانت لا تدمع.
لقد كان جنون العظمة وهو ينفخ الطاغية بالهواء الفاسد والهباء، يبديه لنفسه وفى عينى مرآته ومنافقيه فخما وضخما، ملك ملوك قبائل قارة الإنسان الأول، وقائد عالمى، بينما الحقيقة التى كشف عنها سقوط قلعة باب العزيزية وهروبه المشين، أنه مجرد جرذ بشرى أخضعه رعب المصير لأن يستسلم لحقيقة ضآلته فى نهاية المطاف، بينما كان من اتهمهم بأنهم جرذان، ينظفون بنايات القلعة وحدائقها بأسلحتهم المتواضعة وبسالتهم الهائلة، فتنكمش مدرعات كتائبه وتختبئ الصواريخ وتزول ألوان صوره المزركشة وكتبه الخضراء البلهاء، وعلى غراره مضى أولاده الذين كانوا يدركون وضاعة حقائقهم فيتحايلون عليها بالانتفاخ مثل أبيهم، لكن ليس فى أزياء ملك الملوك وديك الديوك وطاووس الطواويس، بل فى التسلى باقتناء النمور والأسود!
شىء عجيب ويدعو للتساؤل والبحث فى علم النفس المرضى: لماذا هذه الهواية بالذات فى اقتناء وترويض الوحوش لدى أبناء الأباطرة والطغاة؟ عدى صدام حسين كان مولعا أيضا بتربية الأسود! وكأنهم كانوا لا شعوريا يقومون بحيل نفسية تزيح عنهم الشعور بحقيقة الوضاعة وعتامة الفراغ والافتقار إلى أية جدارة حقيقية فى أنفسهم، فيوهمون أنفسهم بالقدرة على إخضاع الوحوش. لكنهم لم يكونوا حتى فى هذه يجرؤون على التمشى مع نمر مربوط أو أسد مكبل، بل يقفون عند حدود المنظرة بتلعيب الأشبال والجراء تحت عيون آلات التصوير! غيرهم من أبناء الطغاة كان يعوض شعوره بالنقص والخلو من كل موهبة وأى جدارة، بتقمص ملامح الخيلاء والتمنظُر بصولجان النفوذ والتطاول بأرقام الفلوس! فمن الجرذ اليوم؟
من الجرذ؟ والجرذان هى أدنأ الثدييات طباعا وسيرة، ناقلة براغيث الطاعون وقمل التيفوس عبر أوبئة التاريخ، وسارقة ثلث ما تنتجه البشرية فى البلدان الفقيرة من طعام، والتى تأكل لا لتغتذى وتشبع بل لتبْرُد أسنانها الأمامية حتى لا تواصل النمو فتعجز عن إغلاق أفواهها وتموت بأفواه مفتوحة. كائنات بشعة فى مملكة الحيوان قاطبة، تأكل صغارها إن جاعت، وتفترس إخوتها وأبناء نوعها إن عنَّ لها ذلك. كائنات وسخة فى عرف البشرية دون منازع، لهذا أوَّلت البشرية دموعها الضاربة إلى الحمرة بأنها بكاء بالدم. فما بال البشر الذين قادهم نهمهم وغرورهم وعبادتهم للسلطة والتسلط ونسيان الحق والعدل وكرامات الناس، إلى مصير البشر الجرذان؟
ثلاثمائة وسبعة عشر عاما مضت منذ كشف عالم التشريح السويسرى هاردير عن تلك الغدة فى محاجر عيون الأيائل التى تفرز ما يشبه دمعا دمويا تفيض به العيون خاصة عيون الجرذان، وخمسة شهور مرت منذ أطلق القذافى وصف الجرذان على أحرار شعبه عندما انتفضوا يرفضون قهر نظامه، واثنان وأربعون عاما من حكمه المتسلط والمستهبل والمستهتر واللئيم والكاذب والفاسد انصرمت بعد الجثوم الطويل الثقيل على صدر هذا البلد الطيب أهله. وها هى الأنفاق تحت أرض باب العزيزية تُظهِر من الجرذ اليوم؟ ومن تبكى عيونه، بدلا من الدموع دما من الندامة والمهانة وخسران الغرور وسفاهة الطمع؟
فمن الجُرذ اليوم ؟ تنذهل العيون وهى تشاهد العشرات من هذه العظايات طويلة الذيول التى تشبه السحالى تراقص النيران فى المدافئ فى برد شتاء الشمال الكابى الطويل الثقيل، تظهر كأنها تنبثق من ألسنة اللهب وتمور فى قلبها وفى قلبها تذوب ثم تختفى لتستقر أسطورتها فى حكايا الشماليين، عن العظايات عاشقة النار التى تولد من النار وتختفى فى النار، ولا يدركون سرها إلا متأخرا عندما تهدم المعرفة خرافة الأسطورة، وتكشف عن واقع أسطورة أخرى حيَّة فى قلبها، وتظل الدهشة ثمِلة بأعاجيب الحياة والكائنات.
إنه السمندل مرة أخرى، أو السمندر، أو السلامندر، لكنه ها هنا سمندر النار «salamander Fire» كما تسميه بعض المراجع العلمية ناهيك عن كتب العجائب والغرائب، بل إن كتب التراث العربى لم تفوِّت الإفتاء فى أمره، فسماه الجواهرى «السندل» وابن خلكان «السمند» وقالا إنه طائر! وقال عنه الدميرى صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى: «من عجيب أمره استلذاذه بالنار ومكثه فيها وإذا اتسخ جلده لا يُغسل إلا بالنار، وهو دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل يُنسج من وبرها مناديل إذا اتسخت ألقيت فى النار فتنصلح ولا تحترق»، وزعم آخرون أنه «طائر يبيض ويفرخ فى النار»! أما القزوينى فاكتفى بالقول «إنه نوع من الفأر يدخل النار»!
وإنه لسمندل، مجرد سمندل بائس من طائفة البرمائيات لا وبر له ولا ريش ولا يولد من النار ولا يرقص فى النار لكن ألسنة النار هى التى تلحق بأذياله كضربات قدر ينجو منها بأعجوبة من أعاجيب ضعفه وتعويضات هذا الضعف التى حباه بها خالقنا وخالقه الرحيم، فهذا البرمائى الضئيل الذى لا تتجاوز أقصى سماكته عند رأسه المدوَّر عن سماكة إصبع، ولا يزيد طوله على شبر بما فى ذلك ذيله المستدق الطويل، هو ككل السمندلات، يتزود جلدها المتغضن بغدد تفرز رطوبة لزجة تصطاد ما تيسر من أكسجين الجو وتذيبه فى قوامها وتنقله إلى داخل هذا الكائن من ذوات الدم البارد، أى التى تتغير درجة حرارتها الداخلية مع حرارة ما يحيط بها، تبرد إن بردت، وتسخن إن سخنت، لكنها قطعا لا تحتمل تطرفات برد الثلوج ولا سُعار حرارة النار!
كل ما فى الأمر أن هذه الكائنات الضعيفة عندما يباغتها برد الشمال القارس تبحث عن مخابئ تتوارى فيها من عصف الرياح الصقيعية وانهمار الثلوج اللادغة، ويتواكب أن تجد بعض مرادها فى كتل خشب الأشجار القديمة التى قطعها البشر وخزنوها فى أكواخ بجوار منازلهم، فتسارع هذه الكائنات بالاختباء فى شقوق هذا الخشب القديم، وعندما يُلقِم البشر مدافئهم بقطع الخشب وتشتعل، تقع الواقعة على أجساد هذه الكائنات الضعيفة، فتفر من الشقوق لتجد نفسها فى لهيب النار، لا تُراقصه ولا تُعاقصه، بل تبحث مذعورة حائرة متخبطة عن سُبل للهروب، فتبدو لعين البشر راقصة فى النار!
وهى لا ترقص فى النار، بل تحتمل جحيمها ملسوعة متقافزة حتى تنفتح لها أبواب الرحمة، وتنشط إفرازات الرطوبة اللزجة من غدد جلدها بغزارة استثنائية، فتعزل عن الأجساد الهشة هول السخونة والحرق حتى تتمكن من الهرب عبر مداخن المدافئ، وتظن أبصار البشر كليلة البصيرة أنها اختفت فى النار كما ظنتها من النار جاءت!
«ليست معجزة، لكنها قوانين لم تُكتشَف» هكذا تقول الحكمة الصينية عن الخوارق، ولا شك أن هناك خوارق فوق مستوى الإدراك البشرى، لكن المعرفة فى عميق إدراكاتها لا تبعدنا عن الإيمان بمعجزات الخلق، بل تقربنا من اليقين فى قدرات الخالق وتهدينا إلى التواضع ونبذ الكِبر، ثم إننا يمكن أن نقرأ عبر سطورها رسائل مهمة، سواء بالاتفاق أو المخالفة، وإننى لأقرأ عبر أسطورة هذا الصغير الضعيف الناجى من النار بيد القدرة، واقعا غريبا لطائفة من البشر مولعة بالرقص فى النار بالمعنى المجازى لأحوالهم النفسية. بشر تفتقد نفوسهم الطمأنينة برغم ما يبدونه من مظاهر الاستقرار والتوازن ورسوخ اليقين، وهم عِوضا عن أن التماس موارد الطمأنينة ليرتوا منها فتطمئن نفوسهم، يسعون بوعى أو بلاوعى إلى بث عدم الطمأنينة فيما حولهم. وهم فى تسعيرهم لنيران القلق هذه، لا يتورعون عن التلويح برايات تشنجاتهم مستخدمين فى ذلك كل مزاعم احتكار الصواب، سواء كانت دينية متعصبة أو دنيوية متخشبة.
نحن فى لحظة وطنية حرجة بالفعل، وهى تستتبع الانتقال من إيحاءات الأمثولة إلى صريح الرأى، فمن أمثولة سمندل النار هذه نستبين نوعا من البشر لديهم ولع حقيقى بالرقص فى النيران، نيران المعاظلة والعنف فى القول أو الفعل، وتسعير الخلاف حيثما حلوا، لأنهم لا يطيقون اختلافا معهم أو عنهم، فهم طاقة استبداد وتسلط فى نهاية الأمر. ومن العجيب أنهم يخرجون كما سمندل النار من الشقوق، شقوق عتامة تطرفاتهم الفكرية وتأويلاتهم الجانحة، سواء كأيديولوجيا سياسية أو ادعاء دينى، وبرغم التباين الشاسع بين مظاهرهم ومخابرهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلا أنهم ينطوون تحت التركيبة النفسية ذاتها، تركيبة المتعصب، المتيبس، الجامد، الذى لا يشع طمأنية ولا يعكسها لأنه لا يمتلكها ولا يسعى لامتلاكها. وهؤلاء هم وقود فتنة التاريخ، وفتنة لحظتنا الحاضرة.
لقد هممت بأن أذكر نماذج من هؤلاء وأولئك من مدمنى الرقص فى نار الشقاق والتكاره، لكننى اهتديت إلى سبيل آخر لنبذ هذا السوء، لا بتحديده ورفضه، بل بالإشارة إلى نقيضه وتثمينه، ونقيضه بشر أسوياء جميلين يعرفون حدودهم تحت سماء الله الرقيقة الرحيبة التى نختنق ونحترق إن تجاوزنا أجواز زرقتها الخفيفة، ويعرفون حدودهم على أرض ربنا التى لا نحيا على سطح ألواحها التكتونية الواهية العائمة على جحيم من صُهارة إلا برحمة من لدنه، ومن ثم تجد فى هؤلاء البشر الجميلين المتواضعين رحمة بأنفسهم وبأوطانهم والناس، كل الناس. وتجد فيهم تسامحا، وأفقا سياسيا واجتماعيا ودينيا ودنيويا رحيبا، وأذكر منهم على سبيل الأمثلة لا الحصر: مجموعة الشباب العذب ممن يُسَمَّون «سلفيو كوستا» فى انفتاحهم وتعايشهم المتسامح مع المختلفين عنهم، والدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح فى فهمه الراقى لثقافة ما بعد العلمانية، والدكتور عبدالجليل مصطفى وموازنته المسئولة عن حدود الاحتجاج ومراعاة المخاطر الوطنية والصالح العام للأمة، وكثيرين من شباب الإخوان وبعض كبارهم، كما كثيرين من شباب اليساريين والليبراليين وبعض كبارهم، وليس أخيرا كل هؤلاء الذين يقبلون الخير أنَّى كانت مصادره كما فى مسألة الاتفاق على مبادئ عامة لدستور جامع لكل أبناء الوطن الواحد، ناهيك عن الأغلبية الساحقة من المصريين الوسطيين بطبيعتهم، من كل الطوائف والمشارب والطبقات، الذين امتعضوا من تلويح رايات قلة شيوعية بلهاء فى الميدان، وفزعوا من تشنجات وهتافات تعصب وعدوانية غُلاة الوهابية فى الميدان نفسه.
متى نصل إلى حقيقة أن مدمنى الرقص فى جحيم الأنفس مفتقدة الطمأنينة بكل ألوانهم واشكالهم ومقولاتهم وراياتهم وتعصباتهم وجمودهم ما هم فى بحر الثمانين مليونا أو يزيد إلا قلة، بينما مطمئنو النفوس عاشقو الأنوار من كل الاجتهادات والمشارب كثرة، ومتى ننحى أو نحيِّد قلة مدمنى الجحيم النفسى حتى لا يدمروا لحظتنا ويصادروا الغد، ونفسح المدى لعشاق الضياء، صعودا نحو أفق أفضل وأجمل وأرحم؟
أمامنا الكثير من الخير الذى يتوجب علينا أيها الناس مباشرته والتبكير فى إنجازه، وعدم الإفساح لسخافات المولعين بمراقصة النار حتى لا يُعاق هذا الإنجاز: بناء ديمقراطى فيه الخير لكل الناس، يصون حقوق الإنسان أشرف المخلوقات، ويصون حق المواطنة للجميع كموقف أخلاقى دينى ودنيوى معا، ويضمن تداول السلطة ودولة القانون وِقاء من أى تسلط وسطوة، وهذا يعنى التأسيس لمبادئ دستور جامع اتفق فيه كل الفرقاء على أن تكون المادة الثانية فيه مصونة، كما رحَّب إسلاميون عدول بأن تضاف للدستور المأمول مادة تصون حقوق غير المسلمين . فأين المشكلة؟ وأين فى ذلك فزاعة ما يسميه البعض التفافا على إرادة الأغلبية إذا كان هذا التوافق يصون حقوق الأغلبية كما الأقلية، وسواء بشرت به مسودة مبادئ دستورية أو إعلان دستورى جديد؟!
وبموازاة ذلك البناء الديمقراطى، أمامنا، ودون إبطاء أيضا، الشروع فى بناء نهضوى حضارى، اجتماعى واقتصادى وثقافى تحدياته كثيرة نعم، نعم تحدياته كثيرة وخطيرة بعد كل التخريب والنهب الذى اقترفه (وولداه وعصابة المنتفعين من استبداده وفساده) ذلك النائم اللاهى الآن على سرير طبى فى قفص المحاكمة الأخيرة المشهودة، لكننا نستطيع.
نعم، لو أخلصنا النية ونقينا الإرادة: نستطيع. كلاهما فى الدنيا ضعيف، لا هو سابح من كائنات الماء، ولا هو زاحف من كائنات اليابسة، يعودان إلى أصلهما الماء ليكملا دورة التناسل، فتفقس بيضاتهما شراغف تشبه الأسماك فى عيشها وتنفسها من الخياشيم، ثم تكبر لتخرج إلى البر، فتنبثق فى صدورها رئات، لكنها تكون ضعيفة لا تكفى أبدا لتنفسهما من هواء الدنيا، فيعوضان عجزهما بالتنفس من الجلد، وحتى يحصلا على مزيد من الأوكسجين فلابد أن يكون ذائبا فى الماء، لهذا تظل جلودهما منداة بفعل غدد للترطيب يختصان بها، أحدهما يغادر طور طفولته فيتلاشى ذيله ويصير ضفدعا، والآخر يظل يسحب ذيله بجسمه المستدق المتطاول فيبدو من السحالى، لكنه سمندل، أو سمندر، أو سلامندر!
وهاهما يتواجهان، كمفترس وفريسة، وليس لديهما من أدوات القنص غير لسانين غريبين على غير عادة ألسنة معظم الكائنات، فلساناهما مثبتان فى طرف أفواههما لا نهاية الحلوق، يقذفان لسانيهما المدججين بلزوجة كثيفة وطرف عضلى فيمتد اللسان كأنشوطة لحمية ويختطف الفريسة بسرعة البرق، وبسرعة البرق يعود بها إلى جوف الفم الذى لا عظام فيه، فتُبتلَع بلا مضغ لتهضمها الأمعاء. فأيهما سيلتهم الآخر؟
يقف الضفدع مثل هضبة مختالا بحجمه الذى يعادل عشرة أضعاف حجم هذا النوع الضئيل من السمندل، ويثبت السمندل فى مواجهة الضفدع فتانا بلون جلده المرقش بصفرة فاقعة على سواد حالك لامع، تطرف أعينهما البارزة ليس كما تطرف الأجفان، بل لأن كلا منهما يتلمظ للفتك بالآخر، فعيونهما ليس لها محاجر عظمية تستقر فيها، بل هى سائبة تتحرك ما تحرك الحلقوم، فكأن كلا منهما يهدد الآخر: «سآكلك»؟!
«سآكلك» تؤكد حركة عيون الضفدع التهديد، فيرد السمندل بنظرة عينين صغيرتين بارزتين فى سكون متحد: «كلنى»! وبرغم الوعى الموروث فى فطرة الضفدع بما يمثله تزاوج اللونين الأصفر الفاقع والأسود الخالص من نذير، إلا أن السمندل يفتنه ويطيح بحذره، وبسرعة البرق ينقذف لسان الضفدع مثل حربة لحمية فيختطف السمندل ويلقى به فى الفم الكبير لينزلق إلى الجوف المظلم. تبدو المواجهة قد حُسمت، لكن هيهات!
بعد دقيقتين يتقبض جسد الضفدع لا تقبض جسد مُتخَم يهضم صيده، بل تقبض عاصفة تحرق جوف هذا الجسد، ثم يسكن سكون الموت بفم مفتوح، وإذا بترقيط اللونين الأصفر والأسود يطل من فم الضفدع الميت، وها هو السمندل يخرج سليما حيا من جثة غريمه. فلم يكن السمندل منذ البداية يقف موقف المواجهة مع الضفدع، بل يتخذ هيئة الفتنة، يغويه تحت ستار التحدى هاتفا: «ابتلعنى»، فابتلعه، وكلاهما كانا مطمئنا إلى مكمن قوته، الضفدع يثق فى كبر حجمه النسبى ورنين نقيقه العالى، والسمندل يثق فى فتك ما يضمره جلده من سم، فجلد السمندل شديد التجعيد يخفى غددا سامة سرعان ما تنشط مع بدء عصارات الهضم اللاذعة فى جوف الضفدع بالعمل.
يموت الضفدع مسموما فى دقيقتين بينما السمندل فى جوفه يتحرك، وها هو السمندل فى الدقيقة الثالثة يخرج خروج الحى من الميت مزهوا بنصره، لكنه لا يكون إلا نصرا فاتنا وزائلا!
لا أعرف لماذا وجدت سيرة السمندل تطاردنى هذا الأسبوع، ربما لأنه كان أسبوعا أحسست فيه بوطأة الفتنة من حولنا، بكل ما تنطوى عليه كلمة الفتنة من معانى، فالفتنة تتضمن معنى الإعجاب والاستهواء والتوله، كما تعنى الابتلاء والاضطراب والضلال، والشيطان فتان، والوسواس فتان الصدور، وفى السمندل كل ذلك، لكن فتنته ليست إلا نتيجة ضعفه الخلقى، فمن أين أتتنا الفتنة التى شعرت بها ثقيلة رذيلة هذا الأسبوع، حتى إنها ألجأتنى إلى العود لتأمل غرابة المخلوقات لعلى أفهم غرائب البشر.
لماذا انحدرنا إلى هذا الأداء المشوه بعد أن أنجزنا ثورة تاريخية فاتنة بكل معانى فتنة الجمال؟ لا سبب أراه عبر تأملى لفتنة السمندل، إلا أننا ابتُلينا بمن يُفتتَن بيننا ببوارق القوة لا أنوار الحق، والقوة حين تسبق الحق وتعتليه تصير مثل ثقة السمندل فى قوة فتك السموم فى جلده، ومثل غرور الضفدع فى قوة حجمه مقارنة بحجم سمندل ضئيل. صحيح أن السمندل قتل الضفدع الذى شرع فى قتله، لكنه كان قتل قريب لقريب، وهو خرق لسلامة الفطرة ينذر بسوء العاقبة للجميع!
الآن أتصور أن الفارق الحاسم بين مجتمعات البشر الأرقى ومجتمعات الكائنات الأدنى يكمن فى أن الديمومة البشرية تغذيها روح التشارك والتعاون والتآلف، سواء بإلزام القانون الذى لا يعرف الاستثناء، أو بروح التحضر المتجذرة فى الأعماق، أو بكليهما معا، ليستقر فى النهاية «سلم أهلى» لا غنى عنه لاستمرار ونماء هذه المجتمعات. أما فى كائنات البرارى والغابات والأحراش، فثمة قانون آخر يتسق مع محدودية أدوات الفتك لدى هذه الكائنات، فأشد أنواع الأنياب والمخالب دموية، تظل فقيرة بائسة إذا ما قورنت بما ابتدعته قريحة الإنسان من أدوات الفتك وأسلحة الدمار وفخاخ المكر.
كائنات البرية الأدنى تخرج كل صباح أو كل مساء لتبحث عن فريسة تتغذى بها، فيما تكون هى نفسها عرضة للافتراس من وحش أكبر. ليس ثمة مفاضلة هنا بين الحق وبين القوة، فالقوة هى الحق الذى ينظم مسيرة البرارى والغابات لأنها فى النهاية قوة محكومة بتدبير إلهى أعلى، ومنظومة فى دائرة من نقاط يكمل بعضها بعضا، ومن ثم لا يحتاج النمر أو الغزال أو الأفعى أو البعوضة أو العصفور أو الدودة ميثاقا يرسم الحدود الفاصلة بين تضارب الرغبات، لأن الرغبات نفسها محدودة بقانون الاكتفاء الغريزى، فالأسد لا يفترس غزالا وهو شبعان، حتى لو كان فى مرمى مخالبه أو أنيابه، والغزال يعرف ذلك، وأشهد أننى رأيت فى غابة «إيتوشا» سربا من الغزلان يجاور عائلة من الأسود حول بركة الماء، يرتويان معا فى حالة من «السلام الاجتماعى» العجيب، لأن الأسود كانت مشبعة بوجبة من جاموسة برية التهمتها لتوها وهى لا تريد المزيد حتى لا تهلكها التخمة، غريزتها تنبهها إلى ذلك وهى تمتثل للتنبيه، والغزلان بدورها تشم رائحة شبع الأسود فتطمئن، وترين على الغابة هدنة فطرية تصون استمرار الحياة فى مجتمعات قانونها «إما آكل أو مأكول»، قاتل أو مقتول!
الآن أتصور أننى فهمت سر هذه الفجاجة التى تصطخب هاهنا بعد أن بلغنا ذروة من الرقى البشرى جسدتها أيام الميدان البكر وقواه الباسلة النقية الأولى، فقد كان هناك فى أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة إعمال لقانون الحق فوق القوة والانتصار للمجموع لا للذوات، سواء الذوات الفردية أو العصابية أو التنظيمية، لكننا انحدرنا إلى فظاظة طلب القوة قبل الحق، بل طلب القوة بغوغائية ومكر أسخم من سم السمندل المخبوء فى جلده. فتنة بدأتها قوى كانت واقعيا ضد الثورة، وانساقت إليها بعد ذلك قوى تفانت صادقة فى صناعة الثورة!
إن مشهد فتنة السمندل حيث الاستقواء بين قريبين بالحجم فى جانب وبالمكر فى جانب آخر، لا يعلن انتصارا نهائيا لطرف على طرف، فمثل هذا الخرق لقوانين الفطرة لا يمر دون عقاب شامل، فالسمندل سرعان ما يلتحق بمصير الضفدع، لأنه وقد فتنته قوة السم فى جلده، يظن أنه يستطيع إغراء أى كان بابتلاعه ليقتله بسمِّه، لكن هذه المعادلة تخيب عندما يفتن السمندل حية رقطاء فيغيب فى جوفها لتهضمه بكل ما فيه من سموم وغيوم!
هناك فى مصر الآن من يصر على الفتنة، وما دامت سوية الفطرة تتراجع أمام ادعاء الغلبة بالكثرة أو الارتكان إلى فعالية السموم المُضمَرة، وكلها أنماط من تسييد القهر بالقوة، فلابد من إحقاق الحق بتعاهد توافقى لا يزدريه إلا ظالم. تعاهد على قيم جامعة وحاكمة بالحق الذى يرتضيه الإنسان والرحمن، ولا أظن حق الموطنة وحقوق الإنسان وضمان تداول السلطة وديموقراطية الدولة المدنية الحديثة الطامحة للعدل والحرية والنهوض إلا مسالك إنسانية لا تجافى الفطرة، وتنجينا من شر المهالك.. مهالك فتنة اللحظة، وشتات المستقبل.
maboeleneen@yahoo.com
مُجابهة التمويظ
أضف تعليقك تعليقات : 12
آخر تحديث: الخميس 3 نوفمبر 2011 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة
التمويظ الذى عنيته حيال الاقتتال الفلسطينى الفلسطينى من قبل، والذى أعنيه حيال الاشتباكات المصرية المصرية حاليا، هو نظير ما يحدث بين اثنين من ثيران الموظ يتنافسان بغباوة للفوز بأنثى مغوية، فينتهيان إلى مصيدة ذاتية تقرر لهما نهاية بشعة، وأبشع منها ذلك التهديد الذى تستدرجه هذه النهاية الفردية لأمن الجماعة ككل، وهذا يحدث فى عالم «الموظ»!
والموظ، كما أسلفت، نوع من الأيائل الضخمة ذات الظلف تحيا فى منطقة المراعى القطبية الشمالية، أو «التوندرا»، والتى تغطيها الثلوج معظم السنة باستثناء ثلاثة أشهر لدفء محدود لا ترتفع درجة الحرارة فيه على 10 درجات مئوية، تسمح بالكاد بنمو غطاء عشبى شديد الفقر، وتدفئ الدماء فى عروق ذكور الموظ، فتنبت فى رءوس هذه الذكور قرون تنمو بسرعة عجيبة، تتسع وتتشعب ويكسوها زغب قطيفى، لتبدو كأزواج من مظلات جريدية مفلطحة تتوج الهامات! وهى ليست مظلات فقط، بل هى أجهزة تكييف مدهشة، تسحب الحرارة من داخل الجسوم، وتبددها عبر الزغب، فيبرد الجسم الحرّان ويُنفِّس عنه الكثير مما يتسلل إليه من «سخونة» الجو.
آلية ربانية مذهلة العبقرية لمنع غليان الدماء فى عروق كائنات متآلفة مع الصقيع والجليد وشديدة الحساسية للحرارة، خاصة الذكور الذين تهدد الحرارة النسبية الزائدة خصوبتهم، ولعل هذا هو السر الإلهى فى اختصاص الذكور دون الإناث بهذه القرون المُبرِّدة، لكن التنافس الذكورى الدميم يجلب الغليان السلوكى لرءوس بعض الذكور، فلا نعدم موظين فحلين تعميهما غواية الاستئثار بموظة مغرية، يندفعان فى العراك متناطحين بقرونهما المُحلِّقة، وتكون لتناطحهما ضوضـــاء تمــــــلأ الآفاق وتشـــــل حركـــــــــة القطيع رعبا من هول التناطـــح، فيعجــــــز آباء القطيــــــع وأمهاتــــــــه عن إيقاف الاقتتال.
لا يستمر القتال بين الموظين طويلا بل يخمد كالنار التى تأكل نفسها بنفسها، ويرتمى الفحلان على الأرض معا وفجأة، فقد تشابكت قرونهما تشابكا لا قدرة لهما ولا لغيرهما على فك التحامه. ولا يكون أمام القطيع المصدوم إلا تركهما والمضى بعيدا عن بقعة ورطتهما المشئومة، فثمة ضرورات لسد الجوع وإرواء العطش وإرضاع الصغار من حليب ما تأكل الأمهات وتشرب، وثمة رعب متوقع من الضوارى التى ستجذبها أصوات وروائح لهاث فريستين، مكبلتين بالقرون، وجاهزتين للأكل!
فى عراء «التوندرا» التى تعصف بها الرياح الباردة الهُوج، يواجه الموظان المشتبكان مصيرين لا ثالث لهما: إما أن يموتا فى المكان جوعا وعطشا ثم ينتفخان وينفجران وتجذب روائح عفنهما ضباع الشمال وعقبان الثلوج وديدان الأرض. وإما أن يتم نهشهما حيين بأنياب ثعالب الثلج وذئاب الجليد ومخالب الدببة القطبية، وهى أنياب ومخالب لا تشبعها وجبة واحدة من موظين، لأن لواحم المنطقة القطبية الشمالية كما معشبيها، لا تأكل لمجرد الشبع، بل تأكل لتكدس رصيدا من الشحم واللحم تسحب منه ما يبقيها على قيد الحياة طوال أشهر الشتاء البارد المعتم الطويل، فبعد أن تقضى الضوارى على الموظين المربوطين بالقرون، ستهاجم بقية القطيع، وتفترس منه الدانى والطرى والبطىء، أى الصغار. لهذا لا تأسى جماعة الموظ على الغبيين المطروحين على الأرض، فتسارع بالفرار لتنجو بصغارها وكبارها، مصغية لنداء الحياة والنجاة، وملبية دعوات أرض الله الواسعة، الواعدة بالأمان والعشب.
هذه الهجرة التى تنقذ جماعة الموظ من دفع فاتورة دامية ثمنا لغباوة ذكرين منتسبين لها، تمثِّل ترفا يعز على المجتمعات البشرية المأزومة بل يستحيل، فالدنيا باتت مثقلة بسكانها الذين بلغ تعدادهم يوم الاثنين الماضى سبعة مليارات نسمة، ثم إن هناك حدودا وجوازات سفر وتأشيرات دخول، وما من هجرة بغير ذلك إلا بزوارق متهالكة تغرق بمعظم راكبيها قبل أن تبلغ شواطئ الحلم أو الوهم. فماذا يفعل الناس أمام جرائم التمويظ البشرى الذى يرتكبه أفراد كذبة لغايات شخصية دنيئة واضحة، ليس من بينها أبدا تلك الغايات التى تحركها دوافع مشروعة لدى ذكور حيوانات الموظ، فى نطاق غريزة التزاوج وهدف استمرار النوع. فماذا تفعل الجماعة البشرية حيال أمواظها البشر؟
ماذا تفعل جماعة المصريين حيال اشتباكات غبية وأنانية لأمواظ من المصريين، يقامرون بأمان ونهوض أمة، ليحوذوا نفوذا تتشهاه نفوسهم النرجسية وينالوا سلطة تتلمظ عليها ساديتهم المخبأة؟ ماذا تفعل الأغلبية المصرية التى يتاجر فيها طائفيون متعصبون، وفئويون متربصون، وذيول وفلول.. جميعهم لا يبتغون وجه الحق، بل يتطلعون إلى طيف سلطة، أى سلطة، وصولجان تسلط؟!
ماذا يفعل سرب أمتنا الممثل للأغلبية الصامتة فى مواجهة عبث وجنوح وإجرام تلك الاشتباكات والتقاذفات العدوانية التى تنتشر فى أكثر من موقع، وتجتذب إليها أكثر من شر؟ ومنها، على سبيل المثال الصارخ الواضح الفاضح القريب: ما يحث من تحريض وإزكاء لنار الفتنة بين القضاة والمحامين، ويرتكبه أفراد محددون واضحو الدوافع الشخصية المتهافتة أو خفيو النوايا التخريبية اللئيمة، دون أى اعتبار من ضمير لصالح الأمة المُرهَقة التى تنشد الطمأنية وترتجى الأمان، ولا يسأل معظم أبنائها الله إلا الستر والعافية؟
هل ينتبه الطيبون والمخلصون والشرفاء الكُثر فى جماعة المحامين كما جماعة القضاة، أن ذلك الاشتباك الذى ظاهره الكرامة الفئوية، إنما يصب فى صالح حفنة من المحرضين من الجانبين ويفتك بقلب الدولة؟ وهل هناك قلب للدولة أكثر وجيبا من جناحى العدالة الممثَّلين بالقضاء والمحاماة، بعد أن قصم المُجرمون ظهرها الأمنى ولا يزالون يفعلون؟ أم أن الشعور بالمسئولية الوطنية والأخلاقية والروحية التى هى فوق كل الذوات المنتفخة بأناها، باتت فى خبر كان، ومن ثم صارت كينونة الأمة فى خطر فوضى تبرر أو تمهد لصرخة الفزع الأكبر، وطلب الأحكام العرفية؟!
نسأل الله بحق هذه الأيام المباركة أن يراجع مشعلو الحرائق أنفسهم فى رحاب أيام العيد التى تغسل بالروحانية والود أدران النفوس، وإن لم يفعلوا فلتكن لنا عنهم هجرة جماعية، لا كهجرة جماعة أيائل الموظ بعيدا عن فخاخ وتهديد حماقة بعض فحولها، ولا كهجرة زوارق الغرق إلى شواطئ غريبة باتت مكتظة بأصحابها، بل هجرة فى هجران يبتعد بنا عن كل هذا الشر الذى يستسهل إيقاد نيرانه مشعلو الحرائق هؤلاء، من كل لون وصنف وملة.
ألف يوم من الإشراق اللُغوى
أضف تعليقك تعليقات : 12
آخر تحديث: الجمعة 28 أكتوبر 2011 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة
توصف جريدة «الشروق» كثيرا بأنها «جريدة الثورة»، ربما لانحيازها الذى لا تردد فيه لثورة 25 يناير منذ يومها الأول، وهو انحياز تجذر فى توجه الجريدة منذ بدايتها، لكنه فى أيام الثورة شكَّل ظاهرة لم تغفل عنها عين النظام السابق ولا تابعيه وتابعى التابعين، وليس أدل على ذلك من أن أول ملامح العدوانية يوم موقعة الجمل، كان الحصار الذى أحاط به بلطجية أنصار مبارك مبنى الجريدة وهم فى الطريق من ميدان مصطفى محمود إلى ميدان التحرير، حيث صرخوا بالشتائم وهددوا بالقبضات والعصى، لكنهم اضطروا للانصراف أمام احتشاد سكان الحى وبنات وأبناء الجريدة الشباب للدفاع عنها، إضافة لأن هذا الرافد من بلاطجة النظام الساقط كانت وراءه مهمة أضخم وأفظع، بدأها بالترويع ممتطو الجمال والبغال نهارا، واختتمها بالقتل قناصو الليل.
كل هذا حقيقى، لكن هناك حقيقة ربما تكون خافية عن أعين كثيرين فى مسيرة شروق الألف يوم، وهى تنتمى إلى ثورة من نوع خاص جدا فى إطار مهنة الصحافة والكتابة فى الصحف، والتى أصابها ما أصاب شئون شتى فى بلادنا من تدهور ونكوص فى ظل الحكم الساقط، والذى لم يكن فى رأيى مستبدا وفاسدا فقط، بل كان منحط الأداء وفقير الكفاءة، مما أصاب البلاد بعدواه، وتجلى هذا فى قطاع التعليم ضمن قطاعات مختلفة، وأبرز ملامحه كان تدهور وانحطاط الأداء اللغوى، خاصة فى الصحافة والإعلام، ولقد رأيت فى قسم التصحيح اللغوى فى إحدى الصحف الحكومية الكبرى فضائح لغوية تدارك الكثير منها المصححون الذين حشروهم فيما يشبه قبو كئيب بتلك الجريدة برغم بسالة ما يقومون به، ولولا إعادتهم لصياغة وتصحيح ما كتبه كتبة النظام الساقط الكبار، لبدا الأمر من مساخر الدنيا والزمان، ومع ذلك لم يكن هؤلاء الجنود المجهولون فى قباء التصحيح بقادرين على تدارك كل ذاك السيل من ذلك الغثاء اللغوى فى الصحافة، فطفح منه على السطح الكثير، أما الإعلام المرئى والمسموع، فحدث ولا حرج، وإن كان اللجوء إلى لغة الشوارع قد وفّر ملاذا لهؤلاء الضالين عن لغتنا الجميلة.
لقد أصاب اللغة العربية تدمير مزمن، حتى بدا للبعض أنها أعجز ما تكون عن الوفاء ببعض ما تتطلبه الكتابة فى الصحافة من سلاسة وتوصيل وضحك وبكاء، وتطاولت قامة الركاكة، فلم نعد نحظى فى كتابات كثيرة وإلقاءات أكثر، لا بلطافة العامية الذكية، ولا نصاعة الفصحى النبيلة. لهذا أرى أن «الشروق»، على وجه الإجمال، قد اتخذت لنفسها خطا تصحيحيا للخروج من هذا الحصار الخانق للركاكة. ولعل مفرزة كتاب الجريدة الكبار، هى القاطرة التى شدت الأداء الصحافى اللغوى نحو ارتقاء مختلف عن معظم السائد. فثمة وجبة يومية من الفصاحة ظل يقدمها الكاتب الكبير فهمى هويدى أيا كان اتفاقك أو اختلافك مع ما يكتبه، وثمة وجبات غير يومية لكتاب مختلفى المشارب ساروا على الدرب اللغوى نفسه منهم الكبير النضير الأستاذ سلامة أحمد سلامة والدكتور جلال أمين، وأظننى ومعظم كتاب الأعمدة كذلك. وفى السياق ذاته، أرى أن شباب الكاتبات والكتاب فى «الشروق» يتخذون هذا المنحى الطيب نفسه.
لقد أثبتت مسيرة الألف يوم من «الشروق» أن للارتقاء اللغوى جمهوره الواسع، وأن الترخُّص اللغوى ليس وسيلة انتشار حتمية حتى فى ظروف الانحدار. وأعتبر هذا إنجازا ثوريا لجريدة ينعتها كثيرون بأنها جريدة الثورة، وهى من زاوية الرؤية التى أنظر بها إليها الآن: ثورة على ابتذال لغة الكتابة، وتشبث بجمال الفصحى الطيعة الحية وجلالها، وهذا ليس بالشىء القليل فى مضمار الارتقاء بالذوق والتدرع بالهوية. وهل الثورة إلا طموح للارتقاء وصيانة لجوهر الهوية.
لقد نسى كثيرون أو تناسوا أن الصحافة المصرية فى ذُراها قامت على أعمدة أصحاب لغة عربية عالية ودانية القطوف، مثَّلها عمالقة فى الأدب والثقافة والسياسة منهم طه حسين والعقاد وسلامة موسى وأحمد حسن الزيات وإبراهيم المازنى. ولعل أهم ما يسطع من أسطورة الصحافة المصرية الحية بيننا الآن، الأستاذ محمد حسنين هيكل، تمثله لغته العربية القوية والمبينة والأنيقة فى آن.
هانحن نتم ألف يوم بألف إصدار من «الشروق»، ولم تكن أناقة الماكيت الأساسى، ولا نوافذها المشرعة على كتابة عمالقة الصحافة فى العالم، ولا انحيازها الحاسم للثورة، منذ إرهاصاتها الأولى ثم ميادينها الحاشدة، إلا منظومة ما كان لها أن تُكتمل، إلا بأداء ثورى فى اللغة، لابتحطيمها وهى محطمة، ولكن بجبر كسورها وتمتين مبناها وتحديثه. وأظن أن «الشروق» أنجزت شيئا ملحوظا من هذا على امتداد ألف يوم، نتمنى لها آلافا أخرى من الفصاحة المُتاحة، فى لغة لا ينبغى إهدار غِناها.. ولا غُناها.
كل هذا حقيقى، لكن هناك حقيقة ربما تكون خافية عن أعين كثيرين فى مسيرة شروق الألف يوم، وهى تنتمى إلى ثورة من نوع خاص جدا فى إطار مهنة الصحافة والكتابة فى الصحف، والتى أصابها ما أصاب شئون شتى فى بلادنا من تدهور ونكوص فى ظل الحكم الساقط، والذى لم يكن فى رأيى مستبدا وفاسدا فقط، بل كان منحط الأداء وفقير الكفاءة، مما أصاب البلاد بعدواه، وتجلى هذا فى قطاع التعليم ضمن قطاعات مختلفة، وأبرز ملامحه كان تدهور وانحطاط الأداء اللغوى، خاصة فى الصحافة والإعلام، ولقد رأيت فى قسم التصحيح اللغوى فى إحدى الصحف الحكومية الكبرى فضائح لغوية تدارك الكثير منها المصححون الذين حشروهم فيما يشبه قبو كئيب بتلك الجريدة برغم بسالة ما يقومون به، ولولا إعادتهم لصياغة وتصحيح ما كتبه كتبة النظام الساقط الكبار، لبدا الأمر من مساخر الدنيا والزمان، ومع ذلك لم يكن هؤلاء الجنود المجهولون فى قباء التصحيح بقادرين على تدارك كل ذاك السيل من ذلك الغثاء اللغوى فى الصحافة، فطفح منه على السطح الكثير، أما الإعلام المرئى والمسموع، فحدث ولا حرج، وإن كان اللجوء إلى لغة الشوارع قد وفّر ملاذا لهؤلاء الضالين عن لغتنا الجميلة.
لقد أصاب اللغة العربية تدمير مزمن، حتى بدا للبعض أنها أعجز ما تكون عن الوفاء ببعض ما تتطلبه الكتابة فى الصحافة من سلاسة وتوصيل وضحك وبكاء، وتطاولت قامة الركاكة، فلم نعد نحظى فى كتابات كثيرة وإلقاءات أكثر، لا بلطافة العامية الذكية، ولا نصاعة الفصحى النبيلة. لهذا أرى أن «الشروق»، على وجه الإجمال، قد اتخذت لنفسها خطا تصحيحيا للخروج من هذا الحصار الخانق للركاكة. ولعل مفرزة كتاب الجريدة الكبار، هى القاطرة التى شدت الأداء الصحافى اللغوى نحو ارتقاء مختلف عن معظم السائد. فثمة وجبة يومية من الفصاحة ظل يقدمها الكاتب الكبير فهمى هويدى أيا كان اتفاقك أو اختلافك مع ما يكتبه، وثمة وجبات غير يومية لكتاب مختلفى المشارب ساروا على الدرب اللغوى نفسه منهم الكبير النضير الأستاذ سلامة أحمد سلامة والدكتور جلال أمين، وأظننى ومعظم كتاب الأعمدة كذلك. وفى السياق ذاته، أرى أن شباب الكاتبات والكتاب فى «الشروق» يتخذون هذا المنحى الطيب نفسه.
لقد أثبتت مسيرة الألف يوم من «الشروق» أن للارتقاء اللغوى جمهوره الواسع، وأن الترخُّص اللغوى ليس وسيلة انتشار حتمية حتى فى ظروف الانحدار. وأعتبر هذا إنجازا ثوريا لجريدة ينعتها كثيرون بأنها جريدة الثورة، وهى من زاوية الرؤية التى أنظر بها إليها الآن: ثورة على ابتذال لغة الكتابة، وتشبث بجمال الفصحى الطيعة الحية وجلالها، وهذا ليس بالشىء القليل فى مضمار الارتقاء بالذوق والتدرع بالهوية. وهل الثورة إلا طموح للارتقاء وصيانة لجوهر الهوية.
لقد نسى كثيرون أو تناسوا أن الصحافة المصرية فى ذُراها قامت على أعمدة أصحاب لغة عربية عالية ودانية القطوف، مثَّلها عمالقة فى الأدب والثقافة والسياسة منهم طه حسين والعقاد وسلامة موسى وأحمد حسن الزيات وإبراهيم المازنى. ولعل أهم ما يسطع من أسطورة الصحافة المصرية الحية بيننا الآن، الأستاذ محمد حسنين هيكل، تمثله لغته العربية القوية والمبينة والأنيقة فى آن.
هانحن نتم ألف يوم بألف إصدار من «الشروق»، ولم تكن أناقة الماكيت الأساسى، ولا نوافذها المشرعة على كتابة عمالقة الصحافة فى العالم، ولا انحيازها الحاسم للثورة، منذ إرهاصاتها الأولى ثم ميادينها الحاشدة، إلا منظومة ما كان لها أن تُكتمل، إلا بأداء ثورى فى اللغة، لابتحطيمها وهى محطمة، ولكن بجبر كسورها وتمتين مبناها وتحديثه. وأظن أن «الشروق» أنجزت شيئا ملحوظا من هذا على امتداد ألف يوم، نتمنى لها آلافا أخرى من الفصاحة المُتاحة، فى لغة لا ينبغى إهدار غِناها.. ولا غُناها.
بؤس المسار وبئس المصيـر
أضف تعليقك تعليقات : 13
آخر تحديث: الخميس 27 أكتوبر 2011 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة
فى 25 أغسطس الماضى نشرت هذا المقال تحت عنوان «ودموع الجرذان دم»، وها هى صور القذافى عند نهايته الفاجعة، يظهر ووجهه ملطخ بالدم. فأعيد نشر المقال دون أن أزيد عليه غير فقرة فى النهاية، لأربط بين مرارة التنبؤ، وقسوة المآل، والأسى على الفطرة البشرية التى شوهها هؤلاء الطغاة شائهى الفطرة، حتى أننا بتنا لا نشفق على نهاياتهم الذليلة ولا على دمهم المسفوح، بل نمتعض!
منذ ثلاثمائة وسبعة عشر عاما بدأ الكشف عن سر الدموع الحمراء، ففى عام 1694 كان عالم التشريح السويسرى «جوهان جاكوب هاردير» يدقق فى فحص محاجر عيون بعض الأيائل التى يجرى عليها أبحاثه، وعثر على غدة خلف العين فى مؤخر المحجر تفرز سائلا دهنيا يتحول إلى قشور حمراء داكنة عندما يجف، فنشر ورقة بحثية عنوانها «غدة دمعية جديدة فى عيون الأيائل السمراء والحمراء»، ومن ثم حملت الغدة فى المراجع الطبية إلى يومنا اسمه: «غدة هاردير»، لأنه كان أول من اكتشف وجودها، وصنفها كغدة دمعية، ومن بعده توالى اكتشاف دقائق أسرار هذه الغدة فى عيون الطيور والزواحف والقوارض وكثير من الثدييات، وهى متميزة وذات دور بارز فى عيون ذات الحوافر والقوارض، خاصة الجرذان، بينما اندثرت فى عيون البشر.
لقد ثبت من الأبحاث العلمية على هذه الغدة عبر القرون الثلاثة التى مرت منذ اكتشافها، أن بها مستقبلات حساسة للضوء تنظم عمل الغدة الصنوبرية التى تفرز هرمون الميلاتونين المنظم للإيقاع الحيوى، وتحديدا تناوب الصحو والنوم، فإفرازه يزيد فى الظلام ويقل مع الضوء، كما أنه ينظم دورات التكاثر الموسمية فى الحيوانات، وله تأثير ملحوظ كمادة مضادة للأكسدة وحافظة لحيوية الخلايا. أما إفراز غدة «هاردير» التى تغمر كرة العين، فهى إضافة لدورها فى ترطيب العين والمساعدة على تيسير حركتها داخل محاجرها، تسهِّل انزلاق الغشاء الرامش على عيون الحيوانات التى بلا أجفان متحركة، وتُعتبر سائلا واقيا من شدة الضوء فى كائنات ليلية مثل الجرذان، وتقوم بدور منظم للحرارة، وتشكل أحد مصادر الفيرمونات أو الروائح الجاذبة والمعتبرة كلغة لدى الحيوانات. أما اللون الأحمر فى إفراز هذه الغدة والتى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما فهى حكاية خاصة، تتفاقم فى ظروف خاصة، وتحمل فى طياتها دلالات خاصة، تبدَّت لى وأنا أتابع وقائع تحرير طرابلس واقتحام قلعة باب العزيزية واختفاء القذافى وعياله وكتائب إجرامه أمام بسالة الثوار!
إفرازات غدة هاردير التى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما، يعود لونها الأحمر إلى وجود مادة «البورفيرين» فيها، وهى مادة عضوية تشكل جوهر تكوين هيموجلوبين الدم الذى هو «فيرو بورفيرين»، أى بورفيرين يحتوى فى قلبه الجزيئى على أيون الحديد. فليس تصور عيون الجرذان عندما يغزر فيها هذا الإفراز ببعيد عن الإحساس بأنها تبكى دما، خاصة عندما نعرف الظروف التى يغزر فيها إفراز هذه الغدة لهذا السائل الذى لا تستطيع قناة بين تجويف العين والأنف تصريف فيضانه، فيتكاثف الفائض حول العين كدم أحمر قاتم، وتقوم الفئران بمحاولة مسحه بقوادمها فتتلطخ وجوهها وفراؤها بالبقع الحمراء وتصطبغ باللون القانى مخالبها!
هذه الدموع شبه الدامية فى عيون الجرذان تفيض وتصير واضحة جدا ولافتة فى ظروف الشدة، ومنها: الحرمان من النوم، ومعاناة الجوع والعطش والآلام، وكذلك الخوف!. فهل نتصور القذافى وعياله السفلة خارج هذه الدائرة من الشدائد والتعاسة والبؤس، وهم يهربون عبر الأنفاق تحت أرض قلعة باب العزيزية إلى المجهول؟ رعبا من فتك الشعب المجروح والمقروح بهم، وخوفا من قفص محكمة الجنايات الدولية الذى ينتظرهم لقاء جرائمهم ضد الإنسانية المتمثلة فيما ارتكبوه ضد شعبهم من مذابح. هذه المحكمة التى عندما سُئل عنها قبيح الخلقة والخُلق «زيف القذافى» فى الشريط المدسوس قبل سقوط قلعة أهله، أشاح متبجحا يقول: «طظ فى المحكمة الدولية»!
لقد سمَّى القذافى المنتفضين على نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من القهر وشطحات الجنون وتبديد ثروة الأمة والعربدة على حساب الحاضر وأجيال المستقبل وتكميم الأفواه وإذلال النفوس: «جرذان.. جرذان»، وها هى إرادة الله وحكمة التاريخ تجعل مصير القذافى وأولاده المتوحشين والمتعجرفين والكذابين مثل أبيهم، يصيرون بالفعل فى موقع الجرذان، يمضون تحت وطأة شدة ساحقة، مطأطئين داخل أنفاق مظلمة أو معتمة إلى حيث لا يقين لهم ولا أمان يركنون إليه أو نجاة يثقون فيها. كائنات بشرية مخضبة الأيادى بدم الأحرار والأبرياء وملوثة بما سرقت وما نهبت مما لا يحق لها ولا يجوز. يتسللون فى متاهات العتمة كما جرذان بشرية، تبكى عيونهم ندامة بلون الدم حتى وإن كانت لا تدمع.
لقد كان جنون العظمة وهو ينفخ الطاغية بالهواء الفاسد والهباء، يبديه لنفسه وفى عينى مرآته ومنافقيه فخما وضخما، ملك ملوك قبائل قارة الإنسان الأول، وقائد عالمى، بينما الحقيقة التى كشف عنها سقوط قلعة باب العزيزية وهروبه المشين، أنه مجرد جرذ بشرى أخضعه رعب المصير لأن يستسلم لحقيقة ضآلته فى نهاية المطاف، بينما كان من اتهمهم بأنهم جرذان، ينظفون بنايات القلعة وحدائقها بأسلحتهم المتواضعة وبسالتهم الهائلة، فتنكمش مدرعات كتائبه وتختبئ الصواريخ وتزول ألوان صوره المزركشة وكتبه الخضراء البلهاء، وعلى غراره مضى أولاده الذين كانوا يدركون وضاعة حقائقهم فيتحايلون عليها بالانتفاخ مثل أبيهم، لكن ليس فى أزياء ملك الملوك وديك الديوك وطاووس الطواويس، بل فى التسلى باقتناء النمور والأسود!
شىء عجيب ويدعو للتساؤل والبحث فى علم النفس المرضى: لماذا هذه الهواية بالذات فى اقتناء وترويض الوحوش لدى أبناء الأباطرة والطغاة؟ عدى صدام حسين كان مولعا أيضا بتربية الأسود! وكأنهم كانوا لا شعوريا يقومون بحيل نفسية تزيح عنهم الشعور بحقيقة الوضاعة وعتامة الفراغ والافتقار إلى أية جدارة حقيقية فى أنفسهم، فيوهمون أنفسهم بالقدرة على إخضاع الوحوش. لكنهم لم يكونوا حتى فى هذه يجرءون على التمشى مع نمر مربوط أو أسد مكبل، بل يقفون عند حدود المنظرة بتلعيب الأشبال والجراء تحت عيون آلات التصوير! غيرهم من أبناء الطغاة كان يعوض شعوره بالنقص والخلو من كل موهبة وأى جدارة، بتقمص ملامح الخيلاء والتمنظُر بصولجان النفوذ والتطاول بأرقام الفلوس! فمن الجرذ اليوم؟
من الجرذ والجرذان؟ الجرذان هى أدنأ الثدييات طباعا وسيرة، ناقلة براغيث الطاعون وقمل التيفوس عبر أوبئة التاريخ، وسارقة ثلث ما تنتجه البشرية فى البلدان الفقيرة من طعام، والتى تأكل لا لتتغذى وتشبع بل لتُقلِّم أسنانها الأمامية حتى لا تواصل النمو وتطول طولا مفرطا فتعجز عن إغلاق أفواهها وتموت بأفواه مفتوحة. كائنات بشعة فى مملكة الحيوان قاطبة، تأكل صغارها إن جاعت، وتفترس إخوتها وأبناء نوعها إن عنَّ لها ذلك. كائنات وسخة فى عرف البشرية دون منازع، لهذا أوَّلت البشرية دموعها الضاربة إلى الحمرة بأنها بكاء بالدم. فما بال البشر الذين قادهم نهمهم وغرورهم وعبادتهم للسلطة والتسلط ونسيان الحق والعدل وكرامات الناس، إلى مصير البشر الجرذان؟
ثلاثمائة وسبعة عشر عاما مضت منذ كشف عالم التشريح السويسرى هاردير عن تلك الغدة فى محاجر عيون الأيائل التى تفرز ما يشبه دمعا دمويا تفيض به العيون خاصة عيون الجرذان، وخمسة شهور مرت منذ أطلق القذافى وصف الجرذان على أحرار شعبه عندما انتفضوا يرفضون قهر نظامه، واثنان وأربعون عاما من حكمه المتسلط والمستهبل والمستهتر واللئيم والكاذب والفاسد انصرمت بعد الجثوم الطويل الثقيل على صدر هذا البلد الطيب أهله. وهاهى الأنفاق تحت أرض باب العزيزية تُظهِر من الجرذ اليوم؟ ومن تبكى عيونه، بدلا من الدموع دما من الندامة والمهانة وخسران الغرور وسفاهة الطمع؟
فمن الجُرذ اليوم؟
ومن الجرذ فى النهاية؟
وقد شاءت عدالة القسمة أن القذافى الهارب من باب العزيزية إلى «سرت» التى اتخذ من أهلها دروعا بشرية ومن بيوتها حصونا لعصابته، تكون نهايته على يد ثوار أخرجوه من مخبئه النهائى فى نفق من أنفاق صرف المجارير. وتكون آخر صوره حيا قبل أن يلفظ أنفاسه، تظهره مفتوح الفم مذعورا، بينما الدماء تغرق وجهه وتفيض عبر عينه، وكأنه يبكى دما، فلا يستثير شفقة معظمنا، بل يستدرجنا إلى وحشية الثأر، فيؤذينا مرتين، مرة ببشاعة مساره، ومرة بشناعة المصير!
منذ ثلاثمائة وسبعة عشر عاما بدأ الكشف عن سر الدموع الحمراء، ففى عام 1694 كان عالم التشريح السويسرى «جوهان جاكوب هاردير» يدقق فى فحص محاجر عيون بعض الأيائل التى يجرى عليها أبحاثه، وعثر على غدة خلف العين فى مؤخر المحجر تفرز سائلا دهنيا يتحول إلى قشور حمراء داكنة عندما يجف، فنشر ورقة بحثية عنوانها «غدة دمعية جديدة فى عيون الأيائل السمراء والحمراء»، ومن ثم حملت الغدة فى المراجع الطبية إلى يومنا اسمه: «غدة هاردير»، لأنه كان أول من اكتشف وجودها، وصنفها كغدة دمعية، ومن بعده توالى اكتشاف دقائق أسرار هذه الغدة فى عيون الطيور والزواحف والقوارض وكثير من الثدييات، وهى متميزة وذات دور بارز فى عيون ذات الحوافر والقوارض، خاصة الجرذان، بينما اندثرت فى عيون البشر.
لقد ثبت من الأبحاث العلمية على هذه الغدة عبر القرون الثلاثة التى مرت منذ اكتشافها، أن بها مستقبلات حساسة للضوء تنظم عمل الغدة الصنوبرية التى تفرز هرمون الميلاتونين المنظم للإيقاع الحيوى، وتحديدا تناوب الصحو والنوم، فإفرازه يزيد فى الظلام ويقل مع الضوء، كما أنه ينظم دورات التكاثر الموسمية فى الحيوانات، وله تأثير ملحوظ كمادة مضادة للأكسدة وحافظة لحيوية الخلايا. أما إفراز غدة «هاردير» التى تغمر كرة العين، فهى إضافة لدورها فى ترطيب العين والمساعدة على تيسير حركتها داخل محاجرها، تسهِّل انزلاق الغشاء الرامش على عيون الحيوانات التى بلا أجفان متحركة، وتُعتبر سائلا واقيا من شدة الضوء فى كائنات ليلية مثل الجرذان، وتقوم بدور منظم للحرارة، وتشكل أحد مصادر الفيرمونات أو الروائح الجاذبة والمعتبرة كلغة لدى الحيوانات. أما اللون الأحمر فى إفراز هذه الغدة والتى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما فهى حكاية خاصة، تتفاقم فى ظروف خاصة، وتحمل فى طياتها دلالات خاصة، تبدَّت لى وأنا أتابع وقائع تحرير طرابلس واقتحام قلعة باب العزيزية واختفاء القذافى وعياله وكتائب إجرامه أمام بسالة الثوار!
إفرازات غدة هاردير التى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما، يعود لونها الأحمر إلى وجود مادة «البورفيرين» فيها، وهى مادة عضوية تشكل جوهر تكوين هيموجلوبين الدم الذى هو «فيرو بورفيرين»، أى بورفيرين يحتوى فى قلبه الجزيئى على أيون الحديد. فليس تصور عيون الجرذان عندما يغزر فيها هذا الإفراز ببعيد عن الإحساس بأنها تبكى دما، خاصة عندما نعرف الظروف التى يغزر فيها إفراز هذه الغدة لهذا السائل الذى لا تستطيع قناة بين تجويف العين والأنف تصريف فيضانه، فيتكاثف الفائض حول العين كدم أحمر قاتم، وتقوم الفئران بمحاولة مسحه بقوادمها فتتلطخ وجوهها وفراؤها بالبقع الحمراء وتصطبغ باللون القانى مخالبها!
هذه الدموع شبه الدامية فى عيون الجرذان تفيض وتصير واضحة جدا ولافتة فى ظروف الشدة، ومنها: الحرمان من النوم، ومعاناة الجوع والعطش والآلام، وكذلك الخوف!. فهل نتصور القذافى وعياله السفلة خارج هذه الدائرة من الشدائد والتعاسة والبؤس، وهم يهربون عبر الأنفاق تحت أرض قلعة باب العزيزية إلى المجهول؟ رعبا من فتك الشعب المجروح والمقروح بهم، وخوفا من قفص محكمة الجنايات الدولية الذى ينتظرهم لقاء جرائمهم ضد الإنسانية المتمثلة فيما ارتكبوه ضد شعبهم من مذابح. هذه المحكمة التى عندما سُئل عنها قبيح الخلقة والخُلق «زيف القذافى» فى الشريط المدسوس قبل سقوط قلعة أهله، أشاح متبجحا يقول: «طظ فى المحكمة الدولية»!
لقد سمَّى القذافى المنتفضين على نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من القهر وشطحات الجنون وتبديد ثروة الأمة والعربدة على حساب الحاضر وأجيال المستقبل وتكميم الأفواه وإذلال النفوس: «جرذان.. جرذان»، وها هى إرادة الله وحكمة التاريخ تجعل مصير القذافى وأولاده المتوحشين والمتعجرفين والكذابين مثل أبيهم، يصيرون بالفعل فى موقع الجرذان، يمضون تحت وطأة شدة ساحقة، مطأطئين داخل أنفاق مظلمة أو معتمة إلى حيث لا يقين لهم ولا أمان يركنون إليه أو نجاة يثقون فيها. كائنات بشرية مخضبة الأيادى بدم الأحرار والأبرياء وملوثة بما سرقت وما نهبت مما لا يحق لها ولا يجوز. يتسللون فى متاهات العتمة كما جرذان بشرية، تبكى عيونهم ندامة بلون الدم حتى وإن كانت لا تدمع.
لقد كان جنون العظمة وهو ينفخ الطاغية بالهواء الفاسد والهباء، يبديه لنفسه وفى عينى مرآته ومنافقيه فخما وضخما، ملك ملوك قبائل قارة الإنسان الأول، وقائد عالمى، بينما الحقيقة التى كشف عنها سقوط قلعة باب العزيزية وهروبه المشين، أنه مجرد جرذ بشرى أخضعه رعب المصير لأن يستسلم لحقيقة ضآلته فى نهاية المطاف، بينما كان من اتهمهم بأنهم جرذان، ينظفون بنايات القلعة وحدائقها بأسلحتهم المتواضعة وبسالتهم الهائلة، فتنكمش مدرعات كتائبه وتختبئ الصواريخ وتزول ألوان صوره المزركشة وكتبه الخضراء البلهاء، وعلى غراره مضى أولاده الذين كانوا يدركون وضاعة حقائقهم فيتحايلون عليها بالانتفاخ مثل أبيهم، لكن ليس فى أزياء ملك الملوك وديك الديوك وطاووس الطواويس، بل فى التسلى باقتناء النمور والأسود!
شىء عجيب ويدعو للتساؤل والبحث فى علم النفس المرضى: لماذا هذه الهواية بالذات فى اقتناء وترويض الوحوش لدى أبناء الأباطرة والطغاة؟ عدى صدام حسين كان مولعا أيضا بتربية الأسود! وكأنهم كانوا لا شعوريا يقومون بحيل نفسية تزيح عنهم الشعور بحقيقة الوضاعة وعتامة الفراغ والافتقار إلى أية جدارة حقيقية فى أنفسهم، فيوهمون أنفسهم بالقدرة على إخضاع الوحوش. لكنهم لم يكونوا حتى فى هذه يجرءون على التمشى مع نمر مربوط أو أسد مكبل، بل يقفون عند حدود المنظرة بتلعيب الأشبال والجراء تحت عيون آلات التصوير! غيرهم من أبناء الطغاة كان يعوض شعوره بالنقص والخلو من كل موهبة وأى جدارة، بتقمص ملامح الخيلاء والتمنظُر بصولجان النفوذ والتطاول بأرقام الفلوس! فمن الجرذ اليوم؟
من الجرذ والجرذان؟ الجرذان هى أدنأ الثدييات طباعا وسيرة، ناقلة براغيث الطاعون وقمل التيفوس عبر أوبئة التاريخ، وسارقة ثلث ما تنتجه البشرية فى البلدان الفقيرة من طعام، والتى تأكل لا لتتغذى وتشبع بل لتُقلِّم أسنانها الأمامية حتى لا تواصل النمو وتطول طولا مفرطا فتعجز عن إغلاق أفواهها وتموت بأفواه مفتوحة. كائنات بشعة فى مملكة الحيوان قاطبة، تأكل صغارها إن جاعت، وتفترس إخوتها وأبناء نوعها إن عنَّ لها ذلك. كائنات وسخة فى عرف البشرية دون منازع، لهذا أوَّلت البشرية دموعها الضاربة إلى الحمرة بأنها بكاء بالدم. فما بال البشر الذين قادهم نهمهم وغرورهم وعبادتهم للسلطة والتسلط ونسيان الحق والعدل وكرامات الناس، إلى مصير البشر الجرذان؟
ثلاثمائة وسبعة عشر عاما مضت منذ كشف عالم التشريح السويسرى هاردير عن تلك الغدة فى محاجر عيون الأيائل التى تفرز ما يشبه دمعا دمويا تفيض به العيون خاصة عيون الجرذان، وخمسة شهور مرت منذ أطلق القذافى وصف الجرذان على أحرار شعبه عندما انتفضوا يرفضون قهر نظامه، واثنان وأربعون عاما من حكمه المتسلط والمستهبل والمستهتر واللئيم والكاذب والفاسد انصرمت بعد الجثوم الطويل الثقيل على صدر هذا البلد الطيب أهله. وهاهى الأنفاق تحت أرض باب العزيزية تُظهِر من الجرذ اليوم؟ ومن تبكى عيونه، بدلا من الدموع دما من الندامة والمهانة وخسران الغرور وسفاهة الطمع؟
فمن الجُرذ اليوم؟
ومن الجرذ فى النهاية؟
وقد شاءت عدالة القسمة أن القذافى الهارب من باب العزيزية إلى «سرت» التى اتخذ من أهلها دروعا بشرية ومن بيوتها حصونا لعصابته، تكون نهايته على يد ثوار أخرجوه من مخبئه النهائى فى نفق من أنفاق صرف المجارير. وتكون آخر صوره حيا قبل أن يلفظ أنفاسه، تظهره مفتوح الفم مذعورا، بينما الدماء تغرق وجهه وتفيض عبر عينه، وكأنه يبكى دما، فلا يستثير شفقة معظمنا، بل يستدرجنا إلى وحشية الثأر، فيؤذينا مرتين، مرة ببشاعة مساره، ومرة بشناعة المصير!
ليت للبرَّاق عينا
أضف تعليقك تعليقات : 17
آخر تحديث: الخميس 20 أكتوبر 2011 - 10:00 ص بتوقيت القاهرة
فى سن مبكرة سمعت هذه القصيدة التى غنتها أسمهان من ألحان القصبجى، وكنت صغيرا وغير عارف بقصة القصيدة التى تُظهر المعنى المقصود منها، فلم يرسب فى وعيى إلا أن شطرة البيت الأول الأولى «ليت للبرَّاق عينا فترى» تنعى على بعض من «يُبرِّقون» بعيون وِساع، أنهم يظلون عميانا لا يرون الحقائق برغم التحديق والتبريق!
وبرغم تعرُّفى على قصة القصيدة فيما بعد، إلا أننى ظللت معتزا بالمعنى الذى عثرت عليه وأنا صغير، فقد كان هذا المعنى يسارع نحوى فى مواقف كثيرة، مثبتا أن هناك عيونا تحدق فلا ترى، وأبصارا تمعن لكنها لا تدرك.
ألوان من العمى وجدتها لدى المرضى النفسيين، وبعض المحسوبين على الأصحاء، ومن النوع الأول أتذكر صبيا فى نحو السادسة عشرة، كان يتردد على العيادة الخارجية فى مستشفانا الحكومى، مريضا بفصام المراهقة «هيبى فرينيا»، وكنت أتعاطف معه وأحبه كثيرا، لطرافته وجماله برغم مرضه المأساوى المبكر، فهو أسمر ومحدد الملامح كأنه مرسوم، وله عينان سوداوان واسعتان بالغتا الجمال، لكن مرضه أقحل حصيلة الكلمات فى عقله.
كان يأتى وحده دون مُرافِق للمراجعة نصف الشهرية، فأُجلسه إلى جوارى طوال وقت العيادة، لأنه لم يكن يربك العمل ولا يزعج المراجعين وجُلّهم من الفقراء الذين على عكس الأغنياء، لا يخجلون من أمراضهم النفسية ويتعاملون معها كمِحن صحية، شأنها شأن أمراض الأمعاء أو القلب أو العظام، وهى رؤية متقدمة جدا تحاول برامج التوعية الصحية فى أرقى بلدان العالم أن تثبتها فى أذهان أفراد المجتمع لمحو «الوَصْم» الذى يلحق بالمرضى النفسيين فينفيهم خارج النسيج الاجتماعى وخارج إنسانيتهم.
هذا الفتى الجميل المسكين، ولنسمِّه «سمير»، كنت أعطيه كراسة وقلما ليكتب لى ما حدث له منذ آخر «كشف»، ولم يكن يكتب عبر عشرات الصفحات التى يملؤها فى كل جلسة غير عبارة مكررة: «أبويا برَّق لى وهو بيزعق، قمت مبرق ومزعق له»! وكنت بين الحين والحين ألتفت إليه سائلا «وبعدين يا سمير»، فيخبرنى بما حدث مكررا العبارة نفسها بينما عيناه الجميلتان تعبِّران بمصاحبة الكلام عن تبريقة أبيه وتبريقته المضادة، فى تجسيد يدمج بين المأساة والملهاة، فأضحك حتى تدمع عيناى، وأتوصل ذاتيا إلى رؤية للمرض النفسى وجدتها فيما بعد متبلورة عند الطبيب النفسى المجرى العالمى «إشتيفان ينديك» فى كتابه الشهير «الإنسان والجنون».
لم يكن سمير وهو يُبرِّق يرى إلاّ تلك الصورة التى انطوت عليها نفسه وتجمدت فى داخله المتصحر بفعل هذا النوع الساحق من المرض العقلى، ولابد أنها كانت صورة مرتبطة بالعقدة الجوهرية فى صيرورة مرضه والقائمة على الخلل فى علاقة الأب بالابن الذى كان مُؤهَّلا ومُؤهَّبا للفصام. وهى الآلية نفسها التى ينطوى عليها كل جنون، فالمريض النفسى غير المتوافق فى علاقته بالعالم الخارجى وقوانينه لسبب أو لآخر، يصطنع لنفسه عالما موازيا فى داخله وقانونا خاصا بهذا العالم المُتوهَّم، وهو برغم عينيه المفتوحتين على العالم الخارجى يكاد لا يرى إلا عالمه الداخلى ولا يخضع إلا لقوانينه. هذه هى مأساة المجانين.. وطائفة من «العقلاء» أيضا!
فى فقرة من مقالة الأسبوع الماضى عرضت لحالة أحد ضحايا ماسبيرو من الأقباط اعتبرتها دالة على مأساة ما حدث، ورأيت فيها «عارا ينتهك الفضيلة الدينية ويحط بالسمو الوطنى والحس الإنسانى لأى مصرى»، وبرغم إسنادى المأساه فى هذه الحالة لتصرف فردى لجندى بسيط وبائس فى النهاية، إلا أننى رأيتها دالة على كل الموقف المشحون باحتقان طائفى وتعصب يستوجبان المحو، وكانت أولى خطوات المحو التى اقترحتها هى: اعتذار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولم أقل أبدا أنه اعتذار عما ارتكبه هذا المجلس الذى لم أُخف تقديرى لدوره الحاسم فى الثورة وإنقاذ «الدولة» المصرية من التفكك بعد مؤامرة الانهيار الأمنى وحتى الآن. وقد أوردت هذا التقدير بوضوح فى متن المقال وفى خاتمته، برغم أننى كتبت مقالى وأرسلته للنشر قبل أن ينعقد المؤتمر الصحفى للمجلس العسكرى.
وعلى ذِكر ذلك المؤتمر الصحفى، فقد رأيت بعين فراسة أزعم أن لدىَّ شيئا منها، أن اللواءين عادل عمارة ومحمود حجازى كانا صادقين تماما برغم عدم الاحترافية الإعلامية فى حديثهما، بل إن غياب هذه الاحترافية كان مما عزز إحساسى بصدق الرجلين، ومن ثم فإننى مقتنع بأن ما وقع من هرس المدرعة العسكرية لعدد من المتظاهرين لم يكن عمديا ولا مُمنهَجا، وأنه خارج أخلاق العسكرية المصرية حتى فى الحروب ضد الأعداء، كما أننى مقتنع تماما بأن القوات المسلحة لم تطلق النار على المتظاهرين، وأن هناك طرفا ثالثا أطلق النار على المتظاهرين الأقباط والسلميين وجنود الجيش معا لتأجيج الفتنة وإحراق مصر.
فى مقالى السابق الذى لا أتراجع عن جوهر محتواه أوردت خطوات أخرى غير واجب الاعتذار لمحو عار الكارثة والحئول دون تكرارها، وكانت: العمل على وضع دستور جامع لدولة مدنية ديمقراطية لا يتغول فيها أحد على أحد، وتكوين وزارة إنقاذ يكون الأمن مشروعها القومى الأول، وإقالة محافظ أسوان الذى تكررت أخطاؤه السياسية وأخل بهيبة الدولة التى يمثلها عندما برر لبعض المصريين أن يكونوا بديلا عن الدولة فى أمر يخص مصريين آخرين، وإصدار قانون لمنع التمييز وتغليظ عقوبة التحريض الدينى المثير للفتنة الطائفية أيا كان الطرف الذى يصدر عنه ذلك التحريض. فلماذا هاج عش دبابير المتعصبين فى حملة هجوم ملىء بالسباب والكذب والتأويل الشائه يتقصدنى، ضمن سيل التعليقات على مقال الأسبوع الماضى بالموقع الالكترونى للشروق؟
فى ضوء ما أوضحته عن العيون التى تنظر فلا ترى والبصائر التى تَعمى عما يخالف المتيبس فى دواخلها، أكتشف أننى ربما عرَّيت شيئا من خبايا التعصب النفسية بإخضاعه لمفهوم «سيكلوجية العصابة»، ولست أغالى أبدا إن قلت إن عصابات التعصب الفكرى أو الأيديولوجى أو الدينى ليست بعيدة أبدا عن عصابات الإجرام الجنائى، فالعنف فى القول يمكن أن يقفز إلى عنفٍ مادى فى لحظة أو على الأقل يحرِّض عليه، لأن المتعصب لا يرى فيمن يخالفه إلا عدوا يستحق التدمير!
كما لم تعدَم التعليقات المتعصبة المقيتة تنويعا رديئا آخر، فثمة متعصب مسيحى اهتبلها فرصة لينال من المسلمين والإسلام بالكذب والركاكة. وما هؤلاء جيمعا من متعصبين محسوبين على الإسلام وآخرين محسوبين على المسيحية إلا عميان بعيون وقحة التحديق، وبصائر مطموسة سلبها التعصب كل نور. فهم أرباب سوابق عِصابية نفسية تخفى تكوينات عدوانية فى داخلها، وهى فى تعصبها تذكى ذواتها على الله والناس والوطن، وتلعب لعبا إجراميا بنار أوشكت أن تحرق مصر فى ليل أسود القلب لا ينبغى أن يتكرر.
لقد كان المعنى الحرفى للشطر الأول من البيت الأول فى قصيدة «ليلى العفيفة» تبعا للقصة الماثلة وراء القصيدة، هو مناداة ليلى بنت لكيز بن مرة بن أسد بن ربيعة لابن عمها وحبيبها «أبونصر البرَّاق» فارس ربيعة وفاتكها المغوار، لكى يأتى وينقذها من براثن ابن كسرى ملك فارس الذى اختطفها لفرط جمالها طامعا أن تلين له وترضى، لكنها ظلت تقاوم وتكابد متعففة حتى أدركها حبيبها البَرَّاق وأنقذها فحقَّت له حبا وكرامة. وها هى مصر قد عاث فيها التعصب وتجذرت الفتنة وتكررت حرائقها. وفى هوجة كل حريق يندس من يطلقون الرصاص أو يطعنون أو يدمرون، تنفيذا لمخطط فوضى يبتغيها شياطين عدة، يحلمون بعودة عصابة فساد حكم مبارك، أو يُنهِكون قوى هذا البلد لتقر عين إسرائيل، أو يُفشِلون نموذج ثورة يخشى طغاة الأقارب والأباعد من نجاحها حتى لا تغرى بنموذجها شعوبهم. فهل من فارس كالبَرَّاق يدركها؟!
نعم، الفارس موجود، فقط عليه أن يتعرف على ذاته مترامية القدرات، ويجمع إليه أطرافه من جيش مصر الوطنى وقواه الديموقراطية النابذة للتعصب والفتنة والاستقواء البذىء بالخارج والعمالة لعرب أو عجم. فارس تدرك بصيرته أن أول الفوضى هوجة يثير غبارها ويطلق شررها متعصبو الأقوال قبل الأفعال. فلنتوافق على هدنة لا تتيح لقوى الغدر فرصة التسلل فى زحامنا وإطلاق الرصاص علينا جميعا وإحراق بيتنا المشترك.
هدنة ولو لشهور ستة تتوقف فيها «هوجة» التظاهرات مقابل تعهد واضح من المجلس العسكرى بإعادة بناء جهاز الأمن وتدعيم قواه كمشروع قومى عاجل يكف يد البلطجة ويحرس سيادة القانون، مع تشكيل حكومة إنقاذ جريئة كاملة الصلاحيات تضع جدولا زمنيا لمعالجة اختلالات العدل الاجتماعى الملحة والفاضحة، وتُشعر فقراء الناس خاصة بجدوى الصبر وصدق الأمل. ولا أظن أن ذلك يغنى عن الشروع فى وضع دستور جامع لدولة مدنية حديثة تحترم الهوية الدينية للأغلبية المسلمة ولا تعصف بالخصوصية الدينية للأقباط، وتكون حقوق المواطنة وحقوق الإنسان هى مناط العدل بين كل بنيها. و..
«ليت للبرَّاق عينا فترى ما ألاقى من بلاء وعنا»
وبرغم تعرُّفى على قصة القصيدة فيما بعد، إلا أننى ظللت معتزا بالمعنى الذى عثرت عليه وأنا صغير، فقد كان هذا المعنى يسارع نحوى فى مواقف كثيرة، مثبتا أن هناك عيونا تحدق فلا ترى، وأبصارا تمعن لكنها لا تدرك.
ألوان من العمى وجدتها لدى المرضى النفسيين، وبعض المحسوبين على الأصحاء، ومن النوع الأول أتذكر صبيا فى نحو السادسة عشرة، كان يتردد على العيادة الخارجية فى مستشفانا الحكومى، مريضا بفصام المراهقة «هيبى فرينيا»، وكنت أتعاطف معه وأحبه كثيرا، لطرافته وجماله برغم مرضه المأساوى المبكر، فهو أسمر ومحدد الملامح كأنه مرسوم، وله عينان سوداوان واسعتان بالغتا الجمال، لكن مرضه أقحل حصيلة الكلمات فى عقله.
كان يأتى وحده دون مُرافِق للمراجعة نصف الشهرية، فأُجلسه إلى جوارى طوال وقت العيادة، لأنه لم يكن يربك العمل ولا يزعج المراجعين وجُلّهم من الفقراء الذين على عكس الأغنياء، لا يخجلون من أمراضهم النفسية ويتعاملون معها كمِحن صحية، شأنها شأن أمراض الأمعاء أو القلب أو العظام، وهى رؤية متقدمة جدا تحاول برامج التوعية الصحية فى أرقى بلدان العالم أن تثبتها فى أذهان أفراد المجتمع لمحو «الوَصْم» الذى يلحق بالمرضى النفسيين فينفيهم خارج النسيج الاجتماعى وخارج إنسانيتهم.
هذا الفتى الجميل المسكين، ولنسمِّه «سمير»، كنت أعطيه كراسة وقلما ليكتب لى ما حدث له منذ آخر «كشف»، ولم يكن يكتب عبر عشرات الصفحات التى يملؤها فى كل جلسة غير عبارة مكررة: «أبويا برَّق لى وهو بيزعق، قمت مبرق ومزعق له»! وكنت بين الحين والحين ألتفت إليه سائلا «وبعدين يا سمير»، فيخبرنى بما حدث مكررا العبارة نفسها بينما عيناه الجميلتان تعبِّران بمصاحبة الكلام عن تبريقة أبيه وتبريقته المضادة، فى تجسيد يدمج بين المأساة والملهاة، فأضحك حتى تدمع عيناى، وأتوصل ذاتيا إلى رؤية للمرض النفسى وجدتها فيما بعد متبلورة عند الطبيب النفسى المجرى العالمى «إشتيفان ينديك» فى كتابه الشهير «الإنسان والجنون».
لم يكن سمير وهو يُبرِّق يرى إلاّ تلك الصورة التى انطوت عليها نفسه وتجمدت فى داخله المتصحر بفعل هذا النوع الساحق من المرض العقلى، ولابد أنها كانت صورة مرتبطة بالعقدة الجوهرية فى صيرورة مرضه والقائمة على الخلل فى علاقة الأب بالابن الذى كان مُؤهَّلا ومُؤهَّبا للفصام. وهى الآلية نفسها التى ينطوى عليها كل جنون، فالمريض النفسى غير المتوافق فى علاقته بالعالم الخارجى وقوانينه لسبب أو لآخر، يصطنع لنفسه عالما موازيا فى داخله وقانونا خاصا بهذا العالم المُتوهَّم، وهو برغم عينيه المفتوحتين على العالم الخارجى يكاد لا يرى إلا عالمه الداخلى ولا يخضع إلا لقوانينه. هذه هى مأساة المجانين.. وطائفة من «العقلاء» أيضا!
فى فقرة من مقالة الأسبوع الماضى عرضت لحالة أحد ضحايا ماسبيرو من الأقباط اعتبرتها دالة على مأساة ما حدث، ورأيت فيها «عارا ينتهك الفضيلة الدينية ويحط بالسمو الوطنى والحس الإنسانى لأى مصرى»، وبرغم إسنادى المأساه فى هذه الحالة لتصرف فردى لجندى بسيط وبائس فى النهاية، إلا أننى رأيتها دالة على كل الموقف المشحون باحتقان طائفى وتعصب يستوجبان المحو، وكانت أولى خطوات المحو التى اقترحتها هى: اعتذار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولم أقل أبدا أنه اعتذار عما ارتكبه هذا المجلس الذى لم أُخف تقديرى لدوره الحاسم فى الثورة وإنقاذ «الدولة» المصرية من التفكك بعد مؤامرة الانهيار الأمنى وحتى الآن. وقد أوردت هذا التقدير بوضوح فى متن المقال وفى خاتمته، برغم أننى كتبت مقالى وأرسلته للنشر قبل أن ينعقد المؤتمر الصحفى للمجلس العسكرى.
وعلى ذِكر ذلك المؤتمر الصحفى، فقد رأيت بعين فراسة أزعم أن لدىَّ شيئا منها، أن اللواءين عادل عمارة ومحمود حجازى كانا صادقين تماما برغم عدم الاحترافية الإعلامية فى حديثهما، بل إن غياب هذه الاحترافية كان مما عزز إحساسى بصدق الرجلين، ومن ثم فإننى مقتنع بأن ما وقع من هرس المدرعة العسكرية لعدد من المتظاهرين لم يكن عمديا ولا مُمنهَجا، وأنه خارج أخلاق العسكرية المصرية حتى فى الحروب ضد الأعداء، كما أننى مقتنع تماما بأن القوات المسلحة لم تطلق النار على المتظاهرين، وأن هناك طرفا ثالثا أطلق النار على المتظاهرين الأقباط والسلميين وجنود الجيش معا لتأجيج الفتنة وإحراق مصر.
فى مقالى السابق الذى لا أتراجع عن جوهر محتواه أوردت خطوات أخرى غير واجب الاعتذار لمحو عار الكارثة والحئول دون تكرارها، وكانت: العمل على وضع دستور جامع لدولة مدنية ديمقراطية لا يتغول فيها أحد على أحد، وتكوين وزارة إنقاذ يكون الأمن مشروعها القومى الأول، وإقالة محافظ أسوان الذى تكررت أخطاؤه السياسية وأخل بهيبة الدولة التى يمثلها عندما برر لبعض المصريين أن يكونوا بديلا عن الدولة فى أمر يخص مصريين آخرين، وإصدار قانون لمنع التمييز وتغليظ عقوبة التحريض الدينى المثير للفتنة الطائفية أيا كان الطرف الذى يصدر عنه ذلك التحريض. فلماذا هاج عش دبابير المتعصبين فى حملة هجوم ملىء بالسباب والكذب والتأويل الشائه يتقصدنى، ضمن سيل التعليقات على مقال الأسبوع الماضى بالموقع الالكترونى للشروق؟
فى ضوء ما أوضحته عن العيون التى تنظر فلا ترى والبصائر التى تَعمى عما يخالف المتيبس فى دواخلها، أكتشف أننى ربما عرَّيت شيئا من خبايا التعصب النفسية بإخضاعه لمفهوم «سيكلوجية العصابة»، ولست أغالى أبدا إن قلت إن عصابات التعصب الفكرى أو الأيديولوجى أو الدينى ليست بعيدة أبدا عن عصابات الإجرام الجنائى، فالعنف فى القول يمكن أن يقفز إلى عنفٍ مادى فى لحظة أو على الأقل يحرِّض عليه، لأن المتعصب لا يرى فيمن يخالفه إلا عدوا يستحق التدمير!
كما لم تعدَم التعليقات المتعصبة المقيتة تنويعا رديئا آخر، فثمة متعصب مسيحى اهتبلها فرصة لينال من المسلمين والإسلام بالكذب والركاكة. وما هؤلاء جيمعا من متعصبين محسوبين على الإسلام وآخرين محسوبين على المسيحية إلا عميان بعيون وقحة التحديق، وبصائر مطموسة سلبها التعصب كل نور. فهم أرباب سوابق عِصابية نفسية تخفى تكوينات عدوانية فى داخلها، وهى فى تعصبها تذكى ذواتها على الله والناس والوطن، وتلعب لعبا إجراميا بنار أوشكت أن تحرق مصر فى ليل أسود القلب لا ينبغى أن يتكرر.
لقد كان المعنى الحرفى للشطر الأول من البيت الأول فى قصيدة «ليلى العفيفة» تبعا للقصة الماثلة وراء القصيدة، هو مناداة ليلى بنت لكيز بن مرة بن أسد بن ربيعة لابن عمها وحبيبها «أبونصر البرَّاق» فارس ربيعة وفاتكها المغوار، لكى يأتى وينقذها من براثن ابن كسرى ملك فارس الذى اختطفها لفرط جمالها طامعا أن تلين له وترضى، لكنها ظلت تقاوم وتكابد متعففة حتى أدركها حبيبها البَرَّاق وأنقذها فحقَّت له حبا وكرامة. وها هى مصر قد عاث فيها التعصب وتجذرت الفتنة وتكررت حرائقها. وفى هوجة كل حريق يندس من يطلقون الرصاص أو يطعنون أو يدمرون، تنفيذا لمخطط فوضى يبتغيها شياطين عدة، يحلمون بعودة عصابة فساد حكم مبارك، أو يُنهِكون قوى هذا البلد لتقر عين إسرائيل، أو يُفشِلون نموذج ثورة يخشى طغاة الأقارب والأباعد من نجاحها حتى لا تغرى بنموذجها شعوبهم. فهل من فارس كالبَرَّاق يدركها؟!
نعم، الفارس موجود، فقط عليه أن يتعرف على ذاته مترامية القدرات، ويجمع إليه أطرافه من جيش مصر الوطنى وقواه الديموقراطية النابذة للتعصب والفتنة والاستقواء البذىء بالخارج والعمالة لعرب أو عجم. فارس تدرك بصيرته أن أول الفوضى هوجة يثير غبارها ويطلق شررها متعصبو الأقوال قبل الأفعال. فلنتوافق على هدنة لا تتيح لقوى الغدر فرصة التسلل فى زحامنا وإطلاق الرصاص علينا جميعا وإحراق بيتنا المشترك.
هدنة ولو لشهور ستة تتوقف فيها «هوجة» التظاهرات مقابل تعهد واضح من المجلس العسكرى بإعادة بناء جهاز الأمن وتدعيم قواه كمشروع قومى عاجل يكف يد البلطجة ويحرس سيادة القانون، مع تشكيل حكومة إنقاذ جريئة كاملة الصلاحيات تضع جدولا زمنيا لمعالجة اختلالات العدل الاجتماعى الملحة والفاضحة، وتُشعر فقراء الناس خاصة بجدوى الصبر وصدق الأمل. ولا أظن أن ذلك يغنى عن الشروع فى وضع دستور جامع لدولة مدنية حديثة تحترم الهوية الدينية للأغلبية المسلمة ولا تعصف بالخصوصية الدينية للأقباط، وتكون حقوق المواطنة وحقوق الإنسان هى مناط العدل بين كل بنيها. و..
«ليت للبرَّاق عينا فترى ما ألاقى من بلاء وعنا»
كيف نمحو العار؟
أضف تعليقك تعليقات : 43
آخر تحديث: الخميس 13 أكتوبر 2011 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة
مهما تكن الملابسات، وأيا كانت التبريرات، فإنه عار أن يتواصل ضرب جثة إنسان بعد دهسها تحت عجلات مدرعة عسكرية، وأن يستمر ذلك الضرب الذى حاولت منعه عن الجسد المدهوس بنت كان هذا المقتول خطيبها الحى منذ لحظة، وكان يقول لها وهو يمسك يدها قبل أن يضيع منها: «ما تسبينيش» ربما لاستشعاره بقرب موته، وعلى الأرجح لأنه كان يصر أن يحميها، ويخرج بها من ساحة الحرب والدهس الغريبة تلك!
البنت التى انكفأت على جثة خطيبها تكلمه لعله يجيبها ويقول لها إنه معها وأنه حى لا يزال، رفعت رأسها تكلم الجلادين الذين لم يتوقفوا عن توجيه الضربات المسعورة للقتيل، والتى كانت تتلقى منها الكثير وهى محنية عليه، رجتهم أن يتوقفوا وأن يبتعدوا عنه فهو لم يعد يتحرك ولا يتكلم، ولم تستطع أبدا أن تقول أو تصدق أنه مات، وجاءتها الإجابة شتيمة فاحشة وعصفا أقبح ما يكون: «اسكتى يا كافرة»!
حدث هذا فى ليلة ماسبيرو السوداء، البنت اسمها فيفيان مجدى، وخطيبها القتيل دهسا اسمه مايكل سعد، أحد شباب الثورة الذين سبقت إصابتهم برصاصة من أمن مبارك وحبيب العادلى فى جمعة الغضب، تلك الجمعة المجيدة التى رسمت ببسالة الشباب، مسلمين ومسيحيين، منعطفا باهرا انتهى بالإطاحة بحكم أحط عصابة حكمت مصر. أما المدرعة التى دهست مايكل فهى للجيش المصرى، والجلاد الذى كان يضرب قتيلا ويستبيح التنكيل بفتاة كانت تحاول حماية ما تبقى من خطيبها، ويسبها ويكفرها، فقد كان للأسف: جندى مصرى!
أنا مسلم أعتز بإسلامى وأحسبه عند الله حسنا لأنه إسلام قناعة عقلية وإشراقُ روحى وتسبيح تأمل لا ينقطع فى عظمة ملكوت الله وإعجاز خلقه وتدبير مخلوقاته. كما أننى مصرى مقتنع بالدور العظيم لجيش مصر الوطنى ومجلس قيادته الأعلى فى حماية ثورتنا الأخيرة النبيلة والحفاظ على كيان «الدولة» بإفشال سيناريو الفوضى الشاملة التى كانت مُدبَّرة بعد سقوط نظام عصابة الدناءة والخسة المنزاحة. ولهذا أشعر بأن ما جرى فى موقعة ماسبيرو، والذى تختزله عندى مأساة مايكل وفيفيان، إنما كان عارا ينتهك الفضيلة الدينية ويحط بالسمو الوطنى والحس الإنسانى لأى مصرى، ومن ثم يستوجب المحو حتما، وإلا كان علينا أن ننتظر الأحط والأسوأ.
العار، أى عار، ابتداء من العار الفردى والشخصى وصولا إلى العار القومى والعام، ليس مجرد لحظة الوقوع فى ارتكاب المحظور أو المدنس أو الحرام الذى منه قطعا «ضرب الميت»، بل هو كما سقوط أى شىء، له مسار فيه نقطة بدء ونقطة انتهاء بينهما مسافة وزمن وقوة دفع وتسارع، هكذا تعلمنا قوانين الميكانيكا وتخبرنا الحياة: استدراج وإغواء، فانحدار واستمرار فى الانحدار، ثم وقوع وارتطام فى نهاية المطاف. وهى حكاية الفتنة الطائفية التى تبدأ بإغواء التعصب الدينى، وتستمر بدفع وسوسة شياطين التطرف وتغذية بذور الاستعداد للجنوح، دعم مادى للمُستقطَبين ممن تسحقهم شئون دنيا ضيقتها عليهم أنظمة حكم فاسدة، ودعم معنوى للخروج من ذلة الانسحاق بالانضمام إلى قوة العُصبة، التى لا تخرج فى سيكولوجيتها عن سيكولوجية العصابة!
وكما أى عصابة، يعزز منتسبوها شعورهم بالنقص الفردى عندما يصيرون جمعا، وتعزز العصابة ثقة منتسبيها فى قوتها باختبار هذه القوة فى فعل الصدام مع عصابة أخرى، مُختلقة على الأغلب، ومُبالَغا فى تبشيعها، حتى تتمكن الكراهية من النفوس، فهى الدافع الجامح والجامع بين أفراد كل تكوين عصابى فى مواجهة ما يعتبره هذا التكوين خصما له.
هكذا تشيع الفتنة، تحت رعاية سرية من أنظمة فاسدة، وجهات مريبة، وبإشراف دعاة جانحى النفوس، نهمين للزعامة أو للفلوس أو كليهما معا. فتنة كالنار تحت الرماد، تكمن متحينة لحظة التأجج، فتنتشر ألسنتها لتلحس العقول وتحرق الضمائر، وتُسقِط حتى أكثر الناس براءة فى مصائد عار يتجاوز إنسانية الإنسان إلى وحشية ما دون الحيوان، ولا يتأتى ذلك إلا على قاعدة التكفير، فالكافر مستباح عند من يحسب نفسه أفضل إيمانا، بالرغم من كون هذا الحساب ليس شأنا بشريا بل تقدير إلهى لا مُنازعة فيه لمخلوق.
هذه الاستباحة على قاعدة التكفير تجيز ما لا يجوز فى العرف البشرى، بل حتى الحيوانى، فالحيوان، عدا القوارض وبعض السنوريات فى ظروف نادرة، لا يأكل لحم بنى جنسه إلا بتلف فى المخ يجعله لا يتعرف على أخيه فى النوع، فيحسبه مفترسا يقاتله، أو فريسة يأكلها. والجندى البائس الذى صرخ فى فيفيان المنحنية على جسد خطيبها المدهوس يكفرها، إنما كان يبوح بالقاعدة التى بررت له ذلك الإجرام الحرام.. ضرب الميت!
من الذى وسوس لهذا الجندى البسيط بهذه الوسيلة الشيطانية ليقع فى المحظور ويرتكب العار؟ أعتقد أنها أدخنة الاحتقان الطائفى المسكوت عنه، والمُتغاضَى عن عديد جرائمه ومجرميه، من حرق الكنائس وتهديمها إلى الاستيلاء على منابر المساجد بالقوة، فتنة مدسوسة الجمرات تحت تراب وطننا الذى لم يكن أهله إلا وسطيين دائما، ولا يزال غالبيتهم كذلك، سواء مسلمين كانوا أو مسيحيين. ولو لجأنا لوسيلة موضوعية لا تتخذ من غوغائية الحشد ولا علو الصوت أو عدوانية الاندفاع مقياسا، لثبت لنا أن كل أطياف التطرف لا تمثل إلا هامشا ضئيلا مقارنة بمتن الأغلبية الكاسحة من المصريين!
رحلة العار بدايتها بعيدة، من زمن لعب أنظمة الاستبداد والفساد على وتر الطائفية لإلهاء الأمة المنهوبة والمنكوبة فى معارك جانبية بين بنيها تصرف الأنظار عمن يقتلهم جميعا وإن ببطء وخبث ودناءة. لكن عار الموقعة الأخيرة فى ماسبيرو ينبغى اعتباره نقطة نهاية، يليها انقطاع حاسم عن كل ما سبق، وبدءُ جديد لمحو ما ارتُكب فى حقنا جميعا، ووضْع متاريس حاسمة وحاكمة لعدم تكراره، وتغليظ عقوبة مقارفته على أى نحو، ومن ذلك:
ينبغى على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يخرج رئيسه أو أحد رجاله ليعتذر عما ارتُكب فى ماسبيرو والذى لا يمكن تبريره بأى ضغوط واستفزازات نعرف أن بعضها حقيقى، وأن تتم إقالة محافظ أسوان الذى أجج نار الطائفية بتصريحه الغشوم عن أن الأقباط ارتكبوا خطأ وصححه المسلمون! لأنه بذلك استباح هيبة الدولة لصالح غوغائية طائفية بينما هو رجل يمثل الدولة، أو هكذا يُفترض، وهذه ليست أولى كبائره، فله موقعة قريبة مع النوبيين أخرجتهم عن معهود طباعهم التى هى من أرق وأجمل طباع المصريين برغم طول صبرهم على إهدار حقهم البديهى فى التعويض عما ضحوا به لننعم جميعا بكثير من الأمن المائى بعد بناء السد العالى. ولا أظن أن العثور على لواء أركان حرب آخر يشغل ذلك الموقع، الحساس من منظور الأمن القومى، بعسير على مؤسستنا العسكرية الوطنية العريقة.
أما وزارة شرف ووعوده المجانية وغياب رؤيته السياسية ورخاوة أدائه المنعكس على أركان الوزارة معظمها، فقد باتت عبئا على مصر كلها، وقد صرنا فى حاجة ماسة لحكومة إنقاذ يقودها صاحب رؤية وحسم وجداول عمل واضحة على رأسها قضية الأمن التى ينبغى أن تكون مشروع مصر القومى الآن، بمقترحات ثورية فى إعادة بناء المؤسسة الأمنية على غرار تلك التى انتهجها الجيش فى أعقاب انكسار هزيمة يونيو. ولا بأس من إعطاء وزارة الإنقاذ هذه مدى زمنيا منطقيا لهكذا مهمة كبرى، حتى لو تأخرت «لعبة» الانتخابات العجيبة تلك وما يتبعها. وبمواكبة ذلك لابد من الشروع فى بناء دستور وطنى جامع لدولة مدنية ديمقراطية لا يتغول فيها أحد على أحد مهما كانت أغلبيته أو ادعاء الأغلبية. وصار من حتميات الإنقاذ صدور قانون يمنع التمييز بين المصريين على أسس دينية، ويُعاقب بأشد الجزاء من لا يحترم دين غيره أو يعتدى عليه ماديا أو معنويا.
إن العار الماثل فى حالة استمرار ضرب جسد أحد قتلى موقعة ماسبيرو، وجَلد وتكفير خطيبته التى انحنت عليه تمنع عنه المزيد من الأذى، لا يمكن أن يغسله إلا اعتذار شجاع، وعمل أشجع لإنقاذ مصر الدولة والأمة من فتنة مدبرة بليل وإن ارتدت ثيابا ناصعة البياض فى النهار، ومن هنا يتوجب على كل من لديه القدرة من كل ألوان الأطياف السياسية التى تتكالب على قصعة الانتخابات المعيبة الآن، أن يضحى النبلاء والشجعان فيها للمساهمة فى تكوين حكومة إنقاذ هى أهم الآن وغدا من كل انتخابات ومن أى برلمان، فما نعيشه لا يوحى بأدنى طمأنينة لما يمكن أن تسفر عنه أى انتخابات أو يتشكل بموجبه أى برلمان.
وتبقى القوات المسلحة، برغم كل الأسى مما وقع فى ماسبيرو، النواة الصلبة الوحيدة التى يتجمع حولها تماسك «الدولة» المؤسسى، التى لو انفرط عقده لانفرط الحاضر والمستقبل. كما تبقى فى قصة مايكل وفيفيان لمحة أليمة، فأم هذا الشهيد كما أخبرتنا التغطيات الإعلامية، سيدة مسنة ومريضة كان مايكل عائلها الوحيد، فليس أقل من أن تختصها القوات المسلحة برعاية اجتماعية وصحية تغسل أطراف عارٍ لم يكن فى حسبان ولا سياق ولا تاريخ جيش مصر الوطنى.
البنت التى انكفأت على جثة خطيبها تكلمه لعله يجيبها ويقول لها إنه معها وأنه حى لا يزال، رفعت رأسها تكلم الجلادين الذين لم يتوقفوا عن توجيه الضربات المسعورة للقتيل، والتى كانت تتلقى منها الكثير وهى محنية عليه، رجتهم أن يتوقفوا وأن يبتعدوا عنه فهو لم يعد يتحرك ولا يتكلم، ولم تستطع أبدا أن تقول أو تصدق أنه مات، وجاءتها الإجابة شتيمة فاحشة وعصفا أقبح ما يكون: «اسكتى يا كافرة»!
حدث هذا فى ليلة ماسبيرو السوداء، البنت اسمها فيفيان مجدى، وخطيبها القتيل دهسا اسمه مايكل سعد، أحد شباب الثورة الذين سبقت إصابتهم برصاصة من أمن مبارك وحبيب العادلى فى جمعة الغضب، تلك الجمعة المجيدة التى رسمت ببسالة الشباب، مسلمين ومسيحيين، منعطفا باهرا انتهى بالإطاحة بحكم أحط عصابة حكمت مصر. أما المدرعة التى دهست مايكل فهى للجيش المصرى، والجلاد الذى كان يضرب قتيلا ويستبيح التنكيل بفتاة كانت تحاول حماية ما تبقى من خطيبها، ويسبها ويكفرها، فقد كان للأسف: جندى مصرى!
أنا مسلم أعتز بإسلامى وأحسبه عند الله حسنا لأنه إسلام قناعة عقلية وإشراقُ روحى وتسبيح تأمل لا ينقطع فى عظمة ملكوت الله وإعجاز خلقه وتدبير مخلوقاته. كما أننى مصرى مقتنع بالدور العظيم لجيش مصر الوطنى ومجلس قيادته الأعلى فى حماية ثورتنا الأخيرة النبيلة والحفاظ على كيان «الدولة» بإفشال سيناريو الفوضى الشاملة التى كانت مُدبَّرة بعد سقوط نظام عصابة الدناءة والخسة المنزاحة. ولهذا أشعر بأن ما جرى فى موقعة ماسبيرو، والذى تختزله عندى مأساة مايكل وفيفيان، إنما كان عارا ينتهك الفضيلة الدينية ويحط بالسمو الوطنى والحس الإنسانى لأى مصرى، ومن ثم يستوجب المحو حتما، وإلا كان علينا أن ننتظر الأحط والأسوأ.
العار، أى عار، ابتداء من العار الفردى والشخصى وصولا إلى العار القومى والعام، ليس مجرد لحظة الوقوع فى ارتكاب المحظور أو المدنس أو الحرام الذى منه قطعا «ضرب الميت»، بل هو كما سقوط أى شىء، له مسار فيه نقطة بدء ونقطة انتهاء بينهما مسافة وزمن وقوة دفع وتسارع، هكذا تعلمنا قوانين الميكانيكا وتخبرنا الحياة: استدراج وإغواء، فانحدار واستمرار فى الانحدار، ثم وقوع وارتطام فى نهاية المطاف. وهى حكاية الفتنة الطائفية التى تبدأ بإغواء التعصب الدينى، وتستمر بدفع وسوسة شياطين التطرف وتغذية بذور الاستعداد للجنوح، دعم مادى للمُستقطَبين ممن تسحقهم شئون دنيا ضيقتها عليهم أنظمة حكم فاسدة، ودعم معنوى للخروج من ذلة الانسحاق بالانضمام إلى قوة العُصبة، التى لا تخرج فى سيكولوجيتها عن سيكولوجية العصابة!
وكما أى عصابة، يعزز منتسبوها شعورهم بالنقص الفردى عندما يصيرون جمعا، وتعزز العصابة ثقة منتسبيها فى قوتها باختبار هذه القوة فى فعل الصدام مع عصابة أخرى، مُختلقة على الأغلب، ومُبالَغا فى تبشيعها، حتى تتمكن الكراهية من النفوس، فهى الدافع الجامح والجامع بين أفراد كل تكوين عصابى فى مواجهة ما يعتبره هذا التكوين خصما له.
هكذا تشيع الفتنة، تحت رعاية سرية من أنظمة فاسدة، وجهات مريبة، وبإشراف دعاة جانحى النفوس، نهمين للزعامة أو للفلوس أو كليهما معا. فتنة كالنار تحت الرماد، تكمن متحينة لحظة التأجج، فتنتشر ألسنتها لتلحس العقول وتحرق الضمائر، وتُسقِط حتى أكثر الناس براءة فى مصائد عار يتجاوز إنسانية الإنسان إلى وحشية ما دون الحيوان، ولا يتأتى ذلك إلا على قاعدة التكفير، فالكافر مستباح عند من يحسب نفسه أفضل إيمانا، بالرغم من كون هذا الحساب ليس شأنا بشريا بل تقدير إلهى لا مُنازعة فيه لمخلوق.
هذه الاستباحة على قاعدة التكفير تجيز ما لا يجوز فى العرف البشرى، بل حتى الحيوانى، فالحيوان، عدا القوارض وبعض السنوريات فى ظروف نادرة، لا يأكل لحم بنى جنسه إلا بتلف فى المخ يجعله لا يتعرف على أخيه فى النوع، فيحسبه مفترسا يقاتله، أو فريسة يأكلها. والجندى البائس الذى صرخ فى فيفيان المنحنية على جسد خطيبها المدهوس يكفرها، إنما كان يبوح بالقاعدة التى بررت له ذلك الإجرام الحرام.. ضرب الميت!
من الذى وسوس لهذا الجندى البسيط بهذه الوسيلة الشيطانية ليقع فى المحظور ويرتكب العار؟ أعتقد أنها أدخنة الاحتقان الطائفى المسكوت عنه، والمُتغاضَى عن عديد جرائمه ومجرميه، من حرق الكنائس وتهديمها إلى الاستيلاء على منابر المساجد بالقوة، فتنة مدسوسة الجمرات تحت تراب وطننا الذى لم يكن أهله إلا وسطيين دائما، ولا يزال غالبيتهم كذلك، سواء مسلمين كانوا أو مسيحيين. ولو لجأنا لوسيلة موضوعية لا تتخذ من غوغائية الحشد ولا علو الصوت أو عدوانية الاندفاع مقياسا، لثبت لنا أن كل أطياف التطرف لا تمثل إلا هامشا ضئيلا مقارنة بمتن الأغلبية الكاسحة من المصريين!
رحلة العار بدايتها بعيدة، من زمن لعب أنظمة الاستبداد والفساد على وتر الطائفية لإلهاء الأمة المنهوبة والمنكوبة فى معارك جانبية بين بنيها تصرف الأنظار عمن يقتلهم جميعا وإن ببطء وخبث ودناءة. لكن عار الموقعة الأخيرة فى ماسبيرو ينبغى اعتباره نقطة نهاية، يليها انقطاع حاسم عن كل ما سبق، وبدءُ جديد لمحو ما ارتُكب فى حقنا جميعا، ووضْع متاريس حاسمة وحاكمة لعدم تكراره، وتغليظ عقوبة مقارفته على أى نحو، ومن ذلك:
ينبغى على المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يخرج رئيسه أو أحد رجاله ليعتذر عما ارتُكب فى ماسبيرو والذى لا يمكن تبريره بأى ضغوط واستفزازات نعرف أن بعضها حقيقى، وأن تتم إقالة محافظ أسوان الذى أجج نار الطائفية بتصريحه الغشوم عن أن الأقباط ارتكبوا خطأ وصححه المسلمون! لأنه بذلك استباح هيبة الدولة لصالح غوغائية طائفية بينما هو رجل يمثل الدولة، أو هكذا يُفترض، وهذه ليست أولى كبائره، فله موقعة قريبة مع النوبيين أخرجتهم عن معهود طباعهم التى هى من أرق وأجمل طباع المصريين برغم طول صبرهم على إهدار حقهم البديهى فى التعويض عما ضحوا به لننعم جميعا بكثير من الأمن المائى بعد بناء السد العالى. ولا أظن أن العثور على لواء أركان حرب آخر يشغل ذلك الموقع، الحساس من منظور الأمن القومى، بعسير على مؤسستنا العسكرية الوطنية العريقة.
أما وزارة شرف ووعوده المجانية وغياب رؤيته السياسية ورخاوة أدائه المنعكس على أركان الوزارة معظمها، فقد باتت عبئا على مصر كلها، وقد صرنا فى حاجة ماسة لحكومة إنقاذ يقودها صاحب رؤية وحسم وجداول عمل واضحة على رأسها قضية الأمن التى ينبغى أن تكون مشروع مصر القومى الآن، بمقترحات ثورية فى إعادة بناء المؤسسة الأمنية على غرار تلك التى انتهجها الجيش فى أعقاب انكسار هزيمة يونيو. ولا بأس من إعطاء وزارة الإنقاذ هذه مدى زمنيا منطقيا لهكذا مهمة كبرى، حتى لو تأخرت «لعبة» الانتخابات العجيبة تلك وما يتبعها. وبمواكبة ذلك لابد من الشروع فى بناء دستور وطنى جامع لدولة مدنية ديمقراطية لا يتغول فيها أحد على أحد مهما كانت أغلبيته أو ادعاء الأغلبية. وصار من حتميات الإنقاذ صدور قانون يمنع التمييز بين المصريين على أسس دينية، ويُعاقب بأشد الجزاء من لا يحترم دين غيره أو يعتدى عليه ماديا أو معنويا.
إن العار الماثل فى حالة استمرار ضرب جسد أحد قتلى موقعة ماسبيرو، وجَلد وتكفير خطيبته التى انحنت عليه تمنع عنه المزيد من الأذى، لا يمكن أن يغسله إلا اعتذار شجاع، وعمل أشجع لإنقاذ مصر الدولة والأمة من فتنة مدبرة بليل وإن ارتدت ثيابا ناصعة البياض فى النهار، ومن هنا يتوجب على كل من لديه القدرة من كل ألوان الأطياف السياسية التى تتكالب على قصعة الانتخابات المعيبة الآن، أن يضحى النبلاء والشجعان فيها للمساهمة فى تكوين حكومة إنقاذ هى أهم الآن وغدا من كل انتخابات ومن أى برلمان، فما نعيشه لا يوحى بأدنى طمأنينة لما يمكن أن تسفر عنه أى انتخابات أو يتشكل بموجبه أى برلمان.
وتبقى القوات المسلحة، برغم كل الأسى مما وقع فى ماسبيرو، النواة الصلبة الوحيدة التى يتجمع حولها تماسك «الدولة» المؤسسى، التى لو انفرط عقده لانفرط الحاضر والمستقبل. كما تبقى فى قصة مايكل وفيفيان لمحة أليمة، فأم هذا الشهيد كما أخبرتنا التغطيات الإعلامية، سيدة مسنة ومريضة كان مايكل عائلها الوحيد، فليس أقل من أن تختصها القوات المسلحة برعاية اجتماعية وصحية تغسل أطراف عارٍ لم يكن فى حسبان ولا سياق ولا تاريخ جيش مصر الوطنى.
الخروج من المستنقع
أضف تعليقك تعليقات : 17
آخر تحديث: الخميس 6 أكتوبر 2011 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة
تقول النكتة، أن أحد مذنبى الدنيا عُرضت عليه ألوان العذاب ليختار من بينها، فرأى النار تشوى الوجوه، ورأى الجلود تمزقها مقالع الحديد، ورأى ورأى، وما أن أبصر مذنبين يقفون فى مستنقع فضلات ونفايات تغمرهم حتى أعناقهم، حتى سارع فى فى اختيار هذا النوع من العذاب على اعتبار أنه الأهون، لكنه بعد أن وقف مع الواقفين، رأى أحد الزبانية يعتلى تلة تشرف على المكان ومعه صفارة عندما يُنفخ فيها يتوجب على الواقفين فى المستنقع أن يقرفصوا ليغطسوا فى هذا القرف المهين، ولا يخرجون رؤوسهم إلا بعد صدور صفارة أخرى يطول انتظارها، وتتكرر دورات العذاب!
هى نكتة قديمة، توحى لى بالموقف الذى صرنا إليه، فنحن الآن كالواقفين فى المستنقع ننتظر الأسوأ. و هذا لايعنى أننا كنا سابقا فى الجنة تحت مظلة النظام الساقط، فقد كان جحيما من قرف أشنع، وما هذا المستنقع الذى انحدرنا إليه إلا حساء نفايات إجرامه البليد الغليظ المتكاثف على امتداد السنين. لكننا بدلا من أن نقوم بتجفيف هذا المستنقع وردمه وإقامة حديقة أو ناديا أو مجمعا سكنيا أو مصنعا أو مزرعة بمكانه، تركناه يزداد تحللا، وانسقنا إلى الخوض فيه!
الهشاشة الأمنية التى نعيشها الآن ليست جديدة، بل هى متفاقمة من زمن اختطاف مؤسسة الشرطة لتكون حارسة أمن ومواكب ومهرجانات وكرنفالات وسرقات وتعديات الأسرة الحاكمة السابقة وبطانة السوء والمحاسيب والمنتفعين من حولها. وعشوائية المجتمع وقمامة الشوارع ليست بالشيء الجديد. أما «عجلة الانتاج «، فقد كانت تدور بطاقة تخريبية على حساب تدمير البيئة والأرض الزراعية التى أشارت التقديرات المستقبلية إلى كامل انقراض رقعتها فى أقل من عقدين، ولصالح مشاريع النهب فى قطاع البناء الذى كان مغارة على بابا لعصابة ناهبى الأرض وبناء مدن لاظهير لها ولا مستقبل، إضافة للصناعات الملوثة للبيئة ونهمة الاستهلاك للطاقة التى كان الغرب يطردها من أراضيه ليستقبلها على أرضنا المحاسيب من عصابة الفساد والتربح الفاحش الحرام.
أما الاتجاهات المتعصبة التى باتت وقود الهوجة الاجتماعية والسياسية التى نعيشها، فهى ليست إلا حصاد عقود القهر والقمع والإذلال والتفاهة الثقافية وغياب العدل الاجتماعى وافتقاد عدالة القانون وتخريب نزاهة التشريع وإهدار القيم التى رعاها النظام السابق بقيادة رجل يجعلنا بعض ما تم الكشف عنه مؤخرا من سلوكه ومعالجاته للأزمة وماقبلها نستغرب كيف لفارغ بليد إلى هذا الحد أن يتمكن من حكم بلد كمصر على امتداد عقود ثلاثة، بمساعدة عيال ورجال جوف، خاصة فى السنين الوبيلة الأخيرة؟
المشكلة الآن ليست أننا كنا أحسن وصرنا أسوأ، بل أننا كنا أسوأ ولم نصبح أحسن بعد ثورة حضارية شهدت لها الدنيا. فلماذا؟
إجابتى الاجتهادية هى أن ما قادنا لنوحل فى هذا المستنقع هو تغييب الصدق فى كثير من مفاصل الفترة الانتقالية بين القوى السياسية التى طفت على السطح والمجلس العسكرى الحاكم، بعد أن صنع الصدق ملحمة تاريخية تناغم فيها أداء جناحى الثورة : الشباب الذين التف حول مطالبهم الواضحة الشعب : « تغيير. حرية. عدالة اجتماعية «، وجيش مصر الوطنى ممثلا فى قياداته التى خاطرت واقعيا بأرواحها لتدعم مشروعية مطالب الأمة وعلى رأسها الإطاحة بمشروع التوريث وردع استفحال الفساد. ثم؟
انصرف شباب الثورة عن ميادينها لأنهم كانوا أبرياء حقا وبلا أطماع وتحركهم تطلعات لقيم عليا كالحرية والعدالة وسلمية تداول السلطة فى دولة ديموقراطية حديثة، فيما طفت على السطح قوى كانت مختفية أو مقموعة وليس لديها غير رؤى لاتستوعب متغيرات العصر وحماس يوشك أن يكون عدوانيا تجاه كل من يخالفها الرأى، وكان السواد الأعظم من فقراء الأمة يتعجلون الحصول على ما افتقدوه طويلا من الإنصاف والعدالة.
فى هذه الأثناء تسلم المجلس العسكرى زمام السلطة لفترة انتقالية بتفويض شعبى لايمكن إنكاره، فيما كان هذا المجلس يتعرض لضغوط خارجية وإقليمية توشك أن تكون ابتزازا، ولم يخل الأمر من مظاهر تخريب داخلى تنفذه أياد خفية، وقد صرح أركان المجلس العسكرى فى هذه الملابسات الصعبة بأنهم توافقوا على شيئين : « عدم القفز على السلطة، وعدم اتخاذ أى إجراء يخالف القانون «، بل أفصح كثيرون من أقطابه أنهم مع الدولة المدنية والنظام الديموقراطى. فلماذا رأينا ما رأينا بعد ذلك؟
لقد أطلت الفتنة برأسها وكان أول الفتنة تلك « التعديلات الدستورية « التى فصَّلتها لجنة أفصح تفصيلها عما وراءها من ضيق المنظور الوطنى الجامع بل بعض الهوى لتمكين تيار بعينه. ثم كان الاستفتاء المؤسس على هذه التعديلات، والذى كشف عما لم تفصح عنه الخبايا والطوايا، بعد أن جاءت نتيجة الاستفتاء بالأغلبية لمن قالو»نعم»، بوهم الحصول على الاستقرار، وبعد حملة غير عادلة ولا صادقة تم فيها توظيف الدين بفظاظة لاصدق فيها ولا عدل لصالح مشروع سياسى ملتبس !
لم تكن « نعم « فى الاستفتاء فى مجملها تأييدا لهياج بعض السلفية ولا تجييرا لنزوع بعض الإخوان ولا تكريسا لقيادة القوات المسلحة التى لم تكن فى حاجة أصلا لتكريس لأنها كانت مناط إجماع شعبى جارف. كانت نعم ممنوحة لوعد الاستقرار وحلم الطمأنينة تبعا لما روجه المروجون آنذاك. وكانت « لا « ممنوحة للطريق الآمن فى مسار الفترات الانتقالية التى تعقب الثورات، فقد كانت طلبا لأولوية التوافق على دستور جامع، ودولة مدنية ( لا تخضع للتحكم العسكرى ولا للتسلط باسم الدين )، ومنفتحة لتداول سلمى للسلطة على أسس ديموقراطية. ثم تبين أن « لا « مثل « نعم « !
مضت الشهور وراء الشهور وقارب عام كامل على المرور بعد 25 يناير، بينما افتقاد الأمن يزداد، ومُخرَجات عمل اللواء ممدوح شاهين من اجتهادات واستشارات تزيد بلبلة الناس وتسيء إلى صورة المجلس العسكرى. أما الحكومة فهى تكاد تكون حكومة وكلاء وزارات لا وزراء إلا ما ندر، فلا عجلة الاقتصاد دارت بالسرعة المأمولة، ولا انصلحت الأحوال، وتكاثف الضباب فوق المستنقع الذى نكتشف يوما بعد يوم أننا نخوض فيه ونوغل !
مؤكد أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الغطس فى هذا المستنقع، لكنها ليست مستبعدة إذا استمر التدهور، ولن نكون عندئذ فى انتظار صفارة لنقرفص غارقين فى العفن والوحل، لأن ألأسن هو الذى سيصعد ليعمى العيون ويكتم الأنفاس، كل أنفاس الأمة، فماذا نفعل؟
ليس أمامنا إلا أن نتصارح، والصراحة تقتضى الاعتراف بأن الأمة فى خطر، ولم تعد هناك نواة مؤسسية صلبة يتماسك حولها كيان «الدولة» غير القوات المسلحة، وقد صار المجلس الأعلى للقوات المسلحة موضع تساؤل كثيرين بعد كل تلك الألغاز التى لايكف عن إطلاقها علينا اللواء ممدوح شاهين ومستشاريه الذى باتوا أشباحا لايظهرون فى الصورة. وبرغم كونى أحد الواقفين فى موضع التساؤل، إلا أننى أحسست بالارتياح لما لم يرتح له كثيرون لهم مبرراتهم، عندما ردد المشير أن مصر « لن تسقط، ولن نتركها تسقط «، وحمدت الله على بعض ذلك الاستمساك وليس كله، لأننى أحس المعنى المرعب لانهيار الدولة، وليس العراق بعد قرار « بريمر « المشئوم بحل الجيش والبوليس فى أعقاب الاحتلال بغائب عن الذاكرة، وليست فوضى الصومال وأفغانستان خافيتين عن الأبصار والبصائر، أما « النموذج « السودانى الذى رسمته عصا البشير الملوحة مع التكبير وبصحبة « إرشادات « الترابى قبل أن تنفض شراكتهما ويتحولان إلى خصمين لدودين، فهاهى النتيجة تفصل جنوبه السودان عن شماله، دون أن يكون ذلك آخر تفتيت لوحدة السودان، للأسف.
أتصور أن الصراحة تقتضى أن نعترف بأن القوات المسلحة ممثلة بقيادات المجلس العسكرى تريد حصانة ومنعة من أن يعصف بها المُزايدون إن حكموا، كما تقتضى الصراحة أن نعترف بأنه قد وقعت التفافات كثيرة حول مطلب البداية الصحيحة لمسيرة التغيير فى اتجاه دولة حديثة ديموقراطية تحترم دين الأغلبية وتستلهمه كمصدر أساسى للتشريع دون العسف بحق غير الأغلبية فى الاحتكام فى أمورهم الروحية والشخصية لما ترتضيه شرائعم. ويبقى أن نعترف بأنه لا أحد يحتكر تمثيل الأمة، لا الإخوان، ولا السلفيين، ولا اليساريين، ولا الليبراليين، فالأغلبية الحقيقية الكاسحة تكمن فى الوسطية المصرية فى كل شيء، وعلى كل الأطراف أن تتواضع لله، وتضع مطلب الحق فوق شهوة القوة.
ما المانع فى أن نتصارح، ونعترف بحقيقة ما يطلبه كل طرف فى معادلة الأمة الدولة فى إطار الصالح العام؟ ونتفاوض من موقع المصارحة، ونعترف بخطأ القليل أو الكثير مما أهدرناه من خُطى ونعود عنها لنبدأ بداية صحيحة أولها التوافق والاتفاق على خريطة سير هى من بديهيات كل شروع فى الحركة لدى الأحياء وفى كل الحياة، أى الدستور، الذى توازيه الخارطة الجينية فى كل خلية منحها الله حق الحياة. هذا هو قانون الله لمن يحاججون باسم الله؟
لابد أن نخرج من هذا المستنقع ونردمه، ونقيم بمكانه كل جميل مفيد صادق شريف، وبأسرع ما يمكننا تداركا لما ضاع من جهد ووقت، ونفوت الفرصة على الـ « نيكروفيلييون «، الذين يمثلون حالة مرضية متطرفة من الجنوح النفسى البشرى التدميرى، يتعلقون فيها بالنفايات والفضلات، ولا يسوؤهم الوقوف حتى أعناقهم فى مستنقعاتها، بل ينتظرون صفارة الغطس؟!
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هى نكتة قديمة، توحى لى بالموقف الذى صرنا إليه، فنحن الآن كالواقفين فى المستنقع ننتظر الأسوأ. و هذا لايعنى أننا كنا سابقا فى الجنة تحت مظلة النظام الساقط، فقد كان جحيما من قرف أشنع، وما هذا المستنقع الذى انحدرنا إليه إلا حساء نفايات إجرامه البليد الغليظ المتكاثف على امتداد السنين. لكننا بدلا من أن نقوم بتجفيف هذا المستنقع وردمه وإقامة حديقة أو ناديا أو مجمعا سكنيا أو مصنعا أو مزرعة بمكانه، تركناه يزداد تحللا، وانسقنا إلى الخوض فيه!
الهشاشة الأمنية التى نعيشها الآن ليست جديدة، بل هى متفاقمة من زمن اختطاف مؤسسة الشرطة لتكون حارسة أمن ومواكب ومهرجانات وكرنفالات وسرقات وتعديات الأسرة الحاكمة السابقة وبطانة السوء والمحاسيب والمنتفعين من حولها. وعشوائية المجتمع وقمامة الشوارع ليست بالشيء الجديد. أما «عجلة الانتاج «، فقد كانت تدور بطاقة تخريبية على حساب تدمير البيئة والأرض الزراعية التى أشارت التقديرات المستقبلية إلى كامل انقراض رقعتها فى أقل من عقدين، ولصالح مشاريع النهب فى قطاع البناء الذى كان مغارة على بابا لعصابة ناهبى الأرض وبناء مدن لاظهير لها ولا مستقبل، إضافة للصناعات الملوثة للبيئة ونهمة الاستهلاك للطاقة التى كان الغرب يطردها من أراضيه ليستقبلها على أرضنا المحاسيب من عصابة الفساد والتربح الفاحش الحرام.
أما الاتجاهات المتعصبة التى باتت وقود الهوجة الاجتماعية والسياسية التى نعيشها، فهى ليست إلا حصاد عقود القهر والقمع والإذلال والتفاهة الثقافية وغياب العدل الاجتماعى وافتقاد عدالة القانون وتخريب نزاهة التشريع وإهدار القيم التى رعاها النظام السابق بقيادة رجل يجعلنا بعض ما تم الكشف عنه مؤخرا من سلوكه ومعالجاته للأزمة وماقبلها نستغرب كيف لفارغ بليد إلى هذا الحد أن يتمكن من حكم بلد كمصر على امتداد عقود ثلاثة، بمساعدة عيال ورجال جوف، خاصة فى السنين الوبيلة الأخيرة؟
المشكلة الآن ليست أننا كنا أحسن وصرنا أسوأ، بل أننا كنا أسوأ ولم نصبح أحسن بعد ثورة حضارية شهدت لها الدنيا. فلماذا؟
إجابتى الاجتهادية هى أن ما قادنا لنوحل فى هذا المستنقع هو تغييب الصدق فى كثير من مفاصل الفترة الانتقالية بين القوى السياسية التى طفت على السطح والمجلس العسكرى الحاكم، بعد أن صنع الصدق ملحمة تاريخية تناغم فيها أداء جناحى الثورة : الشباب الذين التف حول مطالبهم الواضحة الشعب : « تغيير. حرية. عدالة اجتماعية «، وجيش مصر الوطنى ممثلا فى قياداته التى خاطرت واقعيا بأرواحها لتدعم مشروعية مطالب الأمة وعلى رأسها الإطاحة بمشروع التوريث وردع استفحال الفساد. ثم؟
انصرف شباب الثورة عن ميادينها لأنهم كانوا أبرياء حقا وبلا أطماع وتحركهم تطلعات لقيم عليا كالحرية والعدالة وسلمية تداول السلطة فى دولة ديموقراطية حديثة، فيما طفت على السطح قوى كانت مختفية أو مقموعة وليس لديها غير رؤى لاتستوعب متغيرات العصر وحماس يوشك أن يكون عدوانيا تجاه كل من يخالفها الرأى، وكان السواد الأعظم من فقراء الأمة يتعجلون الحصول على ما افتقدوه طويلا من الإنصاف والعدالة.
فى هذه الأثناء تسلم المجلس العسكرى زمام السلطة لفترة انتقالية بتفويض شعبى لايمكن إنكاره، فيما كان هذا المجلس يتعرض لضغوط خارجية وإقليمية توشك أن تكون ابتزازا، ولم يخل الأمر من مظاهر تخريب داخلى تنفذه أياد خفية، وقد صرح أركان المجلس العسكرى فى هذه الملابسات الصعبة بأنهم توافقوا على شيئين : « عدم القفز على السلطة، وعدم اتخاذ أى إجراء يخالف القانون «، بل أفصح كثيرون من أقطابه أنهم مع الدولة المدنية والنظام الديموقراطى. فلماذا رأينا ما رأينا بعد ذلك؟
لقد أطلت الفتنة برأسها وكان أول الفتنة تلك « التعديلات الدستورية « التى فصَّلتها لجنة أفصح تفصيلها عما وراءها من ضيق المنظور الوطنى الجامع بل بعض الهوى لتمكين تيار بعينه. ثم كان الاستفتاء المؤسس على هذه التعديلات، والذى كشف عما لم تفصح عنه الخبايا والطوايا، بعد أن جاءت نتيجة الاستفتاء بالأغلبية لمن قالو»نعم»، بوهم الحصول على الاستقرار، وبعد حملة غير عادلة ولا صادقة تم فيها توظيف الدين بفظاظة لاصدق فيها ولا عدل لصالح مشروع سياسى ملتبس !
لم تكن « نعم « فى الاستفتاء فى مجملها تأييدا لهياج بعض السلفية ولا تجييرا لنزوع بعض الإخوان ولا تكريسا لقيادة القوات المسلحة التى لم تكن فى حاجة أصلا لتكريس لأنها كانت مناط إجماع شعبى جارف. كانت نعم ممنوحة لوعد الاستقرار وحلم الطمأنينة تبعا لما روجه المروجون آنذاك. وكانت « لا « ممنوحة للطريق الآمن فى مسار الفترات الانتقالية التى تعقب الثورات، فقد كانت طلبا لأولوية التوافق على دستور جامع، ودولة مدنية ( لا تخضع للتحكم العسكرى ولا للتسلط باسم الدين )، ومنفتحة لتداول سلمى للسلطة على أسس ديموقراطية. ثم تبين أن « لا « مثل « نعم « !
مضت الشهور وراء الشهور وقارب عام كامل على المرور بعد 25 يناير، بينما افتقاد الأمن يزداد، ومُخرَجات عمل اللواء ممدوح شاهين من اجتهادات واستشارات تزيد بلبلة الناس وتسيء إلى صورة المجلس العسكرى. أما الحكومة فهى تكاد تكون حكومة وكلاء وزارات لا وزراء إلا ما ندر، فلا عجلة الاقتصاد دارت بالسرعة المأمولة، ولا انصلحت الأحوال، وتكاثف الضباب فوق المستنقع الذى نكتشف يوما بعد يوم أننا نخوض فيه ونوغل !
مؤكد أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الغطس فى هذا المستنقع، لكنها ليست مستبعدة إذا استمر التدهور، ولن نكون عندئذ فى انتظار صفارة لنقرفص غارقين فى العفن والوحل، لأن ألأسن هو الذى سيصعد ليعمى العيون ويكتم الأنفاس، كل أنفاس الأمة، فماذا نفعل؟
ليس أمامنا إلا أن نتصارح، والصراحة تقتضى الاعتراف بأن الأمة فى خطر، ولم تعد هناك نواة مؤسسية صلبة يتماسك حولها كيان «الدولة» غير القوات المسلحة، وقد صار المجلس الأعلى للقوات المسلحة موضع تساؤل كثيرين بعد كل تلك الألغاز التى لايكف عن إطلاقها علينا اللواء ممدوح شاهين ومستشاريه الذى باتوا أشباحا لايظهرون فى الصورة. وبرغم كونى أحد الواقفين فى موضع التساؤل، إلا أننى أحسست بالارتياح لما لم يرتح له كثيرون لهم مبرراتهم، عندما ردد المشير أن مصر « لن تسقط، ولن نتركها تسقط «، وحمدت الله على بعض ذلك الاستمساك وليس كله، لأننى أحس المعنى المرعب لانهيار الدولة، وليس العراق بعد قرار « بريمر « المشئوم بحل الجيش والبوليس فى أعقاب الاحتلال بغائب عن الذاكرة، وليست فوضى الصومال وأفغانستان خافيتين عن الأبصار والبصائر، أما « النموذج « السودانى الذى رسمته عصا البشير الملوحة مع التكبير وبصحبة « إرشادات « الترابى قبل أن تنفض شراكتهما ويتحولان إلى خصمين لدودين، فهاهى النتيجة تفصل جنوبه السودان عن شماله، دون أن يكون ذلك آخر تفتيت لوحدة السودان، للأسف.
أتصور أن الصراحة تقتضى أن نعترف بأن القوات المسلحة ممثلة بقيادات المجلس العسكرى تريد حصانة ومنعة من أن يعصف بها المُزايدون إن حكموا، كما تقتضى الصراحة أن نعترف بأنه قد وقعت التفافات كثيرة حول مطلب البداية الصحيحة لمسيرة التغيير فى اتجاه دولة حديثة ديموقراطية تحترم دين الأغلبية وتستلهمه كمصدر أساسى للتشريع دون العسف بحق غير الأغلبية فى الاحتكام فى أمورهم الروحية والشخصية لما ترتضيه شرائعم. ويبقى أن نعترف بأنه لا أحد يحتكر تمثيل الأمة، لا الإخوان، ولا السلفيين، ولا اليساريين، ولا الليبراليين، فالأغلبية الحقيقية الكاسحة تكمن فى الوسطية المصرية فى كل شيء، وعلى كل الأطراف أن تتواضع لله، وتضع مطلب الحق فوق شهوة القوة.
ما المانع فى أن نتصارح، ونعترف بحقيقة ما يطلبه كل طرف فى معادلة الأمة الدولة فى إطار الصالح العام؟ ونتفاوض من موقع المصارحة، ونعترف بخطأ القليل أو الكثير مما أهدرناه من خُطى ونعود عنها لنبدأ بداية صحيحة أولها التوافق والاتفاق على خريطة سير هى من بديهيات كل شروع فى الحركة لدى الأحياء وفى كل الحياة، أى الدستور، الذى توازيه الخارطة الجينية فى كل خلية منحها الله حق الحياة. هذا هو قانون الله لمن يحاججون باسم الله؟
لابد أن نخرج من هذا المستنقع ونردمه، ونقيم بمكانه كل جميل مفيد صادق شريف، وبأسرع ما يمكننا تداركا لما ضاع من جهد ووقت، ونفوت الفرصة على الـ « نيكروفيلييون «، الذين يمثلون حالة مرضية متطرفة من الجنوح النفسى البشرى التدميرى، يتعلقون فيها بالنفايات والفضلات، ولا يسوؤهم الوقوف حتى أعناقهم فى مستنقعاتها، بل ينتظرون صفارة الغطس؟!
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عن الثقافة.. والسخافة!
أضف تعليقك تعليقات : 18
آخر تحديث: الخميس 29 سبتمبر 2011 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة
قرأت الخبر صباح الخميس الماضى فملأنى بالاستهجان، واستعادت ذاكرتى مشهد جناح مصر فى معرض فرانكفورت الدولى للكتاب الذى حضرته نهاية عام 1999 عندما كنت موفدا من مجلة العربى للقيام باستطلاع عن معهد العلوم العربية والإسلامية فى المدينة.
طفت بأجنحة دول العالم المختلفة فى المعرض وخصصت وقتا لأجنحة الدول العربية وعلى رأسها مصر بالطبع، وكان شيئا مزريا لم أتورع عن التعبير عنه حينها بأقصى ما تحتمله مجلة العربى من قسوة التعبير، وكانت هناك قناة تليفزيونية عربية سجَّلت معى فتكلمت بما أراه وأحسه، فلم تذع من حديثى شيئا.
المعروف أن معرض فرانكفورت للكتاب ليس سوقا يشترى مرتادوه ما يختارونه من كتب معروضة، فهو فعالية دولية لعرض آخر ما وصلت إليه صناعة الثقافة المطبوعة فى العالم، لا ليشترى منها الجمهور، ولكن ليتم من خلاله الاطلاع على الجديد القادم، وتبادل اتفاقات الترجمة وعقود النشر بين الدور المختلفة، ومن ثم تتبارى الدول فى عرض أفضل ما لديها حتى لو كان عشرة كتب فى مساحة صغيرة حريصة على القيمة والجمال، أما الجناح المصرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
مساحة لعلها كانت من أكبر المساحات فى المعرض. وداخل هذه المساحة كانت كتب دور النشر الحكومية المصرية تتراص على الأرفف قبيحة المظهر مقارنة بأتعس ما يعرضه أى جناح لأى دولة مُشارِكة، ومعظمها كتب عربية مما يتكدس فى مخازن هيئة الكتاب هنا، وثمة كتب قليلة مما ترجمته الهيئة نفسها للغة الإنجليزية فى طبعات مزرية الشكل ركيكة الترجمة، ولحفنة من المنتفعين لا قيمة لهم أصلا فى مصر، فما بالك أن يكون لهم أى قيمة فى الخارج!
كان مرتادو المعرض يمرون بالجناح المكسوة أسواره بصور السيدة سوزان فينظرون بتساؤل عمن تكون هذه السيدة، هل هى مفكرة كبيرة أم عالمة مرموقة أم كاتبة شهيرة أم ماذا، ثم يلقون نظرة عابرة على جوف الجناح الخاوى ويمضون مستغربين، فالكتب العربية إضافة إلى كلاحة منظرها مقارنة بكتب الآخرين لم تكن تعنى لجمهور ألمانى وأوروبى شيئا، أما الندوات التى تقام على هامش المعرض، فقد كان تمثيلنا فيها بائسا، لمُشاركين لا يجيدون لغة أجنبية وينزلقون إلى تملق الحس الاستشراقى، بينما حضور هذه الندوات أقل عددا من المتحدثين على منصاتها!
كان ذلك منذ عشر سنوات، وظل يتكرر بالصورة نفسها تقريبا، ولم ينقذ الموقف إلا قليلا سوى بعض دور النشر الخاصة والمشاركين بدعوات شخصية من كُتَّاب يجيدون الحديث مع جمهور غربى بإحدى لغاته، ولم يكن هذا يكلف ميزانية الدولة شيئا، بينما عائده أفضل وجمهوره أوفر، لكن طبول «التمثيل المشرف» الرسمية كانت على عهدها فى صدارة «الضوضاء الثقافية» التى كانت تكتيكا وإستراتيجية معتمدة فى معارض وندوات ومؤتمرات ومهرجانات وزارة ثقافة فاروق حسنى.
تداعى كل ذلك إلى ذهنى وأنا أقرأ الخبر المنشور فى صحافة صباح الخميس الماضى ويقول: «تشارك مصر بوفد برئاسة الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب فى معرض فرانكفورت الدولى للكتاب الذى يقام بمدينة فرانكفورت الالمانية خلال الفترة من 12 إلى 16 أكتوبر المقبل. وتعرض الهيئة كل إصداراتها الحديثة التى شاركت بها مؤخرا فى معرض فيصل والجزيرة للكتاب»!
همهمت مستهجنا «أى وفد وأية إصدارات؟!»، فما أعرفه عن إصداراتنا ووفودنا ومعرض فرانكفورت يفضح زيف هذه المشاركات الشكلية عديمة المردود تقريبا، أما تكاليف سفر وبدلات سفر «وفد» فهى فى هذا الوقت بالذات تعبِّر عن لامبالاة معيبة فى بلد يتسول دعما من هنا ومن هناك ليجبر كسر اقتصاده الذى نهبه جراد النظام الساقط والحزب المنحل، ولا يجد كثيرون من مصابى ثورته علاجا لأبصارهم التى أودى بها الرصاص المطاطى، وأعصابهم التى قطعها رصاص القناصة، وجلودهم التى صهرها مولوتوف بلطجية مبارك. ناهيك عن معاناة ملايين العائشين تحت خط الفقر، والعاطلين عن العمل، والذين يعملون ولم يقبضوا رواتبهم الهزيلة منذ شهور، وندمغ صرخاتهم إن صرخوا بأنها «فئوية» تعطل الإنتاج!
يمتد استهجانى لكل بذخ لا لزوم له من الإنفاق الحكومى فى ظروفنا الراهنة، كمئات الآلاف راتبا شهريا لمدرب كرة من ميزانية الدولة، ومثلها مكافآت لموظفين ذوى حظوة فى مغارة الصناديق الخاصة وتحت أكذوبة الخبرات النادرة، فكل هذا يطيح بمطلب التقشف الذى صرخ به كثيرون أذكر منهم الدكتور حسام عيسى فى لقاء مع ممثلين للمجلس العسكرى. وإذا كان «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع»، فإن أى إنفاق خارج نطاق الضرورات القصوى لفقراء الوطن وضعافه يُعتبر سخافة يتوجب علينا فضحها وإيقافها وردع ما يطل برأسه من أشباهها. وفى موضوع الثقافة، فإن هذا الخبر يمس عندى وجعا من السياسة الثقافة الماضية لاتزال آثاره تنغص علينا واقعنا وبأكثر مما يتصور كثيرون.
وحتى لا تبدو المسألة محض انتقاد فإننى أذكر للوزير الحالى الدكتور عماد أبوغازى لمحات بصيرة كإلغاء مهرجانات فنية «دولية» كانت تثقل ميزانية بلد مثقل بالديون أصلا، كما أنه أوقف مخطط تدمير السيرك القومى ومؤامرة بيع أرضه لمستثمرى زمن الغفلة، وقد أخبرنى صديقى لاعب الجمباز القديم ومدير السيرك القومى الكابتن محمد أبوليلة أن الدكتور عماد أعطى دفعة طيبة للسيرك كما قامت القوات المسلحة بتدعيم خيمته وتكييفها، وكان ذلك خبرا ثقافيا سارا جدا لى كون السيرك من أهم روافد الثقافة الشعبية المحفزة للخيال وروح التحدى، وضمن تصور للثقافة يتصل بموضوعنا.
المدهش أن من طالبنى وغيرى بتقديم تصور للعمل الثقافى بعد الثورة هو رجل صناعة وطنى مخلص ومثقف حقيقى هو الصديق محمد قاسم الذى يعمل ضمن مجموعة متطوعة تجتهد دون مقابل فى وضع تصورات مستقبلية على أسس علمية لوطننا فى مناشطه المختلفة، كالطاقة، والصناعة، والزراعة، وغيرها مما تتطلبه النهضة الواجبة والمأمولة. وفى الاتجاه نفسه تسير مبادرة لدراسات النهضة يقودها الدكتور صفى الدين عرجون، مما يقطع بأن هناك عقولا بصيرة وقلوبا مصرية مخلصة تأمل وتعمل وتقوم بهذا كله تطوعا لأجل عيون الوطن.
ورجوعا إلى قضية الثقافة فإن رأيى أن العوار الأخطر فى سياسة وزارة الثقافة زمن النظام الساقط، والذى لا ينبغى تكراره، كان نابعا من رؤية قاصرة ترى أن ثقافة مصر هى ثقافة العاصمة ونخبة العاصمة وجمهور العاصمة، وما عدا ذلك مجرد رفع عتب بجهاز متورم ومهلهل للثقافة الجماهيرية، وقصور وبيوت ثقافة فى الأقاليم تشكو خواءها، ومسرح جافى البلدات والقرى والنجوع إلا ما ندر أو احترق. أما مشروع مكتبة الأسرة، الذى نشأ فكرة لتوفيق الحكيم وردت فى حوار مع الكاتب والصحفى الكبير العزيز منير عامر، واستولت عليه «الهانم» بتملق وتدليس بعض «المثقفين»، فقد تم إفراغه من جلال فكرته بسياسات المحسوبية والمظهرية والتنفيع والفساد.
هذه السياسة التى وضعت الثقافة فى قفص العاصمة، وزينت هذا القفص بسخافات الأبسطة الحمراء ورجرجات شحم ولحم فناناتنا المتصابيات والجوائز الطنانة والأضواء والألعاب النارية والتغطية الإعلامية التى كانت عين المراد من متخذ القرار الثقافى لتصل إلى عيون الهانم والرئيس الذى كان «مدمن تليفزيون» لأنه لا يقرأ إلا جرائد المؤلفة جيوبهم «من الجلدة للجلدة»! هذه السياسة القاصرة وقصيرة النظر أثمرت كارثة نأكل حصرمها اليوم، مُمَثلا فى جحافل مستلبى العقول من تيارات الانغلاق والتعصب، بكل أشكالهما الدينية والدنيوية، لسببين أولهما القهر الملازم للفقر، ثم الفراغ الذى ملأه دعاة التعصب بإفرازات نفوسهم التى يبرأ من جنوحها صحيح الدين ورحيم الدنيا، فالذى حدث أن الثقافة التى هى أهم أداة فى تربية العقل النقدى، بجمالياتها وانفتاحها وتحاور وتعايش الأفكار داخلها، تركت العقول الشابة من أبناء الفقراء خاصة بلا غذاء فكرى يقوِّى النظرة النقدية ويمنع الانزلاق السهل باتجاه الاستقطابات الفكرية الجانحة، فكان أن اختطف هذه العقول أول الغزاة متعصبو المظهر والجوهر والمدعومون بما يتيح لهم التفرغ لاستلاب العقول الغضة بالزن على الآذان وتملك أصحابها ببعض الإعانة فى أمور الدنيا التى ضيقها عليهم حكم فاسد وفاسق بالضرورة، ناهيك عن صكوك الغفران التى كان دعاة التعصب هؤلاء يمنحونها لشباب برىء ومتطهر، فيمتلكون منهم الألباب والإرادة، وخط السير.
لقد انعدم الحراك الثقافى بعيدا عن المركز، فلا مسرح جوالا يجوب القرى، ولا ندوات ثقافية تُعقد هناك، لا عروض سينمائية راقية تذهب إلى الفلاحين بشاشات متنقلة تقام فى الأجران، ولا زيارات لوجوه الثقافة تمنح نظرة لمدارس الأقاليم وجامعاتها، وكان ذلك حريا بأن تنظمه وترعاه وزارة الثقافة وتحميه الدولة، فى إطار جامع للنسيج الوطنى ومنفتح الأفكار بلا تجاوز للقيم والتقاليد أو متملق لها، مع إطلالة واجبة على ما يناسبنا ويلزمنا من جوانب تثقيف تضع هذه الجيوش النقية من شباب القرى والأقاليم فى قلب العالم المعاصر، وأهمها ثقافة العلم التى تكاد تكون معدومة لدينا، وهل أدل على ذلك من أن كل هذا الضجيج التليفزيونى المصرى الذى تتكاثر فضائياته كالفطر فى غابة مستباحة، ليس به برنامج واحد يقدم الثقافة العلمية؟!
إن إهدار قرش واحد على أى نشاط يمكن الاستغناء عنه، كما حكاية وفد هيئة الكتاب إلى معرض فرانكفورت، لهو أمر معيب فى ضوء ما نعيشه من احتياج لكل قرش فى جبر ما انكسر وإدراك ما لم ينكسر بعد، ومن المؤكد أن هذا ينبغى أن ينطبق على الإنفاق الحكومى كله، وأن نقف لكل إهداراته وسخافاته بالمرصاد.
طفت بأجنحة دول العالم المختلفة فى المعرض وخصصت وقتا لأجنحة الدول العربية وعلى رأسها مصر بالطبع، وكان شيئا مزريا لم أتورع عن التعبير عنه حينها بأقصى ما تحتمله مجلة العربى من قسوة التعبير، وكانت هناك قناة تليفزيونية عربية سجَّلت معى فتكلمت بما أراه وأحسه، فلم تذع من حديثى شيئا.
المعروف أن معرض فرانكفورت للكتاب ليس سوقا يشترى مرتادوه ما يختارونه من كتب معروضة، فهو فعالية دولية لعرض آخر ما وصلت إليه صناعة الثقافة المطبوعة فى العالم، لا ليشترى منها الجمهور، ولكن ليتم من خلاله الاطلاع على الجديد القادم، وتبادل اتفاقات الترجمة وعقود النشر بين الدور المختلفة، ومن ثم تتبارى الدول فى عرض أفضل ما لديها حتى لو كان عشرة كتب فى مساحة صغيرة حريصة على القيمة والجمال، أما الجناح المصرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
مساحة لعلها كانت من أكبر المساحات فى المعرض. وداخل هذه المساحة كانت كتب دور النشر الحكومية المصرية تتراص على الأرفف قبيحة المظهر مقارنة بأتعس ما يعرضه أى جناح لأى دولة مُشارِكة، ومعظمها كتب عربية مما يتكدس فى مخازن هيئة الكتاب هنا، وثمة كتب قليلة مما ترجمته الهيئة نفسها للغة الإنجليزية فى طبعات مزرية الشكل ركيكة الترجمة، ولحفنة من المنتفعين لا قيمة لهم أصلا فى مصر، فما بالك أن يكون لهم أى قيمة فى الخارج!
كان مرتادو المعرض يمرون بالجناح المكسوة أسواره بصور السيدة سوزان فينظرون بتساؤل عمن تكون هذه السيدة، هل هى مفكرة كبيرة أم عالمة مرموقة أم كاتبة شهيرة أم ماذا، ثم يلقون نظرة عابرة على جوف الجناح الخاوى ويمضون مستغربين، فالكتب العربية إضافة إلى كلاحة منظرها مقارنة بكتب الآخرين لم تكن تعنى لجمهور ألمانى وأوروبى شيئا، أما الندوات التى تقام على هامش المعرض، فقد كان تمثيلنا فيها بائسا، لمُشاركين لا يجيدون لغة أجنبية وينزلقون إلى تملق الحس الاستشراقى، بينما حضور هذه الندوات أقل عددا من المتحدثين على منصاتها!
كان ذلك منذ عشر سنوات، وظل يتكرر بالصورة نفسها تقريبا، ولم ينقذ الموقف إلا قليلا سوى بعض دور النشر الخاصة والمشاركين بدعوات شخصية من كُتَّاب يجيدون الحديث مع جمهور غربى بإحدى لغاته، ولم يكن هذا يكلف ميزانية الدولة شيئا، بينما عائده أفضل وجمهوره أوفر، لكن طبول «التمثيل المشرف» الرسمية كانت على عهدها فى صدارة «الضوضاء الثقافية» التى كانت تكتيكا وإستراتيجية معتمدة فى معارض وندوات ومؤتمرات ومهرجانات وزارة ثقافة فاروق حسنى.
تداعى كل ذلك إلى ذهنى وأنا أقرأ الخبر المنشور فى صحافة صباح الخميس الماضى ويقول: «تشارك مصر بوفد برئاسة الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب فى معرض فرانكفورت الدولى للكتاب الذى يقام بمدينة فرانكفورت الالمانية خلال الفترة من 12 إلى 16 أكتوبر المقبل. وتعرض الهيئة كل إصداراتها الحديثة التى شاركت بها مؤخرا فى معرض فيصل والجزيرة للكتاب»!
همهمت مستهجنا «أى وفد وأية إصدارات؟!»، فما أعرفه عن إصداراتنا ووفودنا ومعرض فرانكفورت يفضح زيف هذه المشاركات الشكلية عديمة المردود تقريبا، أما تكاليف سفر وبدلات سفر «وفد» فهى فى هذا الوقت بالذات تعبِّر عن لامبالاة معيبة فى بلد يتسول دعما من هنا ومن هناك ليجبر كسر اقتصاده الذى نهبه جراد النظام الساقط والحزب المنحل، ولا يجد كثيرون من مصابى ثورته علاجا لأبصارهم التى أودى بها الرصاص المطاطى، وأعصابهم التى قطعها رصاص القناصة، وجلودهم التى صهرها مولوتوف بلطجية مبارك. ناهيك عن معاناة ملايين العائشين تحت خط الفقر، والعاطلين عن العمل، والذين يعملون ولم يقبضوا رواتبهم الهزيلة منذ شهور، وندمغ صرخاتهم إن صرخوا بأنها «فئوية» تعطل الإنتاج!
يمتد استهجانى لكل بذخ لا لزوم له من الإنفاق الحكومى فى ظروفنا الراهنة، كمئات الآلاف راتبا شهريا لمدرب كرة من ميزانية الدولة، ومثلها مكافآت لموظفين ذوى حظوة فى مغارة الصناديق الخاصة وتحت أكذوبة الخبرات النادرة، فكل هذا يطيح بمطلب التقشف الذى صرخ به كثيرون أذكر منهم الدكتور حسام عيسى فى لقاء مع ممثلين للمجلس العسكرى. وإذا كان «ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع»، فإن أى إنفاق خارج نطاق الضرورات القصوى لفقراء الوطن وضعافه يُعتبر سخافة يتوجب علينا فضحها وإيقافها وردع ما يطل برأسه من أشباهها. وفى موضوع الثقافة، فإن هذا الخبر يمس عندى وجعا من السياسة الثقافة الماضية لاتزال آثاره تنغص علينا واقعنا وبأكثر مما يتصور كثيرون.
وحتى لا تبدو المسألة محض انتقاد فإننى أذكر للوزير الحالى الدكتور عماد أبوغازى لمحات بصيرة كإلغاء مهرجانات فنية «دولية» كانت تثقل ميزانية بلد مثقل بالديون أصلا، كما أنه أوقف مخطط تدمير السيرك القومى ومؤامرة بيع أرضه لمستثمرى زمن الغفلة، وقد أخبرنى صديقى لاعب الجمباز القديم ومدير السيرك القومى الكابتن محمد أبوليلة أن الدكتور عماد أعطى دفعة طيبة للسيرك كما قامت القوات المسلحة بتدعيم خيمته وتكييفها، وكان ذلك خبرا ثقافيا سارا جدا لى كون السيرك من أهم روافد الثقافة الشعبية المحفزة للخيال وروح التحدى، وضمن تصور للثقافة يتصل بموضوعنا.
المدهش أن من طالبنى وغيرى بتقديم تصور للعمل الثقافى بعد الثورة هو رجل صناعة وطنى مخلص ومثقف حقيقى هو الصديق محمد قاسم الذى يعمل ضمن مجموعة متطوعة تجتهد دون مقابل فى وضع تصورات مستقبلية على أسس علمية لوطننا فى مناشطه المختلفة، كالطاقة، والصناعة، والزراعة، وغيرها مما تتطلبه النهضة الواجبة والمأمولة. وفى الاتجاه نفسه تسير مبادرة لدراسات النهضة يقودها الدكتور صفى الدين عرجون، مما يقطع بأن هناك عقولا بصيرة وقلوبا مصرية مخلصة تأمل وتعمل وتقوم بهذا كله تطوعا لأجل عيون الوطن.
ورجوعا إلى قضية الثقافة فإن رأيى أن العوار الأخطر فى سياسة وزارة الثقافة زمن النظام الساقط، والذى لا ينبغى تكراره، كان نابعا من رؤية قاصرة ترى أن ثقافة مصر هى ثقافة العاصمة ونخبة العاصمة وجمهور العاصمة، وما عدا ذلك مجرد رفع عتب بجهاز متورم ومهلهل للثقافة الجماهيرية، وقصور وبيوت ثقافة فى الأقاليم تشكو خواءها، ومسرح جافى البلدات والقرى والنجوع إلا ما ندر أو احترق. أما مشروع مكتبة الأسرة، الذى نشأ فكرة لتوفيق الحكيم وردت فى حوار مع الكاتب والصحفى الكبير العزيز منير عامر، واستولت عليه «الهانم» بتملق وتدليس بعض «المثقفين»، فقد تم إفراغه من جلال فكرته بسياسات المحسوبية والمظهرية والتنفيع والفساد.
هذه السياسة التى وضعت الثقافة فى قفص العاصمة، وزينت هذا القفص بسخافات الأبسطة الحمراء ورجرجات شحم ولحم فناناتنا المتصابيات والجوائز الطنانة والأضواء والألعاب النارية والتغطية الإعلامية التى كانت عين المراد من متخذ القرار الثقافى لتصل إلى عيون الهانم والرئيس الذى كان «مدمن تليفزيون» لأنه لا يقرأ إلا جرائد المؤلفة جيوبهم «من الجلدة للجلدة»! هذه السياسة القاصرة وقصيرة النظر أثمرت كارثة نأكل حصرمها اليوم، مُمَثلا فى جحافل مستلبى العقول من تيارات الانغلاق والتعصب، بكل أشكالهما الدينية والدنيوية، لسببين أولهما القهر الملازم للفقر، ثم الفراغ الذى ملأه دعاة التعصب بإفرازات نفوسهم التى يبرأ من جنوحها صحيح الدين ورحيم الدنيا، فالذى حدث أن الثقافة التى هى أهم أداة فى تربية العقل النقدى، بجمالياتها وانفتاحها وتحاور وتعايش الأفكار داخلها، تركت العقول الشابة من أبناء الفقراء خاصة بلا غذاء فكرى يقوِّى النظرة النقدية ويمنع الانزلاق السهل باتجاه الاستقطابات الفكرية الجانحة، فكان أن اختطف هذه العقول أول الغزاة متعصبو المظهر والجوهر والمدعومون بما يتيح لهم التفرغ لاستلاب العقول الغضة بالزن على الآذان وتملك أصحابها ببعض الإعانة فى أمور الدنيا التى ضيقها عليهم حكم فاسد وفاسق بالضرورة، ناهيك عن صكوك الغفران التى كان دعاة التعصب هؤلاء يمنحونها لشباب برىء ومتطهر، فيمتلكون منهم الألباب والإرادة، وخط السير.
لقد انعدم الحراك الثقافى بعيدا عن المركز، فلا مسرح جوالا يجوب القرى، ولا ندوات ثقافية تُعقد هناك، لا عروض سينمائية راقية تذهب إلى الفلاحين بشاشات متنقلة تقام فى الأجران، ولا زيارات لوجوه الثقافة تمنح نظرة لمدارس الأقاليم وجامعاتها، وكان ذلك حريا بأن تنظمه وترعاه وزارة الثقافة وتحميه الدولة، فى إطار جامع للنسيج الوطنى ومنفتح الأفكار بلا تجاوز للقيم والتقاليد أو متملق لها، مع إطلالة واجبة على ما يناسبنا ويلزمنا من جوانب تثقيف تضع هذه الجيوش النقية من شباب القرى والأقاليم فى قلب العالم المعاصر، وأهمها ثقافة العلم التى تكاد تكون معدومة لدينا، وهل أدل على ذلك من أن كل هذا الضجيج التليفزيونى المصرى الذى تتكاثر فضائياته كالفطر فى غابة مستباحة، ليس به برنامج واحد يقدم الثقافة العلمية؟!
إن إهدار قرش واحد على أى نشاط يمكن الاستغناء عنه، كما حكاية وفد هيئة الكتاب إلى معرض فرانكفورت، لهو أمر معيب فى ضوء ما نعيشه من احتياج لكل قرش فى جبر ما انكسر وإدراك ما لم ينكسر بعد، ومن المؤكد أن هذا ينبغى أن ينطبق على الإنفاق الحكومى كله، وأن نقف لكل إهداراته وسخافاته بالمرصاد.
خلايا الدكتور غنيم الصاحية
أضف تعليقك تعليقات : 11
آخر تحديث: الخميس 22 سبتمبر 2011 - 10:15 ص بتوقيت القاهرة
وأى لخبطة؟! قلتها بأسف لم يتمكن منه الإحباط، ففى حضرة الدكتور غنيم لا مكان للإحباط، فهو يذكرنى دائما بمقولة لطه حسين عندما سُئل عن السعادة فأجاب: «السعادة هى أن نقوم بما يتوجب علينا القيام به»، ولقد قام غنيم ويقوم بأقصى ما يتوجب على مصرى محترم أن يقوم به، سواء فى مضماره الطبى الذى ارتفع به إلى مستوى عالمى رفيع الإنسانية ونفاذ الرؤية والرقى المهنى، أو فى دوره الوطنى متواصل الشجاعة والتفانى، كمناهض عنيد للنظام الساقط فى أوج جبروت ذلك النظام، ثم بعد الثورة التى تكالبت عليها كثرة الضباع والسباع والخفافيش والثعالب!
برغم عمله السياسى الوطنى لم يكف الدكتور غنيم عن عمله العلمى، سالكا على الأرض المصرية مسار الجراحين العالميين الكبار، فبعد أن يقطعوا الشوط الهائل فى مسيرتهم العلاجية، ينعطفون لفتح نوافذ واسعة على البحث العلمى المعملى. ولقد قطع الدكتور غنيم على هذا الدرب وفى مجال أبحاث الخلايا الجذعية خطوات واعدة وذات وزن دولى، لكنه كعالم حقيقى يحترم نفسه ويحترم العلم، يرفض أن يتحدث عن منجزه إلا بعد تمامه.
فى آخر لقاء به، دعانى الدكتور غنيم للاطلاع على بعض ما توصل إليه، وكنا وقوفا أمام حاسوبه الشخصى وهو يعرض صور الشرائح المعملية، وراح يعرفنى بما أشاهده، بافتتان جمالى وكأنه يعرض لوحات فنية باهرة تعبِّر فيها الخلايا عن تطوراتها وتغيراتها الجينية بتشكيلات لونية وتكوينية صاعقة الجمال. وهو عالِم فنان، أسعدنى كثيرا عندما استضافنى فى شقته، التى لم يغيرها منذ كان مدرسا شابا، بعرض شىء من الأفلام التسجيلية التى صورها تحت الماء فى البحر الأحمر باهر الألوان الذى يهوى الغوص فى أعماقه، أفلام تكاد تكون احترافية فى تصويرها والمونتاج والموسيقى التصويرية المصاحبة والتترات!
رجل مثل هذا عندما يعمل فى السياسة أصدقه، بل أمضى معه دون تردد بعد أن علمتنى الأيام أن السلوك هو معيار المصداقية لا حنجورية ولا برَّاق الكلام. ولولا أننى اخترت لنفسى موقع الكاتب المستقل عن أى انتماء سياسى لانضممت دون تردد لحزب الدكتور غنيم والدكتور أبوالغار، الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى، لمجرد أنهما فيه، فما بالك عندما يكونان من مؤسسيه. وإننى أتعجب للأحزاب الديمقراطية المؤمنة بالعدل الاجتماعى كشرط حقيقى للحرية، لماذا لاتجعل من هذا المُرتكَز نواة لتحالف سياسى مصرى للدولة الحديثة وطموح النهضة؟!
وعلى ذكر النهضة، فقد أوحت لى ببُعد من أبعادها اللازمة، إشارة من الدكتور غنيم وردت فى لقاء مع النبيهة منى الشاذلى فى برنامج العاشرة مساء، وقد كانت الإشارة عن عمل الدكتور «شينيا ياماناكا» فى مجال الخلايا الجذعية، والذى توقع له الدكتور غنيم فوزا مُستحَقا بجائزة نوبل لو عدِلت الجائزة. لم تستغرق هذه الإشارة أكثر من دقيقة لخص فيها الدكتور غنيم إنجاز العالم اليابانى بأنه إعادة الساعة الحيوية للخلية البالغة إلى الوراء لترجع إلى النقطة التى كانت فيها خلية جنينية، ومن ثم لا تعود هناك حاجة لاقتناص خلايا من أجنة مُجهَضة لمواصلة أبحاث الخلايا الجذعية الواعدة جدا فى مجال الطب التجديدى.
فى هذه الدقيقة التى مر فيها الدكتور غنيم بتركيز واضح على ما يقوم به العالم اليابانى، وجدت مستقبِلات الدهشة داخلى تومض بشدة، وشرعت بعدها وحتى كتابة هذه السطور فى تعقب هذه الرؤية العلمية الاستثنائية وتأمل محتواها الموحى بالكثير فى العلم وفى الحياة، وفى قضية النهضة المرتجاة لدينا.
وهل لنا من نجاة مما نحن فيه من «لخبطة» إلا بإزاحة كل معوقات التهافت والتخلف والتنطع، عن درب هذه النهضة؟
لقد تعرَّف العالَم من قبل على عملية تحويل الخلايا الجسدية البالغة إلى خلايا جنينية عند الإعلان عن ميلاد النعجة «دوللى» بالاستنساخ، وهى العملية التى قام بها فريق بحثى بقيادة الدكتور إيان ويلموت عام 1996، وفى هذه العملية تم التحويل عن طريق «التجويع والترويع» للخلية المستهدَفة، وأظن أننى أول من صك هذا التعبير عندما كتبت عن الاكتشاف فى حينه لمجلة العربى حين كنت محررها العلمى، فعبرت بشكل أدبى عن المحتوى العلمى لدفع الخلية الجسدية لتصير جنينية بعد سحب المواد المغذية من محيطها وصعق نواتها بشحنة كهربية دقيقة، كما نوهت إلى تشابه ذلك الشرط القاسى مع ظاهرة ازدياد الخصوبة تحت وطأة الخوف والجوع عند البشر، وهى الظاهرة التى رصدها عالم الاجتماع خوسيه دى كاسترو فى كتابه «جغرافية الجوع»، وأومأت إلى تشابه ذلك كله مع حالات الولادة المبكرة أو وضع البيض قبل الأوان عند تعرض إناث الحيوانات أو الحشرات لشدائد مُهدِّدة للحياة.
الجديد فى عمل شينيا ياماناكا أنه لم يجوِّع ولم يروِّع الخلايا البالغة حتى تتحول إلى خلايا جنينية، بل قام بما يسميه «إعادة برمجة» الخلية، بحيث تعود عقارب ساعتها الحيوية إلى مرحلة مبكرة كانت فيها خلية جنينية، وبتعبير آخر: إعادة الخلية إلى شبابها الولود، ولكن بوسائل غير خشنة ولا عدوانية كما فى عملية الاستنساخ، وإنما بتسلل ناعم لغرس أربعة جينات محددة فى المجمع الوراثى للخلية (الجينوم)، عن طريق فيروسات معقَّمة تعمل كوسيلة نقل تحمل هذه الجينات وتنزلها فى جينوم الخلية. بعد ذلك تقوم هذه الجينات المقحَمة بعملية تنشيط لجينات فى الجينوم كانت خاملة، وتثبيط جينات أخرى كانت نشطة، فتعود عقارب الساعة الحيوية للخلية إلى زمنٍ كانت فيه جنينية، وهى عملية ابتكرها شينيا ياماناكا ومنحها اسم «الخلايا المصنعة متعددة القدرات الكامنة «iPs»، إشارة إلى قدرة الخلايا الجنينية على توليد خلايا أخرى من أنواع مختلفة، للقلب أوالمخ أو الجلد أو العضلات أو غيرها. وهو فتح مذهل فى أفق الطب التجديدى، أوحى لى بفكرة للنهوض، لو أصررنا على النهوض مما نحن فيه!
أتذكر فى لقاء بعيد بالدكتور غنيم فى المنصورة أننى رجوته وقد كان ينزل للشوارع لجمع توقيعات المطالب السبعة للجمعية الوطنية للتغيير إبان ذروة جبروت نظام مبارك الساقط وحزبه المنحل، رجوته ألا ينزل الشارع حفظا لمقامه وخوفا عليه، فما كان منه إلا أن قال لى «بصراحة أنا بانزل علشان ادعم حماس مجموعة شباب زى الفُل إخلاص وأدب ووطنية ومش عايزهم يُحبَطوا». وهذه هى المسألة الآن، فى أبحاث الخلايا الجذعية الأكثر تطورا، كما فى السياسة ومطامح الترقى والنهوض.
هذه هى المسألة، وراجعوا معى ما وصلنا إليه، ابتداء من فتنة التعديلات الدستورية ولجنتها الاستشارية التعيسة ومتحدثها الإعلامى المتعصب القاتم والعائد ليهدد بمظاهرات الخمسمائة مليون! وصولا إلى متملقى المجلس العسكرى بالأمس والذين تنافخوا يهددونه الآن بالاستشهاد لو خالف هواهم وتلمُظهم للسلطة، إضافة إلى مهازل المكفِّرين للأقباط وغير الأقباط، والمدعين كذبا بأن الليبرالية تعنى كشف العورات، والمهلِّسين بزعم أن محاكمة مبارك حرام وتصدير الغاز لإسرائيل حلال! ولتلاحظوا أن كل هؤلاء ممن تجاوزوا سن الكهولة، وعيَّنوا أنفسهم معلمى الأمة وآياتها ووكلاء الله فى الأرض، شأنهم فى خلطة ما يسمى بالإسلام السياسى، شأن عواجيز الفرح من المتمترسين وراء الحصون الخشبية لمقولات الشيوعية الآفلة، بينما الشباب هاهنا وهاهناك براء منهم.
الذين صنعوا الثورة هم أساسا شباب، من كافة أطياف المجتمع المصرى واجتهاداته السياسية والفكرية، وهم قادرون على العودة إلى بكارة أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة، شرط أن يتخلصوا من قبضات الشيخوخة التى تصر على احتوائهم، فهم خلايا ربانية «متعددة القدرات الكامنة»، وقادرون على توجُّه صحى نحو المستقبل، وقابلون بصفاء لاستعادة وحدة الأمة، سواء كانوا من يسار أو يمين، من إخوان أو سلف. بل حتى شباب الألتراس، ذلك الجندى الباسل المجهول فى انتصار الثورة، كاسرو شوكة التغول الأمنى لنظام المخلوع وحزبه المنحل.
هؤلاء الشباب جميعا هم الخير والبركة الحقيقية وعتاد النهوض لو تنازل العواجيز عن نرجسية عتيهم فى العمر وعشقهم للأضواء والمقاعد العالية والمنابر التى يقرفص تحت أقدامها شباب أطهر من مرتقيها لو تخلصوا من سحر الاستلاب الأسود للشائخين أرواحا وعمرا داخل الثياب البيضاء.
ونداء لشرفاء المجلس العسكرى، الذين لا أزال مؤمنا بصدق وطنيتهم وحيرة إخلاصهم أمام سوء من استشاروهم من المدنيين العواجيز الذين راكموا عليهم وعلى الأمة كل هذا الضباب القاتم، إنه إثم وطنى وروحى عظيم أن يظل شاب وطنى واحد فى السجن مهما كانت ذريعة القبض عليه، فهؤلاء الشباب هم لبنات بناء المستقبل، تماما مثل خلايا المنشأ الشابة متعددة القدرات الكامنة، وهم الأقرب والأصدق من الجوهر الوطنى للعسكرية المصرية مهما تجاوزا. ولتراجع الأمة نفسها، فقد آن أوان المراجعة، وإلا تمدَّد عته الشيخوخة الروحية وموت الأمل.
أردوغان أَم طالبان؟ (1)
أضف تعليقك تعليقات : 9
آخر تحديث: الخميس 15 سبتمبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة
أتلقى مثل كثيرين غيرى من الكُتَّاب دعوات عديدة من جهات وفاعاليات مختلفة بينها السفارات، لكننى وبعد أن أشبعت فضولى بتجربتين أو ثلاث فى قاعات فخمة ووسط أناس يبرقون، قررت أن هذه كلها لا تناسبنى، وانقطعت تماما عن تلبية أى دعوة دبلوماسية أو غير دبلوماسية، لأننى نزق وأُحس بالحبس فى هذه الأجواء، ثم إن الكلام الذى يدور بين مرتادى هذه المساءات لا يعدو كونه ثرثرة لا تفيد، وحتى الأكل لم أحسه طيبا أبدا، خاصة هذا السلمون النىء المظفلط الذى يثير قرفى بلزوجته وزفارته برغم اعتباره افتتاحية باذخة الفخامة على مثل هذه الموائد.
هكذا آخيت نفسى فاستقرت بديهية الرفض عندى لدعوات السفارات وما شابهها، لكننى عندما جاءتنى من السفارة التركية دعوة على عشاء يحضره رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، وجدتنى أرحِّب دون تردد، وكأن القبول فى هذه الحالة بديهية موازية، ليس لأننى عاشق قديم لتركيا الأرض والناس كما تشف عن ذلك أربع تحقيقات يتضمنها كتابى «جنوبا وشرقا»، ولا لأننى شغفت بتركيا منذ رسوت على شاطئ اسطنبول صيف عام 1986 ضمن رحلة بحرية طفت فيها بمعظم موانئ البحر المتوسط فوقعت فى هوى هذه المدينة دون سواها، ولا لأن أمى من عائلة «شرف الدين» ذات الأصول التركية، كما مئات العائلات المصرية غيرها، ولكن لأن فضولا فكريا شديدا ظل يتولانى تجاه معضلة توسمت فى تجربة أردوغان حلاً لها.
قبل أن أطلع على مفهوم «ما بعد العلمانية» الذى كرّسه الفيلسوف الألمانى بورجن هابرماس منذ سنوات قليلة ورفض فيه فرضية أن التحديث يتلازم مع العلمانية ويقود بالتالى إلى تهميش دور الدين، وأنا مشغول بقضية «الإيمان» حتى وأنا يسارى، وترسخت القضية عندى مع غوصى فى بحار الثقافة العلمية، فكانت عجائب الخلق وبصمة خلقتها المتكررة تلفت انتباهى فى كل الموجودات والوجودات بشكل مبهر، وكأنها أكوان داخل أكوان تنطق بوحدانية الخالق. ورأيت أن مجرد التأمل فى هذا الطيف الهائل بما يكتنفه من معجزات ومدهشات وعجائب، كفيل بطرح حتمية الإيمان لا كإشراق فقط، ولكن كملاذ من مخاوف العدمية والضياع والعبث التى تضغط على الإنسان المعاصر.
هذا فى رأى ما حدث ويحدث للمليارات من سكان كوكبنا فى العقود الأخيرة خاصة مع انتشار التليفزيون والفضائيات والانترنت، حيث صار بمستطاع أبسط الناس أن يتعرفوا على بعض معجزات هذا الوجود مما تنقله إليهم هذه الوسائط، ويكفى رؤية كوكبنا الأزرق المنير معلقا فى ظلمة الفضاء، وهى رؤية باتت متاحة لكل الناس، فحتى أجهل الناس لو عرضت عليه هذه الصورة لتلك اللؤلؤة الزرقاء الموشاة بالبياض وسط السواد الحالك لقال على الفور إنها «الأرض». كما أن ما تنقله الشاشات، المتاحة للجميع تقريبا، عن نعم ومِحن هذا الكوكب الذى نسكنه، من زلازل وفيضانات وغابات وأنهار وحقول وجبال وكائنات وبشر، بات مما يثير التأمل حتى فى أكثر الأذهان التهاءً، سواء بوعى وبلا وعى.
هذه المعرفة الكونية فى رأيى، ومعاناة قطاعات كبيرة من سكان العالم للقهر السياسى والاجتماعى من قوى الاستكبار المحلية والدولية، هى التى أدت لانفجار ظاهرة الإيمان فى العالم، ومن ثم الانتشار الواسع للتدين بعد عقود من إهمال هذا الجانب، إن بسبب عفوية التلهى بالحياة اليومية، أو بدعاوى التفكير القاصر ونظريات الأحياء المبتسرة، وفلسفات الوجود السطحى للكائن البشرى، فى السياسة والاقتصاد خاصة.
هكذا صار الإيمان اتجاها بشريا جارفا فى حياتنا المعاصرة المتفجرة بمعارف لم تكن متوافرة من قبل، وعلى عكس ما كان فى زمن الفيزياء التقليدية، لم تعد السببية كافية لتفسير ظواهر تعترض أبسط الناس فى حياتهم النفسية والجسدية والوجودية، وباتت معجزات مما فوق مستوى التصديق العقلى السائد تطرق أبواب التأمل بإلحاح، فما من أحد لا يعرف عن أعجوبة أن تلد أنثى بغير ذكر كما فى عمليات الاستنساخ، أوالتوازن الحرج لكوكبنا ضمن مجموعته الشمسية.
كان اللا شعور البشرى يكتنز ذلك كله، وينمى دافعا تلقائيا للإيمان فى داخل الأنفس حتى التى تظن أنها تتبنى موقفا ذهنيا لا دينيا، ومن ثم كان البحث عن عمق فى التدين يندفع بخليط من مشاعر الخوف والرجاء معا، وتلقف هذه الحاجة الملحة الدعاة الذين باتوا، بخيرهم وشرهم، ظاهرة العالم الملتبسة، ليس فى ديننا وحده، بل فى كل الأديان، فظاهرة الأصولية الدينية ليست وقفا على الإسلام والمسلمين، فهناك أصوليات مسيحية وأخرى يهودية وثالثة هندوسية ورابعة بوذية، وهكذا. ومن هذا التشبث بتلك الأصوليات بدأ سؤال الموقف من المُعاصرة، وتضمنت الإجابات مواجهة بين موقفى التسامح والتعصب المتعارضين. ووُلدت المعضلة.
معضلة الجزء الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين والتى أتصور أنها ستمتد إلى عمق هذا القرن بموازاة عجيبة للتطورات المعرفية الحداثية المدهشة، وقد باتت هذه المعضلة ترتجى حلا خاصة بعد أن راحت تعبر عن نفسها فى صدامات دامية داخل القطر الواحد، وبين الأقطار، بل عبر القارات، كما فى أحداث 11 سبتمبر التى لا أعتقد أنها من صنيع القاعدة، أو على الأقل ليست القاعدة منفردة فى صنعها. وهى أحداث تلبس قناع صدام الحضارات، الذى بشر به الباحث الأمريكى هنتنجتون، وهو كما كثيرين من المفكرين الأمريكيين، يروجون للظاهرة أكثر مما يبحثون فيها، بل يمهدون لصناعتها وظهورها أحيانا. وكان هناك من يشعل النار فى الهشيم بدوافع تعصبية حاقدة على الجميع، خاصة على المسلمين، كما يرشح من تحريضات المستشرق الصهيونى الأمريكى بريطانى الأصل برنارد لويس، والذى لم يكن بعيدا عن فكر هنتينجتون، ففى عام 1990م كتب لويس مقالا بعنوان جذور الغضب الإسلامى، قال فيها: «هذا ليس أقل من صراع بين الحضارات، ربما تكون غير منطقية، لكنها بالتأكيد رد فعل تاريخى منافس قديم لتراثنا اليهودى والمسيحى، وحاضرنا العلمانى، والتوسع العالمى لكليهما « وقد احتفل هنتنجتون بهذه الفقرة فى كتابه «صدام الحضارات» الصادر عام 1996!
ولم نعدم نحن أيضا فى عالمنا العربى والإسلامى متعصبين بقناعات أو أقنعة دينية يقومون بدور مماثل فى تأجيج النار بيننا وبين غيرنا، بل بيننا وبين أنفسنا، وبيننا وبين عصرنا، فكانت الهوجة، ولاتزال هذه الهوجة تربك أحلام نهوضنا هاهنا فى مصر، بعد ثورة أدهشت العالم بجمالها وبصيرتها وحدسها الراقى العجيب. لهذا كان حماسى لذلك العشاء فى حضرة أردوغان.
فى قليل الدعوات والندوات التى لبيتها على مدى سنوات، عادة ما كنت أنتبذ ركنا قصيا بجوار الباب، ليتسنى لى الهروب السريع الخفيف عندما تبلغ الروح الحلقوم من ولع أصحاب «البقين» فى إثبات الوجود بكثرة وهجص الكلام والجدال واللدد، لكننى فى هذه المرة حاولت أن أصالح بين ولعى بالأركان وتشوفى لصحبة القائد التركى، فاخترت مائدة خالية وراء عمود فى القاعة يعزل الجالسين حولها عن العموم ويتيح إطلالة مباشرة وقريبة من موقع أردوغان، ثم التحقت بالمكان الدكتورة منار الشوربجى وما إن جاء العزيز بلال فضل حتى تهللت هاتفا «جاء الفرج»، فبلال صديق أقرب ما يكون من نفسى، وما إن نتجاور حتى نثير دهشة الآخرين بعنفوان الضحك والقهقهة بيننا، ونصنع عالمنا الخاص برغم الضجيج والزحام، عالم من الأفكار والأخبار والقراءات والحكايات الساخرة بتطرف.
وكان طبيعيا مع مجىء بلال أن نبحث عن مكان جديد يستوعب هذا كله، ويبقينا على قرب من أردوغان فى الوقت نفسه، وانتهينا إلى أقصى ركن فى القاعة بموازاة المائدة الرئيسية ومنصة المتحدثين، وكان على المائدة نفسها الدكتورة أهداف سويف والكاتب الكبير فهمى هويدى والدكتور نبيل عبدالفتاح، وكالعادة تفجرت قهقهاتنا أنا وبلال، لكن مساحات جادة جدا كانت تفصل بين هذه القهقهات، فبلال عاشق شاب لتركيا وعارف بجديدها، وأنا محب قديم يروم معرفة الجديد.
تأخر أردوغان ساعتين عن الموعد المحدد فى الدعوة، لكن أحدا لم يتململ، فقد كان هناك تفهُّم لوضع رجل فى مقام قائد دولة عظيمة النهوض، وهو لم يتوقف عن العمل منذ التاسعة صباحا حتى العاشرة مساء كما أخبرنا وزير الخارجية التركى الدكتور داود أوغلو قبيل حضور أردوغان، وخلال هاتين الساعتين كان ذهنى يصوغ عنوان هذه المقالة التى أظنها ستمتد «طالبان أم أردوغان»، ثم جاء أردوغان فلم ترحل طالبان عن بالى، لأننى أرى فى طرح هذا الخيار استفتاء يحل معضلة تشوش ذهن عالمنا العربى كما العالم الإسلامى، ويكاد يكون المهلك أو المنقذ لثورة 25 يناير، وهو مفاضلة حاسمة فى ظنى، بين طريق النهوض ومنحدر القعود.
هكذا آخيت نفسى فاستقرت بديهية الرفض عندى لدعوات السفارات وما شابهها، لكننى عندما جاءتنى من السفارة التركية دعوة على عشاء يحضره رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، وجدتنى أرحِّب دون تردد، وكأن القبول فى هذه الحالة بديهية موازية، ليس لأننى عاشق قديم لتركيا الأرض والناس كما تشف عن ذلك أربع تحقيقات يتضمنها كتابى «جنوبا وشرقا»، ولا لأننى شغفت بتركيا منذ رسوت على شاطئ اسطنبول صيف عام 1986 ضمن رحلة بحرية طفت فيها بمعظم موانئ البحر المتوسط فوقعت فى هوى هذه المدينة دون سواها، ولا لأن أمى من عائلة «شرف الدين» ذات الأصول التركية، كما مئات العائلات المصرية غيرها، ولكن لأن فضولا فكريا شديدا ظل يتولانى تجاه معضلة توسمت فى تجربة أردوغان حلاً لها.
قبل أن أطلع على مفهوم «ما بعد العلمانية» الذى كرّسه الفيلسوف الألمانى بورجن هابرماس منذ سنوات قليلة ورفض فيه فرضية أن التحديث يتلازم مع العلمانية ويقود بالتالى إلى تهميش دور الدين، وأنا مشغول بقضية «الإيمان» حتى وأنا يسارى، وترسخت القضية عندى مع غوصى فى بحار الثقافة العلمية، فكانت عجائب الخلق وبصمة خلقتها المتكررة تلفت انتباهى فى كل الموجودات والوجودات بشكل مبهر، وكأنها أكوان داخل أكوان تنطق بوحدانية الخالق. ورأيت أن مجرد التأمل فى هذا الطيف الهائل بما يكتنفه من معجزات ومدهشات وعجائب، كفيل بطرح حتمية الإيمان لا كإشراق فقط، ولكن كملاذ من مخاوف العدمية والضياع والعبث التى تضغط على الإنسان المعاصر.
هذا فى رأى ما حدث ويحدث للمليارات من سكان كوكبنا فى العقود الأخيرة خاصة مع انتشار التليفزيون والفضائيات والانترنت، حيث صار بمستطاع أبسط الناس أن يتعرفوا على بعض معجزات هذا الوجود مما تنقله إليهم هذه الوسائط، ويكفى رؤية كوكبنا الأزرق المنير معلقا فى ظلمة الفضاء، وهى رؤية باتت متاحة لكل الناس، فحتى أجهل الناس لو عرضت عليه هذه الصورة لتلك اللؤلؤة الزرقاء الموشاة بالبياض وسط السواد الحالك لقال على الفور إنها «الأرض». كما أن ما تنقله الشاشات، المتاحة للجميع تقريبا، عن نعم ومِحن هذا الكوكب الذى نسكنه، من زلازل وفيضانات وغابات وأنهار وحقول وجبال وكائنات وبشر، بات مما يثير التأمل حتى فى أكثر الأذهان التهاءً، سواء بوعى وبلا وعى.
هذه المعرفة الكونية فى رأيى، ومعاناة قطاعات كبيرة من سكان العالم للقهر السياسى والاجتماعى من قوى الاستكبار المحلية والدولية، هى التى أدت لانفجار ظاهرة الإيمان فى العالم، ومن ثم الانتشار الواسع للتدين بعد عقود من إهمال هذا الجانب، إن بسبب عفوية التلهى بالحياة اليومية، أو بدعاوى التفكير القاصر ونظريات الأحياء المبتسرة، وفلسفات الوجود السطحى للكائن البشرى، فى السياسة والاقتصاد خاصة.
هكذا صار الإيمان اتجاها بشريا جارفا فى حياتنا المعاصرة المتفجرة بمعارف لم تكن متوافرة من قبل، وعلى عكس ما كان فى زمن الفيزياء التقليدية، لم تعد السببية كافية لتفسير ظواهر تعترض أبسط الناس فى حياتهم النفسية والجسدية والوجودية، وباتت معجزات مما فوق مستوى التصديق العقلى السائد تطرق أبواب التأمل بإلحاح، فما من أحد لا يعرف عن أعجوبة أن تلد أنثى بغير ذكر كما فى عمليات الاستنساخ، أوالتوازن الحرج لكوكبنا ضمن مجموعته الشمسية.
كان اللا شعور البشرى يكتنز ذلك كله، وينمى دافعا تلقائيا للإيمان فى داخل الأنفس حتى التى تظن أنها تتبنى موقفا ذهنيا لا دينيا، ومن ثم كان البحث عن عمق فى التدين يندفع بخليط من مشاعر الخوف والرجاء معا، وتلقف هذه الحاجة الملحة الدعاة الذين باتوا، بخيرهم وشرهم، ظاهرة العالم الملتبسة، ليس فى ديننا وحده، بل فى كل الأديان، فظاهرة الأصولية الدينية ليست وقفا على الإسلام والمسلمين، فهناك أصوليات مسيحية وأخرى يهودية وثالثة هندوسية ورابعة بوذية، وهكذا. ومن هذا التشبث بتلك الأصوليات بدأ سؤال الموقف من المُعاصرة، وتضمنت الإجابات مواجهة بين موقفى التسامح والتعصب المتعارضين. ووُلدت المعضلة.
معضلة الجزء الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين والتى أتصور أنها ستمتد إلى عمق هذا القرن بموازاة عجيبة للتطورات المعرفية الحداثية المدهشة، وقد باتت هذه المعضلة ترتجى حلا خاصة بعد أن راحت تعبر عن نفسها فى صدامات دامية داخل القطر الواحد، وبين الأقطار، بل عبر القارات، كما فى أحداث 11 سبتمبر التى لا أعتقد أنها من صنيع القاعدة، أو على الأقل ليست القاعدة منفردة فى صنعها. وهى أحداث تلبس قناع صدام الحضارات، الذى بشر به الباحث الأمريكى هنتنجتون، وهو كما كثيرين من المفكرين الأمريكيين، يروجون للظاهرة أكثر مما يبحثون فيها، بل يمهدون لصناعتها وظهورها أحيانا. وكان هناك من يشعل النار فى الهشيم بدوافع تعصبية حاقدة على الجميع، خاصة على المسلمين، كما يرشح من تحريضات المستشرق الصهيونى الأمريكى بريطانى الأصل برنارد لويس، والذى لم يكن بعيدا عن فكر هنتينجتون، ففى عام 1990م كتب لويس مقالا بعنوان جذور الغضب الإسلامى، قال فيها: «هذا ليس أقل من صراع بين الحضارات، ربما تكون غير منطقية، لكنها بالتأكيد رد فعل تاريخى منافس قديم لتراثنا اليهودى والمسيحى، وحاضرنا العلمانى، والتوسع العالمى لكليهما « وقد احتفل هنتنجتون بهذه الفقرة فى كتابه «صدام الحضارات» الصادر عام 1996!
ولم نعدم نحن أيضا فى عالمنا العربى والإسلامى متعصبين بقناعات أو أقنعة دينية يقومون بدور مماثل فى تأجيج النار بيننا وبين غيرنا، بل بيننا وبين أنفسنا، وبيننا وبين عصرنا، فكانت الهوجة، ولاتزال هذه الهوجة تربك أحلام نهوضنا هاهنا فى مصر، بعد ثورة أدهشت العالم بجمالها وبصيرتها وحدسها الراقى العجيب. لهذا كان حماسى لذلك العشاء فى حضرة أردوغان.
فى قليل الدعوات والندوات التى لبيتها على مدى سنوات، عادة ما كنت أنتبذ ركنا قصيا بجوار الباب، ليتسنى لى الهروب السريع الخفيف عندما تبلغ الروح الحلقوم من ولع أصحاب «البقين» فى إثبات الوجود بكثرة وهجص الكلام والجدال واللدد، لكننى فى هذه المرة حاولت أن أصالح بين ولعى بالأركان وتشوفى لصحبة القائد التركى، فاخترت مائدة خالية وراء عمود فى القاعة يعزل الجالسين حولها عن العموم ويتيح إطلالة مباشرة وقريبة من موقع أردوغان، ثم التحقت بالمكان الدكتورة منار الشوربجى وما إن جاء العزيز بلال فضل حتى تهللت هاتفا «جاء الفرج»، فبلال صديق أقرب ما يكون من نفسى، وما إن نتجاور حتى نثير دهشة الآخرين بعنفوان الضحك والقهقهة بيننا، ونصنع عالمنا الخاص برغم الضجيج والزحام، عالم من الأفكار والأخبار والقراءات والحكايات الساخرة بتطرف.
وكان طبيعيا مع مجىء بلال أن نبحث عن مكان جديد يستوعب هذا كله، ويبقينا على قرب من أردوغان فى الوقت نفسه، وانتهينا إلى أقصى ركن فى القاعة بموازاة المائدة الرئيسية ومنصة المتحدثين، وكان على المائدة نفسها الدكتورة أهداف سويف والكاتب الكبير فهمى هويدى والدكتور نبيل عبدالفتاح، وكالعادة تفجرت قهقهاتنا أنا وبلال، لكن مساحات جادة جدا كانت تفصل بين هذه القهقهات، فبلال عاشق شاب لتركيا وعارف بجديدها، وأنا محب قديم يروم معرفة الجديد.
تأخر أردوغان ساعتين عن الموعد المحدد فى الدعوة، لكن أحدا لم يتململ، فقد كان هناك تفهُّم لوضع رجل فى مقام قائد دولة عظيمة النهوض، وهو لم يتوقف عن العمل منذ التاسعة صباحا حتى العاشرة مساء كما أخبرنا وزير الخارجية التركى الدكتور داود أوغلو قبيل حضور أردوغان، وخلال هاتين الساعتين كان ذهنى يصوغ عنوان هذه المقالة التى أظنها ستمتد «طالبان أم أردوغان»، ثم جاء أردوغان فلم ترحل طالبان عن بالى، لأننى أرى فى طرح هذا الخيار استفتاء يحل معضلة تشوش ذهن عالمنا العربى كما العالم الإسلامى، ويكاد يكون المهلك أو المنقذ لثورة 25 يناير، وهو مفاضلة حاسمة فى ظنى، بين طريق النهوض ومنحدر القعود.
اعتذار أول للسمندل
أضف تعليقك تعليقات : 0
آخر تحديث: الخميس 8 سبتمبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة
أعترف أننى كثيرا ما أشعر بالأسى لاضطرارى أن أسرد بعض مدهشات العالم الفطرى فى دنيا الحيوانات، لتقريب وجهة نظرى فى بعض أحوال البشر، عبر المشابهة أو الاختلاف، فى أمور إن تبدُ لكم تسؤكم، من ممارسات بشرية مشبعة بالكذب على النفس والآخرين والدين والدنيا جميعا، فى عالم السياسة الذى أكره كثرة أكاذيبه وكذَّابيه، خاصة من أقصى اليمين المتطرف الشائع إلى أقصى اليسار المتطرف الهزيل، وأحلم بيوم أتحرر فيه من هذا الاضطرار.
أحلم بأن أتحرر وأنطلق فى الشدو للجمال، وللجمال فقط، فى عالم الحيوان الحيوان، والإنسان الإنسان، وهيهات أن أستطيع، أدرك ذلك، ويحزننى ذلك، لكننى أحاول ألا أستسلم للإحباط فى ذلك، فأتشبث بمدهشات الجمال قدر استطاعتى، لعلِّى أكسف القبح دون تعريته، وأعزى نفسى قبل الناس بما يبهج ويبهر فى براعة الخَلْق وعجائب المخلوقات، ومن أمثال ذلك أعجوبة لصديقنا السمندل، أسردها الآن لأُسرِّى عن نفسى وعنكم، وأوردها فى معرض الاعتذار لذلك البر مائى المرهف الهش، عجيب القدرات واسع الحيلة!
كائن بلا أسنان، ولا مخالب، ولا قوة داهمة فى أى جزء من جسمه، كيف استطاع أن يعيش 360 مليون سنة على الأرض حتى الآن وهو عُرضة للافتراس ممن هم أقوى منه، وأمضى أسنانا ومخالب وقدرة على الابتلاع، سواء فى نصف دورة حياته المائية، أو نصفها على البر؟
سؤال وجدت إجابات تتضمن آليات متعددة تزودت بها فطرة هذا الكائن، لكننى توقفت صائحا مبهورا أمام واحدة منها يسميها أهل العلم Autotomy أى «البتر الذاتى»، وقد تداعى لصيحتى المبهورة أهل بيتى متسائلين كالعادة عن سر هذه «الهيصة» التى أُحدثها مع نفسى كلما استبدت بى دهشة عظيمة، لعلهم يعرفون السر وتفرحهم الدهشة مثلى، لكننى أمسكت عن البوح هذه المرة، فخبرتى بذاتى أنبأتنى كثيرا أننى إذا حكيت عن شىء أود أن أكتب عنه، غالبا لا أكتبه. وهاآنذا أكتب..
عندما يمسك فك مفترس بجزء من جسم السمندل، وعادة ما يكون هذا الجزء هو ذيل السمندل الطويل، وأحيانا إحدى أرجله، فإن السمندل بآلية عجيبة مركبة، يفصل هذا الجزء عن جسمه ويلوذ بالفرار حيا ومستمرا فى الحياة، وفى غضون عدة أسابيع يبزغ ذيل جديد بمكان الذيل المفقود أو رجل بمكان الرجل الغائبة، وهى عملية مذهلة الآليات كلها، سواء فى فصل السمندل للجزء المنقوص، أو فى استعاضة هذا الجزء بآخر جديد!
فى عملية البتر الذاتى هذه، تقوم عضلات معينة فى جسم السمندل ليس فقط بفصل العظام عند الجزء المُقدَّر تركه بين أسنان المُهاجِم المفترس، بل حتى بكسرها كما يحدث للفقرة الفاصلة من فقرات الذيل إذا كان الذيل هو الجزء الممسوك بين أسنان المُهاجِم، وفى الوقت نفسه تقوم هذه العضلات بالضغط على أطراف الأوعية الدموية عند المكان المرشح لحدوث البتر حتى تنغلق أطراف تلك الأوعية، فلا يحدث نزف يودى بحياة السمندل!
بعد ذلك تأتى الآلية الحيوية التى يجدد بها السمندل ما يعوض الجزء المبتور ذاتيا من جسمه، وهى فى حد ذاتها أعجوبة تعمل عليها مراكز أبحاث متقدمة جدا فى جامعات عالمية مرموقة منها جامعة هارفارد، وغايتها حلم علمى بأن يستلهم العلماء من صاحبنا السمندل، هذا الضعيف الرهيف التائه بين اليابسة والماء، معرفة توصل إلى إمكانية استعاضة الإنسان عن أعضاء أو أجزاء تالفة أو مريضة من جسمه بأخرى جديدة وسليمة، دون زراعة أعضاء تحوم حول مصادرها الشبهات أو ترقيع جراحى مؤلم أو حتى خلايا جذعية غريبة أو خلايا منشأ تنطوى على قتل أجنة بشرية حية مأخوذة من أرحام الفقراء والمخدوعين، لتوظيف خلاياها فى ترميم وتجديد أعضاء وكيانات من يمتلكون النفوذ والفلوس من أباطرة العالم وطغاته وكبار لصوصه!
سلوك السمندل العجيب هذا، والذى يترك ذيله أو طرفا من أطرافه فى فم مفترس يداهمه ويلوذ بالفرار، قضية تستحق التأمل فى نطاق ظروف السمندل وبما تلقيه من ظلال السؤال والمشابهة فى عالم الإنسان. ففى دنيا السمندل الضعيف حين يواجه مفترسا يفوقه قوة، يتنازل بالبتر الذاتى عن جزء من جسمه ويتركه فى فم غريمه ليلوذ بالفرار، فكأنه يفقد جزءا لينجو بالكل، وهى تضحية محسوبة فى خلقة هذا الكائن، لأنه يمتاز بخاصية عجيبة مكملة هى القدرة على استعادة الجزء المفقود كاملا فى غضون اسابيع، لا أكثر!
فماذا يمكن أن يحدث استلهاما من ذلك فى عالم البشر، الذين إذا بُتر من أجسامهم عضو لا ينبت بمكانه آخر، لا بعد سنين ولا حتى عقود؟
أعتقد أن الحكمة الأساس فى أعجوبة البتر الذاتى والتنازل عن جزء لإنقاذ الكل فى دنيا السمندل، تكمن فى فلسفة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعدم تضييع الكل الباقى بالتجمد فى موقف استعادة الجزء المفقود، وهى حكمة يمكن أن تفيدنا فى اللحظة الراهنة التى تكاد الأمة توقف كل نشاطها فى الحراك الناهض الواجب عدم تأجيله، لتدور حول نفسها فى موقع الثأر والانتقام وتطهير بقايا النظام الساقط، وهو أمر لابد أن تحكمه حدود ترتيب الأولويات، وحكمة عدم التعميم، والاستفادة من كل طاقة يمكن أن تكون فعالة ومفيدة للمجتمع، حتى من بعض الذين تورطوا فى تبعية شكلية، قسرية، لذلك النظام دون أن تتلوث أياديهم بدم أو نهب أو قهر أو فساد أو اختلاس، ودون أن يكونوا مُحرِّضين على ذلك أو مبررين له.
هذا عين ما فعلته أنجح تجربتين ثوريتين فى أفريقيا، فى ناميبيا بقيادة سام نوجوما، وجنوب أفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا، إذ عمدا إلى حالة مصالحة وطنية كبرى فى إطار الاعتراف الذاتى والمسامحة العامة وتحكيم القانون فيما لا يكفيه الاعتراف أو لا تجوز فيه المسامحة، ومن ثم لم يؤد إسقاط نظام الفصل والقهر العنصرى فى البلدين، وإقامة نظام ديمقراطى جديد متعدد الأعراق، إلى انهيار الاقتصاد أو تراجع الأمن أو فشل التعليم أو انحطاط البحث العلمى أو الثقافة أو الرياضة.
صحيح، علينا ألا نكف عن استعادة الحقوق المغصوبة والمنهوبة بتجاوزات فجة للحكم السابق، لكن لنترك ذلك للقانون والمكافحين فى ساحاته، وندفع بالبلد فيما غير ذلك نحو البناء وعدم إهدار أى طاقة أو خبرة فى حُمَّى المطاردة والولع بشهوة الانتقام. هذه ليست مثالية، بل عملية حتمية أكثر إلحاحا من الضرورة التى تُلجئ السمندل لترك جزء من جسمه فى فم غريمه والمسارعة للنجاة بما تبقى، فإذا كان السمندل يفعل ذلك مرتكنا على إدراكه الغريزى لقدرته فى استعادة الجزء المفقود، فإنه أولى بنا أن نسارع فى البناء لأن دوراننا فى حومة المطاردة وانشغالنا بها عن كل ما عداها يعرضنا فعليا لفقد المتبقى والموجود.
بل أكثر من ذلك، أعتقد أن ما نراه من «تلاكيك» غُلاة الفرقاء السياسيين، بمزاعم دينية تارة، وتارة بتشنجات أيديولوجية، سببه أن الأمة غير منشغلة بالعمل وطموح النهضة، فمجرد انخراطها فى مشروع نهضوى جاد، سيتكفل بتنحية وإخزاء كل هذه التنطعات التى تهتف بتعصباتها وتربصاتها حناجر فارغة، وتلوح براياتها المستدعاة من خارج الزمان والمكان تشنجات أبعد ما تكون بمظهرها ومخبرها عن اختيار النهوض.
صحيح أن هناك استفزازات منحطة وفجة من نفايات النظام الساقط، تتبجح فيها نماذج بشرية تافهة وعدوانية من بين ظهرانينا، وتتهافت فى إطارها غثيانات قادمة من خارج الحدود، وتساندها قوى خفية يسرت لها التسرب داخل المحكمة بلوحات ترفع صور المخلوع وتجأر بالهتاف له، ناهيك عن رفع الفسلين الفاسدين يديهما بعلامة النصر فى نهاية الجلسة، أى نصر! كل هذه الاستفزازات ينبغى ألا تجعلنا نغرق فى مستنقع ما مضى فنعمى عن رؤية شاطئ القادم الذى يتحتم أن نجعله أفضل. وللسمندل فى ذلك إضافة أخرى عجيبة!
فى حالة مدهشة من الإنقاذ الاستباقى، عندما يهم مفترس كبير بالتهام سمندل باغته الهجوم، يسارع السمندل ببتر ذيله ذاتيا ويفر، تاركا الذيل يتقافز ويتلوَّى أمام المفترس فيلهيه. وهى عبرة معكوسة لنا، حيث لا يصح أن تلهينا ذيول تافهة خلفها لنا النظام السابق عن جوهر ما يتوجب علينا النهوض به والاستنهاض فيه، لمجرد أن هذه الذيول تتقافز أمامنا وتتلوى وتتلاعب على شاشات برامج سطحية مريبة، أو فى ساحات وأركان لا تقل عنها إثارة للريبة.
أما كيف ننهض؟ وما هى أدوات وآليات النهوض؟ فللسمندل فى ذلك اقتراحات تشكل أعجوبة إضافية من أعاجيبه، تقتضى احتفاء، واعتذارا جديدا، فى أسبوع قادم!
أحلم بأن أتحرر وأنطلق فى الشدو للجمال، وللجمال فقط، فى عالم الحيوان الحيوان، والإنسان الإنسان، وهيهات أن أستطيع، أدرك ذلك، ويحزننى ذلك، لكننى أحاول ألا أستسلم للإحباط فى ذلك، فأتشبث بمدهشات الجمال قدر استطاعتى، لعلِّى أكسف القبح دون تعريته، وأعزى نفسى قبل الناس بما يبهج ويبهر فى براعة الخَلْق وعجائب المخلوقات، ومن أمثال ذلك أعجوبة لصديقنا السمندل، أسردها الآن لأُسرِّى عن نفسى وعنكم، وأوردها فى معرض الاعتذار لذلك البر مائى المرهف الهش، عجيب القدرات واسع الحيلة!
كائن بلا أسنان، ولا مخالب، ولا قوة داهمة فى أى جزء من جسمه، كيف استطاع أن يعيش 360 مليون سنة على الأرض حتى الآن وهو عُرضة للافتراس ممن هم أقوى منه، وأمضى أسنانا ومخالب وقدرة على الابتلاع، سواء فى نصف دورة حياته المائية، أو نصفها على البر؟
سؤال وجدت إجابات تتضمن آليات متعددة تزودت بها فطرة هذا الكائن، لكننى توقفت صائحا مبهورا أمام واحدة منها يسميها أهل العلم Autotomy أى «البتر الذاتى»، وقد تداعى لصيحتى المبهورة أهل بيتى متسائلين كالعادة عن سر هذه «الهيصة» التى أُحدثها مع نفسى كلما استبدت بى دهشة عظيمة، لعلهم يعرفون السر وتفرحهم الدهشة مثلى، لكننى أمسكت عن البوح هذه المرة، فخبرتى بذاتى أنبأتنى كثيرا أننى إذا حكيت عن شىء أود أن أكتب عنه، غالبا لا أكتبه. وهاآنذا أكتب..
عندما يمسك فك مفترس بجزء من جسم السمندل، وعادة ما يكون هذا الجزء هو ذيل السمندل الطويل، وأحيانا إحدى أرجله، فإن السمندل بآلية عجيبة مركبة، يفصل هذا الجزء عن جسمه ويلوذ بالفرار حيا ومستمرا فى الحياة، وفى غضون عدة أسابيع يبزغ ذيل جديد بمكان الذيل المفقود أو رجل بمكان الرجل الغائبة، وهى عملية مذهلة الآليات كلها، سواء فى فصل السمندل للجزء المنقوص، أو فى استعاضة هذا الجزء بآخر جديد!
فى عملية البتر الذاتى هذه، تقوم عضلات معينة فى جسم السمندل ليس فقط بفصل العظام عند الجزء المُقدَّر تركه بين أسنان المُهاجِم المفترس، بل حتى بكسرها كما يحدث للفقرة الفاصلة من فقرات الذيل إذا كان الذيل هو الجزء الممسوك بين أسنان المُهاجِم، وفى الوقت نفسه تقوم هذه العضلات بالضغط على أطراف الأوعية الدموية عند المكان المرشح لحدوث البتر حتى تنغلق أطراف تلك الأوعية، فلا يحدث نزف يودى بحياة السمندل!
بعد ذلك تأتى الآلية الحيوية التى يجدد بها السمندل ما يعوض الجزء المبتور ذاتيا من جسمه، وهى فى حد ذاتها أعجوبة تعمل عليها مراكز أبحاث متقدمة جدا فى جامعات عالمية مرموقة منها جامعة هارفارد، وغايتها حلم علمى بأن يستلهم العلماء من صاحبنا السمندل، هذا الضعيف الرهيف التائه بين اليابسة والماء، معرفة توصل إلى إمكانية استعاضة الإنسان عن أعضاء أو أجزاء تالفة أو مريضة من جسمه بأخرى جديدة وسليمة، دون زراعة أعضاء تحوم حول مصادرها الشبهات أو ترقيع جراحى مؤلم أو حتى خلايا جذعية غريبة أو خلايا منشأ تنطوى على قتل أجنة بشرية حية مأخوذة من أرحام الفقراء والمخدوعين، لتوظيف خلاياها فى ترميم وتجديد أعضاء وكيانات من يمتلكون النفوذ والفلوس من أباطرة العالم وطغاته وكبار لصوصه!
سلوك السمندل العجيب هذا، والذى يترك ذيله أو طرفا من أطرافه فى فم مفترس يداهمه ويلوذ بالفرار، قضية تستحق التأمل فى نطاق ظروف السمندل وبما تلقيه من ظلال السؤال والمشابهة فى عالم الإنسان. ففى دنيا السمندل الضعيف حين يواجه مفترسا يفوقه قوة، يتنازل بالبتر الذاتى عن جزء من جسمه ويتركه فى فم غريمه ليلوذ بالفرار، فكأنه يفقد جزءا لينجو بالكل، وهى تضحية محسوبة فى خلقة هذا الكائن، لأنه يمتاز بخاصية عجيبة مكملة هى القدرة على استعادة الجزء المفقود كاملا فى غضون اسابيع، لا أكثر!
فماذا يمكن أن يحدث استلهاما من ذلك فى عالم البشر، الذين إذا بُتر من أجسامهم عضو لا ينبت بمكانه آخر، لا بعد سنين ولا حتى عقود؟
أعتقد أن الحكمة الأساس فى أعجوبة البتر الذاتى والتنازل عن جزء لإنقاذ الكل فى دنيا السمندل، تكمن فى فلسفة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وعدم تضييع الكل الباقى بالتجمد فى موقف استعادة الجزء المفقود، وهى حكمة يمكن أن تفيدنا فى اللحظة الراهنة التى تكاد الأمة توقف كل نشاطها فى الحراك الناهض الواجب عدم تأجيله، لتدور حول نفسها فى موقع الثأر والانتقام وتطهير بقايا النظام الساقط، وهو أمر لابد أن تحكمه حدود ترتيب الأولويات، وحكمة عدم التعميم، والاستفادة من كل طاقة يمكن أن تكون فعالة ومفيدة للمجتمع، حتى من بعض الذين تورطوا فى تبعية شكلية، قسرية، لذلك النظام دون أن تتلوث أياديهم بدم أو نهب أو قهر أو فساد أو اختلاس، ودون أن يكونوا مُحرِّضين على ذلك أو مبررين له.
هذا عين ما فعلته أنجح تجربتين ثوريتين فى أفريقيا، فى ناميبيا بقيادة سام نوجوما، وجنوب أفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا، إذ عمدا إلى حالة مصالحة وطنية كبرى فى إطار الاعتراف الذاتى والمسامحة العامة وتحكيم القانون فيما لا يكفيه الاعتراف أو لا تجوز فيه المسامحة، ومن ثم لم يؤد إسقاط نظام الفصل والقهر العنصرى فى البلدين، وإقامة نظام ديمقراطى جديد متعدد الأعراق، إلى انهيار الاقتصاد أو تراجع الأمن أو فشل التعليم أو انحطاط البحث العلمى أو الثقافة أو الرياضة.
صحيح، علينا ألا نكف عن استعادة الحقوق المغصوبة والمنهوبة بتجاوزات فجة للحكم السابق، لكن لنترك ذلك للقانون والمكافحين فى ساحاته، وندفع بالبلد فيما غير ذلك نحو البناء وعدم إهدار أى طاقة أو خبرة فى حُمَّى المطاردة والولع بشهوة الانتقام. هذه ليست مثالية، بل عملية حتمية أكثر إلحاحا من الضرورة التى تُلجئ السمندل لترك جزء من جسمه فى فم غريمه والمسارعة للنجاة بما تبقى، فإذا كان السمندل يفعل ذلك مرتكنا على إدراكه الغريزى لقدرته فى استعادة الجزء المفقود، فإنه أولى بنا أن نسارع فى البناء لأن دوراننا فى حومة المطاردة وانشغالنا بها عن كل ما عداها يعرضنا فعليا لفقد المتبقى والموجود.
بل أكثر من ذلك، أعتقد أن ما نراه من «تلاكيك» غُلاة الفرقاء السياسيين، بمزاعم دينية تارة، وتارة بتشنجات أيديولوجية، سببه أن الأمة غير منشغلة بالعمل وطموح النهضة، فمجرد انخراطها فى مشروع نهضوى جاد، سيتكفل بتنحية وإخزاء كل هذه التنطعات التى تهتف بتعصباتها وتربصاتها حناجر فارغة، وتلوح براياتها المستدعاة من خارج الزمان والمكان تشنجات أبعد ما تكون بمظهرها ومخبرها عن اختيار النهوض.
صحيح أن هناك استفزازات منحطة وفجة من نفايات النظام الساقط، تتبجح فيها نماذج بشرية تافهة وعدوانية من بين ظهرانينا، وتتهافت فى إطارها غثيانات قادمة من خارج الحدود، وتساندها قوى خفية يسرت لها التسرب داخل المحكمة بلوحات ترفع صور المخلوع وتجأر بالهتاف له، ناهيك عن رفع الفسلين الفاسدين يديهما بعلامة النصر فى نهاية الجلسة، أى نصر! كل هذه الاستفزازات ينبغى ألا تجعلنا نغرق فى مستنقع ما مضى فنعمى عن رؤية شاطئ القادم الذى يتحتم أن نجعله أفضل. وللسمندل فى ذلك إضافة أخرى عجيبة!
فى حالة مدهشة من الإنقاذ الاستباقى، عندما يهم مفترس كبير بالتهام سمندل باغته الهجوم، يسارع السمندل ببتر ذيله ذاتيا ويفر، تاركا الذيل يتقافز ويتلوَّى أمام المفترس فيلهيه. وهى عبرة معكوسة لنا، حيث لا يصح أن تلهينا ذيول تافهة خلفها لنا النظام السابق عن جوهر ما يتوجب علينا النهوض به والاستنهاض فيه، لمجرد أن هذه الذيول تتقافز أمامنا وتتلوى وتتلاعب على شاشات برامج سطحية مريبة، أو فى ساحات وأركان لا تقل عنها إثارة للريبة.
أما كيف ننهض؟ وما هى أدوات وآليات النهوض؟ فللسمندل فى ذلك اقتراحات تشكل أعجوبة إضافية من أعاجيبه، تقتضى احتفاء، واعتذارا جديدا، فى أسبوع قادم!
ودموع الجُرذان دم
أضف تعليقك تعليقات : 12
آخر تحديث: الخميس 25 أغسطس 2011 - 8:53 ص بتوقيت القاهرة
لقد ثبت من الأبحاث العلمية على هذه الغدة عبر القرون الثلاثة التى مرت منذ اكتشافها، أن بها مستقبلات حساسة للضوء تنظم عمل الغدة الصنوبرية التى تفرز هرمون الميلاتونين المنظم للإيقاع الحيوى، وتحديدا تناوب الصحو والنوم، فإفرازه يزيد فى الظلام ويقل مع الضوء، كما أنه ينظم دورات التكاثر الموسمية فى الحيوانات، وله تأثير ملحوظ كمادة مضادة للأكسدة وحافظة لحيوية الخلايا. أما إفراز غدة «هاردير» التى تغمر كرة العين، فهى إضافة لدورها فى ترطيب العين والمساعدة على تيسير حركتها داخل محاجرها، تسهِّل انزلاق الغشاء الرامش على عيون الحيوانات التى بلا أجفان متحركة، وتُعتبر سائلا واقيا من شدة الضوء فى كائنات ليلية مثل الجرذان، وتقوم بدور منظم للحرارة، وتشكل أحد مصادر الفيرمونات أو الروائح الجاذبة والمعتبرة كلغة لدى الحيوانات. أما اللون الأحمر فى إفراز هذه الغدة والتى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما فهى حكاية خاصة، تتفاقم فى ظروف خاصة، وتحمل فى طياتها دلالات خاصة، تبدَّت لى وأنا أتابع وقائع تحرير طرابلس واقتحام قلعة باب العزيزية واختفاء القذافى وعياله وكتائب إجرامه أمام بسالة الثوار!
إفرازات غدة هاردير التى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما، يعود لونها الأحمر إلى وجود مادة «البورفيرين» فيها، وهى مادة عضوية تشكل جوهر تكوين هيموجلوبين الدم الذى هو «فيرو بورفيرين»، أى بورفيرين يحتوى فى قلبه الجزيئى على أيون الحديد. فليس تصور عيون الجرذان عندما يغزر فيها هذا الإفراز ببعيد عن الإحساس بأنها تبكى دما، خاصة عندما نعرف الظروف التى يغزر فيها إفراز هذه الغدة لهذا السائل الذى لا تستطيع قناة بين تجويف العين والأنف تصريف فيضانه، فيتكاثف الفائض حول العين كدم أحمر قاتم، وتقوم الفئران بمحاولة مسحه بقوادمها فيتلطخ فراؤها بالبقع الحمراء وتصطبغ باللون القانى مخالبها!
هذه الدموع شبه الدامية فى عيون الجرذان تفيض وتصير واضحة جدا ولافتة فى ظروف الشدة، ومنها : الحرمان من النوم، ومعاناة الجوع والعطش والآلام، خاصة آلام المفاصل! وكذلك الخوف!. فهل نتصور القذافى وعياله السفلة خارج هذه الدائرة من الشدائد والتعاسة والبؤس، وهم يهربون عبر الأنفاق تحت أرض قلعة العزيزية إلى المجهول؟ رعبا من فتك الشعب المجروح والمقروح بهم، وخوفا من قفص محكمة الجنايات الدولية الذى ينتظرهم لقاء جرائمهم ضد الإنسانية المتمثلة فيما ارتكبوه ضد شعبهم من مذابح. هذه المحكمة التى عندما سُئل عنها قبيح الخلقة والخلق «زيف القذافى» فى الشريط المدسوس قبل سقوط قلعة أهله، أشاح متبجحا يقول: «طظ فى المحكمة الدولية»!
لقد سمَّى القذافى المنتفضين على نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من القهر وشطحات الجنون وتبديد ثروة الأمة والعربدة على حساب الحاضر وأجيال المستقبل وتكميم الأفواه وإذلال النفوس: «جرذان. جرذان»، وها هى إرادة الله وحكمة التاريخ تجعل مصير القذافى وأولاده المتوحشين والمتعجرفين والكذبة مثل أبيهم، يصيرون بالفعل فى موقع الجرذان، يمضون تحت وطأة شدة ساحقة، مطأطئين داخل أنفاق مظلمة أو معتمة إلى حيث لا يقين لهم ولا أمان يركنون إليه أو نجاة يثقون فيها. كائنات بشرية مخضبة الأيادى بدم الأحرار والأبرياء وملوثة بما سرقت وما نهبت مما لا يحق لها ولا يجوز. يتسللون فى متاهات العتمة كما جرذان بشرية، تبكى عيونها ندامة بلون الدم حتى وإن كانت لا تدمع.
لقد كان جنون العظمة وهو ينفخ الطاغية بالهواء الفاسد والهباء، يبديه لنفسه وفى عينى مرآته ومنافقيه فخما وضخما، ملك ملوك قبائل قارة الإنسان الأول، وقائد عالمى، بينما الحقيقة التى كشف عنها سقوط قلعة باب العزيزية وهروبه المشين، أنه مجرد جرذ بشرى أخضعه رعب المصير لأن يستسلم لحقيقة ضآلته فى نهاية المطاف، بينما كان من اتهمهم بأنهم جرذان، ينظفون بنايات القلعة وحدائقها بأسلحتهم المتواضعة وبسالتهم الهائلة، فتنكمش مدرعات كتائبه وتختبئ الصواريخ وتزول ألوان صوره المزركشة وكتبه الخضراء البلهاء، وعلى غراره مضى أولاده الذين كانوا يدركون وضاعة حقائقهم فيتحايلون عليها بالانتفاخ مثل أبيهم، لكن ليس فى أزياء ملك الملوك وديك الديوك وطاووس الطواويس، بل فى التسلى باقتناء النمور والأسود!
شىء عجيب ويدعو للتساؤل والبحث فى علم النفس المرضى: لماذا هذه الهواية بالذات فى اقتناء وترويض الوحوش لدى أبناء الأباطرة والطغاة؟ عدى صدام حسين كان مولعا أيضا بتربية الأسود! وكأنهم كانوا لا شعوريا يقومون بحيل نفسية تزيح عنهم الشعور بحقيقة الوضاعة وعتامة الفراغ والافتقار إلى أية جدارة حقيقية فى أنفسهم، فيوهمون أنفسهم بالقدرة على إخضاع الوحوش. لكنهم لم يكونوا حتى فى هذه يجرؤون على التمشى مع نمر مربوط أو أسد مكبل، بل يقفون عند حدود المنظرة بتلعيب الأشبال والجراء تحت عيون آلات التصوير! غيرهم من أبناء الطغاة كان يعوض شعوره بالنقص والخلو من كل موهبة وأى جدارة، بتقمص ملامح الخيلاء والتمنظُر بصولجان النفوذ والتطاول بأرقام الفلوس! فمن الجرذ اليوم؟
من الجرذ؟ والجرذان هى أدنأ الثدييات طباعا وسيرة، ناقلة براغيث الطاعون وقمل التيفوس عبر أوبئة التاريخ، وسارقة ثلث ما تنتجه البشرية فى البلدان الفقيرة من طعام، والتى تأكل لا لتغتذى وتشبع بل لتبْرُد أسنانها الأمامية حتى لا تواصل النمو فتعجز عن إغلاق أفواهها وتموت بأفواه مفتوحة. كائنات بشعة فى مملكة الحيوان قاطبة، تأكل صغارها إن جاعت، وتفترس إخوتها وأبناء نوعها إن عنَّ لها ذلك. كائنات وسخة فى عرف البشرية دون منازع، لهذا أوَّلت البشرية دموعها الضاربة إلى الحمرة بأنها بكاء بالدم. فما بال البشر الذين قادهم نهمهم وغرورهم وعبادتهم للسلطة والتسلط ونسيان الحق والعدل وكرامات الناس، إلى مصير البشر الجرذان؟
ثلاثمائة وسبعة عشر عاما مضت منذ كشف عالم التشريح السويسرى هاردير عن تلك الغدة فى محاجر عيون الأيائل التى تفرز ما يشبه دمعا دمويا تفيض به العيون خاصة عيون الجرذان، وخمسة شهور مرت منذ أطلق القذافى وصف الجرذان على أحرار شعبه عندما انتفضوا يرفضون قهر نظامه، واثنان وأربعون عاما من حكمه المتسلط والمستهبل والمستهتر واللئيم والكاذب والفاسد انصرمت بعد الجثوم الطويل الثقيل على صدر هذا البلد الطيب أهله. وها هى الأنفاق تحت أرض باب العزيزية تُظهِر من الجرذ اليوم؟ ومن تبكى عيونه، بدلا من الدموع دما من الندامة والمهانة وخسران الغرور وسفاهة الطمع؟
فمن الجُرذ اليوم ؟
لا يُراقصون النيران
أضف تعليقك تعليقات : 17
آخر تحديث: الخميس 18 أغسطس 2011 - 9:32 ص بتوقيت القاهرة
إنه السمندل مرة أخرى، أو السمندر، أو السلامندر، لكنه ها هنا سمندر النار «salamander Fire» كما تسميه بعض المراجع العلمية ناهيك عن كتب العجائب والغرائب، بل إن كتب التراث العربى لم تفوِّت الإفتاء فى أمره، فسماه الجواهرى «السندل» وابن خلكان «السمند» وقالا إنه طائر! وقال عنه الدميرى صاحب كتاب حياة الحيوان الكبرى: «من عجيب أمره استلذاذه بالنار ومكثه فيها وإذا اتسخ جلده لا يُغسل إلا بالنار، وهو دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل يُنسج من وبرها مناديل إذا اتسخت ألقيت فى النار فتنصلح ولا تحترق»، وزعم آخرون أنه «طائر يبيض ويفرخ فى النار»! أما القزوينى فاكتفى بالقول «إنه نوع من الفأر يدخل النار»!
وإنه لسمندل، مجرد سمندل بائس من طائفة البرمائيات لا وبر له ولا ريش ولا يولد من النار ولا يرقص فى النار لكن ألسنة النار هى التى تلحق بأذياله كضربات قدر ينجو منها بأعجوبة من أعاجيب ضعفه وتعويضات هذا الضعف التى حباه بها خالقنا وخالقه الرحيم، فهذا البرمائى الضئيل الذى لا تتجاوز أقصى سماكته عند رأسه المدوَّر عن سماكة إصبع، ولا يزيد طوله على شبر بما فى ذلك ذيله المستدق الطويل، هو ككل السمندلات، يتزود جلدها المتغضن بغدد تفرز رطوبة لزجة تصطاد ما تيسر من أكسجين الجو وتذيبه فى قوامها وتنقله إلى داخل هذا الكائن من ذوات الدم البارد، أى التى تتغير درجة حرارتها الداخلية مع حرارة ما يحيط بها، تبرد إن بردت، وتسخن إن سخنت، لكنها قطعا لا تحتمل تطرفات برد الثلوج ولا سُعار حرارة النار!
كل ما فى الأمر أن هذه الكائنات الضعيفة عندما يباغتها برد الشمال القارس تبحث عن مخابئ تتوارى فيها من عصف الرياح الصقيعية وانهمار الثلوج اللادغة، ويتواكب أن تجد بعض مرادها فى كتل خشب الأشجار القديمة التى قطعها البشر وخزنوها فى أكواخ بجوار منازلهم، فتسارع هذه الكائنات بالاختباء فى شقوق هذا الخشب القديم، وعندما يُلقِم البشر مدافئهم بقطع الخشب وتشتعل، تقع الواقعة على أجساد هذه الكائنات الضعيفة، فتفر من الشقوق لتجد نفسها فى لهيب النار، لا تُراقصه ولا تُعاقصه، بل تبحث مذعورة حائرة متخبطة عن سُبل للهروب، فتبدو لعين البشر راقصة فى النار!
وهى لا ترقص فى النار، بل تحتمل جحيمها ملسوعة متقافزة حتى تنفتح لها أبواب الرحمة، وتنشط إفرازات الرطوبة اللزجة من غدد جلدها بغزارة استثنائية، فتعزل عن الأجساد الهشة هول السخونة والحرق حتى تتمكن من الهرب عبر مداخن المدافئ، وتظن أبصار البشر كليلة البصيرة أنها اختفت فى النار كما ظنتها من النار جاءت!
«ليست معجزة، لكنها قوانين لم تُكتشَف» هكذا تقول الحكمة الصينية عن الخوارق، ولا شك أن هناك خوارق فوق مستوى الإدراك البشرى، لكن المعرفة فى عميق إدراكاتها لا تبعدنا عن الإيمان بمعجزات الخلق، بل تقربنا من اليقين فى قدرات الخالق وتهدينا إلى التواضع ونبذ الكِبر، ثم إننا يمكن أن نقرأ عبر سطورها رسائل مهمة، سواء بالاتفاق أو المخالفة، وإننى لأقرأ عبر أسطورة هذا الصغير الضعيف الناجى من النار بيد القدرة، واقعا غريبا لطائفة من البشر مولعة بالرقص فى النار بالمعنى المجازى لأحوالهم النفسية. بشر تفتقد نفوسهم الطمأنينة برغم ما يبدونه من مظاهر الاستقرار والتوازن ورسوخ اليقين، وهم عِوضا عن أن التماس موارد الطمأنينة ليرتوا منها فتطمئن نفوسهم، يسعون بوعى أو بلاوعى إلى بث عدم الطمأنينة فيما حولهم. وهم فى تسعيرهم لنيران القلق هذه، لا يتورعون عن التلويح برايات تشنجاتهم مستخدمين فى ذلك كل مزاعم احتكار الصواب، سواء كانت دينية متعصبة أو دنيوية متخشبة.
نحن فى لحظة وطنية حرجة بالفعل، وهى تستتبع الانتقال من إيحاءات الأمثولة إلى صريح الرأى، فمن أمثولة سمندل النار هذه نستبين نوعا من البشر لديهم ولع حقيقى بالرقص فى النيران، نيران المعاظلة والعنف فى القول أو الفعل، وتسعير الخلاف حيثما حلوا، لأنهم لا يطيقون اختلافا معهم أو عنهم، فهم طاقة استبداد وتسلط فى نهاية الأمر. ومن العجيب أنهم يخرجون كما سمندل النار من الشقوق، شقوق عتامة تطرفاتهم الفكرية وتأويلاتهم الجانحة، سواء كأيديولوجيا سياسية أو ادعاء دينى، وبرغم التباين الشاسع بين مظاهرهم ومخابرهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلا أنهم ينطوون تحت التركيبة النفسية ذاتها، تركيبة المتعصب، المتيبس، الجامد، الذى لا يشع طمأنية ولا يعكسها لأنه لا يمتلكها ولا يسعى لامتلاكها. وهؤلاء هم وقود فتنة التاريخ، وفتنة لحظتنا الحاضرة.
لقد هممت بأن أذكر نماذج من هؤلاء وأولئك من مدمنى الرقص فى نار الشقاق والتكاره، لكننى اهتديت إلى سبيل آخر لنبذ هذا السوء، لا بتحديده ورفضه، بل بالإشارة إلى نقيضه وتثمينه، ونقيضه بشر أسوياء جميلين يعرفون حدودهم تحت سماء الله الرقيقة الرحيبة التى نختنق ونحترق إن تجاوزنا أجواز زرقتها الخفيفة، ويعرفون حدودهم على أرض ربنا التى لا نحيا على سطح ألواحها التكتونية الواهية العائمة على جحيم من صُهارة إلا برحمة من لدنه، ومن ثم تجد فى هؤلاء البشر الجميلين المتواضعين رحمة بأنفسهم وبأوطانهم والناس، كل الناس. وتجد فيهم تسامحا، وأفقا سياسيا واجتماعيا ودينيا ودنيويا رحيبا، وأذكر منهم على سبيل الأمثلة لا الحصر: مجموعة الشباب العذب ممن يُسَمَّون «سلفيو كوستا» فى انفتاحهم وتعايشهم المتسامح مع المختلفين عنهم، والدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح فى فهمه الراقى لثقافة ما بعد العلمانية، والدكتور عبدالجليل مصطفى وموازنته المسئولة عن حدود الاحتجاج ومراعاة المخاطر الوطنية والصالح العام للأمة، وكثيرين من شباب الإخوان وبعض كبارهم، كما كثيرين من شباب اليساريين والليبراليين وبعض كبارهم، وليس أخيرا كل هؤلاء الذين يقبلون الخير أنَّى كانت مصادره كما فى مسألة الاتفاق على مبادئ عامة لدستور جامع لكل أبناء الوطن الواحد، ناهيك عن الأغلبية الساحقة من المصريين الوسطيين بطبيعتهم، من كل الطوائف والمشارب والطبقات، الذين امتعضوا من تلويح رايات قلة شيوعية بلهاء فى الميدان، وفزعوا من تشنجات وهتافات تعصب وعدوانية غُلاة الوهابية فى الميدان نفسه.
متى نصل إلى حقيقة أن مدمنى الرقص فى جحيم الأنفس مفتقدة الطمأنينة بكل ألوانهم واشكالهم ومقولاتهم وراياتهم وتعصباتهم وجمودهم ما هم فى بحر الثمانين مليونا أو يزيد إلا قلة، بينما مطمئنو النفوس عاشقو الأنوار من كل الاجتهادات والمشارب كثرة، ومتى ننحى أو نحيِّد قلة مدمنى الجحيم النفسى حتى لا يدمروا لحظتنا ويصادروا الغد، ونفسح المدى لعشاق الضياء، صعودا نحو أفق أفضل وأجمل وأرحم؟
أمامنا الكثير من الخير الذى يتوجب علينا أيها الناس مباشرته والتبكير فى إنجازه، وعدم الإفساح لسخافات المولعين بمراقصة النار حتى لا يُعاق هذا الإنجاز: بناء ديمقراطى فيه الخير لكل الناس، يصون حقوق الإنسان أشرف المخلوقات، ويصون حق المواطنة للجميع كموقف أخلاقى دينى ودنيوى معا، ويضمن تداول السلطة ودولة القانون وِقاء من أى تسلط وسطوة، وهذا يعنى التأسيس لمبادئ دستور جامع اتفق فيه كل الفرقاء على أن تكون المادة الثانية فيه مصونة، كما رحَّب إسلاميون عدول بأن تضاف للدستور المأمول مادة تصون حقوق غير المسلمين . فأين المشكلة؟ وأين فى ذلك فزاعة ما يسميه البعض التفافا على إرادة الأغلبية إذا كان هذا التوافق يصون حقوق الأغلبية كما الأقلية، وسواء بشرت به مسودة مبادئ دستورية أو إعلان دستورى جديد؟!
وبموازاة ذلك البناء الديمقراطى، أمامنا، ودون إبطاء أيضا، الشروع فى بناء نهضوى حضارى، اجتماعى واقتصادى وثقافى تحدياته كثيرة نعم، نعم تحدياته كثيرة وخطيرة بعد كل التخريب والنهب الذى اقترفه (وولداه وعصابة المنتفعين من استبداده وفساده) ذلك النائم اللاهى الآن على سرير طبى فى قفص المحاكمة الأخيرة المشهودة، لكننا نستطيع.
نعم، لو أخلصنا النية ونقينا الإرادة: نستطيع.
فتنة السمندل
أضف تعليقك تعليقات : 24
آخر تحديث: الخميس 11 أغسطس 2011 - 9:29 ص بتوقيت القاهرة
وهاهما يتواجهان، كمفترس وفريسة، وليس لديهما من أدوات القنص غير لسانين غريبين على غير عادة ألسنة معظم الكائنات، فلساناهما مثبتان فى طرف أفواههما لا نهاية الحلوق، يقذفان لسانيهما المدججين بلزوجة كثيفة وطرف عضلى فيمتد اللسان كأنشوطة لحمية ويختطف الفريسة بسرعة البرق، وبسرعة البرق يعود بها إلى جوف الفم الذى لا عظام فيه، فتُبتلَع بلا مضغ لتهضمها الأمعاء. فأيهما سيلتهم الآخر؟
يقف الضفدع مثل هضبة مختالا بحجمه الذى يعادل عشرة أضعاف حجم هذا النوع الضئيل من السمندل، ويثبت السمندل فى مواجهة الضفدع فتانا بلون جلده المرقش بصفرة فاقعة على سواد حالك لامع، تطرف أعينهما البارزة ليس كما تطرف الأجفان، بل لأن كلا منهما يتلمظ للفتك بالآخر، فعيونهما ليس لها محاجر عظمية تستقر فيها، بل هى سائبة تتحرك ما تحرك الحلقوم، فكأن كلا منهما يهدد الآخر: «سآكلك»؟!
«سآكلك» تؤكد حركة عيون الضفدع التهديد، فيرد السمندل بنظرة عينين صغيرتين بارزتين فى سكون متحد: «كلنى»! وبرغم الوعى الموروث فى فطرة الضفدع بما يمثله تزاوج اللونين الأصفر الفاقع والأسود الخالص من نذير، إلا أن السمندل يفتنه ويطيح بحذره، وبسرعة البرق ينقذف لسان الضفدع مثل حربة لحمية فيختطف السمندل ويلقى به فى الفم الكبير لينزلق إلى الجوف المظلم. تبدو المواجهة قد حُسمت، لكن هيهات!
بعد دقيقتين يتقبض جسد الضفدع لا تقبض جسد مُتخَم يهضم صيده، بل تقبض عاصفة تحرق جوف هذا الجسد، ثم يسكن سكون الموت بفم مفتوح، وإذا بترقيط اللونين الأصفر والأسود يطل من فم الضفدع الميت، وها هو السمندل يخرج سليما حيا من جثة غريمه. فلم يكن السمندل منذ البداية يقف موقف المواجهة مع الضفدع، بل يتخذ هيئة الفتنة، يغويه تحت ستار التحدى هاتفا: «ابتلعنى»، فابتلعه، وكلاهما كانا مطمئنا إلى مكمن قوته، الضفدع يثق فى كبر حجمه النسبى ورنين نقيقه العالى، والسمندل يثق فى فتك ما يضمره جلده من سم، فجلد السمندل شديد التجعيد يخفى غددا سامة سرعان ما تنشط مع بدء عصارات الهضم اللاذعة فى جوف الضفدع بالعمل.
يموت الضفدع مسموما فى دقيقتين بينما السمندل فى جوفه يتحرك، وها هو السمندل فى الدقيقة الثالثة يخرج خروج الحى من الميت مزهوا بنصره، لكنه لا يكون إلا نصرا فاتنا وزائلا!
لا أعرف لماذا وجدت سيرة السمندل تطاردنى هذا الأسبوع، ربما لأنه كان أسبوعا أحسست فيه بوطأة الفتنة من حولنا، بكل ما تنطوى عليه كلمة الفتنة من معانى، فالفتنة تتضمن معنى الإعجاب والاستهواء والتوله، كما تعنى الابتلاء والاضطراب والضلال، والشيطان فتان، والوسواس فتان الصدور، وفى السمندل كل ذلك، لكن فتنته ليست إلا نتيجة ضعفه الخلقى، فمن أين أتتنا الفتنة التى شعرت بها ثقيلة رذيلة هذا الأسبوع، حتى إنها ألجأتنى إلى العود لتأمل غرابة المخلوقات لعلى أفهم غرائب البشر.
لماذا انحدرنا إلى هذا الأداء المشوه بعد أن أنجزنا ثورة تاريخية فاتنة بكل معانى فتنة الجمال؟ لا سبب أراه عبر تأملى لفتنة السمندل، إلا أننا ابتُلينا بمن يُفتتَن بيننا ببوارق القوة لا أنوار الحق، والقوة حين تسبق الحق وتعتليه تصير مثل ثقة السمندل فى قوة فتك السموم فى جلده، ومثل غرور الضفدع فى قوة حجمه مقارنة بحجم سمندل ضئيل. صحيح أن السمندل قتل الضفدع الذى شرع فى قتله، لكنه كان قتل قريب لقريب، وهو خرق لسلامة الفطرة ينذر بسوء العاقبة للجميع!
الآن أتصور أن الفارق الحاسم بين مجتمعات البشر الأرقى ومجتمعات الكائنات الأدنى يكمن فى أن الديمومة البشرية تغذيها روح التشارك والتعاون والتآلف، سواء بإلزام القانون الذى لا يعرف الاستثناء، أو بروح التحضر المتجذرة فى الأعماق، أو بكليهما معا، ليستقر فى النهاية «سلم أهلى» لا غنى عنه لاستمرار ونماء هذه المجتمعات. أما فى كائنات البرارى والغابات والأحراش، فثمة قانون آخر يتسق مع محدودية أدوات الفتك لدى هذه الكائنات، فأشد أنواع الأنياب والمخالب دموية، تظل فقيرة بائسة إذا ما قورنت بما ابتدعته قريحة الإنسان من أدوات الفتك وأسلحة الدمار وفخاخ المكر.
كائنات البرية الأدنى تخرج كل صباح أو كل مساء لتبحث عن فريسة تتغذى بها، فيما تكون هى نفسها عرضة للافتراس من وحش أكبر. ليس ثمة مفاضلة هنا بين الحق وبين القوة، فالقوة هى الحق الذى ينظم مسيرة البرارى والغابات لأنها فى النهاية قوة محكومة بتدبير إلهى أعلى، ومنظومة فى دائرة من نقاط يكمل بعضها بعضا، ومن ثم لا يحتاج النمر أو الغزال أو الأفعى أو البعوضة أو العصفور أو الدودة ميثاقا يرسم الحدود الفاصلة بين تضارب الرغبات، لأن الرغبات نفسها محدودة بقانون الاكتفاء الغريزى، فالأسد لا يفترس غزالا وهو شبعان، حتى لو كان فى مرمى مخالبه أو أنيابه، والغزال يعرف ذلك، وأشهد أننى رأيت فى غابة «إيتوشا» سربا من الغزلان يجاور عائلة من الأسود حول بركة الماء، يرتويان معا فى حالة من «السلام الاجتماعى» العجيب، لأن الأسود كانت مشبعة بوجبة من جاموسة برية التهمتها لتوها وهى لا تريد المزيد حتى لا تهلكها التخمة، غريزتها تنبهها إلى ذلك وهى تمتثل للتنبيه، والغزلان بدورها تشم رائحة شبع الأسود فتطمئن، وترين على الغابة هدنة فطرية تصون استمرار الحياة فى مجتمعات قانونها «إما آكل أو مأكول»، قاتل أو مقتول!
الآن أتصور أننى فهمت سر هذه الفجاجة التى تصطخب هاهنا بعد أن بلغنا ذروة من الرقى البشرى جسدتها أيام الميدان البكر وقواه الباسلة النقية الأولى، فقد كان هناك فى أيام الثورة الثمانية عشر المجيدة إعمال لقانون الحق فوق القوة والانتصار للمجموع لا للذوات، سواء الذوات الفردية أو العصابية أو التنظيمية، لكننا انحدرنا إلى فظاظة طلب القوة قبل الحق، بل طلب القوة بغوغائية ومكر أسخم من سم السمندل المخبوء فى جلده. فتنة بدأتها قوى كانت واقعيا ضد الثورة، وانساقت إليها بعد ذلك قوى تفانت صادقة فى صناعة الثورة!
إن مشهد فتنة السمندل حيث الاستقواء بين قريبين بالحجم فى جانب وبالمكر فى جانب آخر، لا يعلن انتصارا نهائيا لطرف على طرف، فمثل هذا الخرق لقوانين الفطرة لا يمر دون عقاب شامل، فالسمندل سرعان ما يلتحق بمصير الضفدع، لأنه وقد فتنته قوة السم فى جلده، يظن أنه يستطيع إغراء أى كان بابتلاعه ليقتله بسمِّه، لكن هذه المعادلة تخيب عندما يفتن السمندل حية رقطاء فيغيب فى جوفها لتهضمه بكل ما فيه من سموم وغيوم!
هناك فى مصر الآن من يصر على الفتنة، وما دامت سوية الفطرة تتراجع أمام ادعاء الغلبة بالكثرة أو الارتكان إلى فعالية السموم المُضمَرة، وكلها أنماط من تسييد القهر بالقوة، فلابد من إحقاق الحق بتعاهد توافقى لا يزدريه إلا ظالم. تعاهد على قيم جامعة وحاكمة بالحق الذى يرتضيه الإنسان والرحمن، ولا أظن حق الموطنة وحقوق الإنسان وضمان تداول السلطة وديموقراطية الدولة المدنية الحديثة الطامحة للعدل والحرية والنهوض إلا مسالك إنسانية لا تجافى الفطرة، وتنجينا من شر المهالك.. مهالك فتنة اللحظة، وشتات المستقبل.
كلو الجبـــس
أضف تعليقك تعليقات : 20
آخر تحديث: الخميس 4 أغسطس 2011 - 9:23 ص بتوقيت القاهرة
رواية الكاتب اليونانى العالمى كازانتزاكس «المسيح يُصلَب من جديد» (وأرجو ألا يتمطع مُتنطِّع ويحاسبنى على عنوان الرواية)، تحكى عن قرية منسية شديدة الفقر لا تتميز بشىء سِوى حفل دينى سنوى يُعيد فيه أهل القرية تمثيل أسبوع آلام السيد المسيح وعشائه الأخير والخيانة التى تعرض لها من يهوذا الاسخريوطى الذى وشى به لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة ثم ندم على فعلته ورد المال لليهود وقتل نفسه.
لقد اجتمع أعيان القرية وخورى كنيستها لاختيار الأفراد الذين سيقومون بدور الشخصيات فى هذه التمثيلية، فلم يجدوا مشقة إلا فى تحديد من يقوم بدور يهوذا، ووقع اختيارهم على سروجى القرية «بنايوتى آكل الجبس»، لكنه رفض هذا الدور عندما استدعوه لأخذ موافقته وظل يكرر بهلع «خائن للمسيح؟! أنا؟ كلا.. كلا»، وانتهى التفاوض بفرض هذا الدور عليه، وسرعان ما صار موصوما فى القرية باسم «يهوذا»!
بنايوتى هذا كان شخصا بسيطا فطريا تماما، ضخم الجثة وخشن الهيئة وجلفا على نحو ما، لكنه فى قرارته كان طفلا كبيرا نقى السريرة خاليا من كل مكر، وعاشقا متيما بحب أرملة سيئة السمعة لم تكن تبادله الحب وتتلاعب به، بينما هو مثابر على حبها واعتبارها قضية حياته، وفيما كان سادرا فى هذا الحب الأخرق، لم يكتشف إلا متأخرا كيف أنه كان يتحول فى أذهان أهل القرية إلى «يهوذا» فعلى، حتى إن شعره الأحمر اعتبروه مطابقا لهيئة شيطان تحوطه هالة من نار!
كانوا يشيطنونه، وكلما اكتشف شيطنتهم له، يزداد قسوة وخشونة وغلظة فى التعامل معهم، بل إنه تقمص دور يهوذا بلا وعى، وصار يعتبر أن أعدى أعدائه هم الذين وقع عليهم الاختيار ليقوموا بدور المخلصين الأخيار فى التمثيلية، لأنهم قبولهم لعب هذه الأدوار تعارض مع دور الخائن المفروض عليه، إنما كانوا يسهمون فى تحقيره ويرسخون يهوذيته، فصاروا فى عرفه شياطين، وصار خيرهم شرا عنده!
ما حدث لبنايوتى آكل الجبس يكاد يكون موحيا ببعض ما يحدث لجماعتنا الوطنية فى الفوضى الأخيرة، حيث لم يعد هناك تبيُّن للحق أو الباطل بتجرد فى ضوء المصلحة العامة للأمة، بل صار حكم كل فريق على غيره نابعا من موقع التربص أو التربص المضاد، ومن ثم غامت المعايير وصار من ليس معى فهو ضدى، ومن كان ضدى فهو شيطان، وفى هوجة هذه الشيطنة راح كثيرون يخالفون حتى ضمائرهم فى الأحكام الموضوعية على الآخرين، وصار الدمغ والتلطيخ سهلا ومجانيا، واستشرى الافتئات بسطحية أو بانتهازية «اللى تغلب به العب به»، لتشتعل حرب باردة يمكن أن تنفخ فيها أى ريح لتتأجج، لا لتحرق الفرقاء فى حومة هذه الهوجة وحدهم، ولكن لتحرق وطنا يجفف التلهِّى عروقه حتى توشك أن تنقلب قشا ينتظر شرارة الحريق!
إن لحظة تجرُّد واحدة فى النظر إلى ما جرى فى الفترة الأخيرة ببصيرة لا يزيغها التحزب أو التعصب أو الهوى والميل، تكشف عن وباء «التعميم فى التجريم» الذى انزلق إليه معظم فرقاء الساحة السياسية المصرية الراهنة، فالليبراليون ودعاة الدولة المدنية صاروا فى عيون خصومهم دعاة دولة بلا دين ولا أخلاق بل تطور الأمر إلى دمغهم بأنهم دعاة إباحية وفجور علنى. وفى مقابل هذا الافتئات على الليبراليين نرى افتئاتا بديلا من بعض الليبراليين يعمم أن «كل» الإخوان استئصاليون ومخادعون وطلاب سُلطة دينية. أما ادعاء أن «كل» السلفيين مشاريع إرهابية ودُمى تحركها مليارات أو ملايين السعودية، فهو تعميم مضلل لا لجموع الناس بل حتى لمن يرون فى هذا التوجه مخاطر كامنة، لأنه ينحرف بهم عن التقييم الصحيح للظاهرة وآليات التعامل معها. ولا يمكن أن نغفل فى هذا السياق جنوح النقد للمؤسسة العسكرية واستفزاز الهتافات اللامسئولة ضد رموزها وأدوارها المُتخيَّلة أو الافتراضية عند البعض. كما لا نغفل عن تلطيخ بعض منتسبى هذه المؤسسة للحركات الشبابية والمقاومة كـ«6 أبريل» و«كفاية» واثنين من المرشحين للرئاسة لم يتم تحديدهما!
هوجة تجريم وتأثيم وتلطيخ وشيطنة وتعميم اندفع فى ساحة وغاها كثيرون من كل أركان الجماعة الوطنية، والنتيجة ليست فقط شق صف قوى الثورة وتوهين تماسكها، بل التحشيد الغوغائى الذى لا يخدم قيمة حقيقية ويفشى حالة التسيب والاستباحة الأمنية، وهو أمر غاية فى الخطورة وغير أخلاقى بأية معايير دينية أو دنيوية سوية، لأنه فى النهاية إما أن يحرق وطنا تكاثر فيه الهشيم، أو يفوِّت على هذا الوطن فرصة نهضة صارت ضرورة إنقاذ لا خيار ترف.
لقد قرأت رواية «المسيح يُصلب من جديد» فى أولى سنوات الجامعة، لكننى عندما عدت إليها مؤخرا اكتشفت فيها أبعادا كانت غائبة عن رؤيتى الأولى البعيدة، وكما أن عملية الإبداع الأدبى يحدث أن تتجاوز حدود رؤية الأديب، كذلك القارئ يمكن أن يقرأ فى العمل الأدبى أبعادا لم تخطر على باله من القراءة الأولى، فمن وصْف كازانتزاكس لتاريخ بنايوتى الجارى على الألسنة فى موضوع رهاناته وأكله لتماثيل الجبس، نتبين أن بنايوتى يُفترَض أن يكون قد التهم أطنانا من الجبس تكفى لسد أمعاء قبيلة أفيال كاملة، فهى مبالغة هدفها فضح أكذوبة الأسطورة وكشف تهافت صانعيها.
كما اكتشفت فى القراءة الجديدة للرواية أن الكاتب أراد ولو بشكل لا شعورى أن يُعرِّى مسخرة هذه القرية الضائعة التى يملأ سكانها فراغ وقتهم وخسة إرادتهم بالتلهى والتسلى الوحشى ببعضهم البعض حتى لا يتجشموا عناء تغيير البؤس الذى يعيشون فيه وتبديل المهانة التى تحيط بهم فى ظل والٍ غريب الأطوار ينهبهم ويزدريهم ويتسلط عليهم، وأعيان خانعون لمشيئة هذا الوالى بينما هم يتسلطون على مواطنيهم فى الوقت نفسه. فهى حالة «صياعة» شاملة لقرية تدور فى حلقة مفرغة من الخفة الدميمة والعبث التافه.
إننى أحس أن هذه «الهوجة» التى نعيشها، هى ابنة منحرفة لحالة «صياعة» كبرى لجماعة بشرية لا تدرك أو لا تريد أن تدرك حجم التحديات التى أورثها إياها نظام ساقط نخر سوسه معظم مقومات الدولة والتهم جراده مدخرات قواها على مدى عشرات السنين، وتركها فى حضيض لا سبيل إلى تجاوزه إلا بعمل جاد جدا، وغير قابل أبدا للتأجيل أو التشتيت فى مقارعات سقيمة تشعل حربا باردة بدوافع عبثية، وراجعوا معى جُل ما اشتجر فى الميدان فى الفترة الأخيرة من عشوائية الاعتصام ومجانية الهتافات المتجاوزة والمطالب الشاردة والاندفاعات غير المحسوبة، وأخيرا العدوانية اللفظية والمتعصبة فى مظاهرات جمعة الفُرقة. ولنسأل أنفسنا بصدق: هل يمكن أن تكون هذه سمات بشرٍ تواقين للنهوض علما وفنا وزراعة وصناعة؟
لقد دخلنا ببلدنا فى معضلة حقيقية، لكنها ليست مُستعصية على الحل لو قررنا بإخلاص أن ننبذ كل هذه «الصياعة» المُقنَّعة ونتعاهد على الشروع فى إقامة بلد ناهض، ديمقراطى، يحترم حق المواطنة لأى من مواطنيه، ويحتكم إلى القانون، ويدرأ عن مستقبله أية شبهات فى تسلط حكم أو فصيل أو وجهة نظر أُحادية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدخول فى حالة مصارحة شريفة، لتصحيح الادعاءات، ثم تجاوزها والانتقال بسرعة إلى كل ما هو نبيل ومشترك بين جميع أطياف الجماعة الوطنية، ومن ثم أرانى ضد مفهوم تكوين جبهة للقوى «الليبرالية» كما أرانى ضد مفهوم تكوين جبهة للقوى «الإسلامية»، فكلاهما تكريس لمبارزات لا تحتملها هذه اللحظة الحرجة.
إننى أدعو، وبرغم كل ما ترسب فى النفوس من مرارات، إلى تكوين «جبهة قوى ديمقراطية» يدخل فيها كل من يقر باحترام الاختلاف فى إطار الإتلاف لأجل أهداف النهوض، فى دولة مدنية حديثة تقوم على مبادئ تداول السلطة واحترام كامل حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وعدم انفراد فصيل أو فريق أو أيديولوجيا بصبغ الأمة بصبغة قناعات خاصة أيا كان لونها، وفى هذه الحالة من المُكاشفة والمؤالفة لا أظن أى مخلص شريف يمكن أن يكون ضد أى اتفاقات وقائية للمستقبل تتحاشى التغول والتسلط ومصادرة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان لأى من أبناء هذه الأمة.
إن تضييع الجهد والوقت لا يعنى إلا انخراطنا فى جوقة الصياعة المُقنَّعة والاشتغال بصناعة أساطير آكلى الجبس، حيث لا تكون النتيجة وقفا على انسداد وتيبس قنوات تواصل لحظتنا الوطنية التاريخية، بل تكلس الأدمغة وتكسرها عندما يضرب بعضها بعضا فى مناطحات الضياع! وليحفظ الله أمتنا والعقول.
لقد اجتمع أعيان القرية وخورى كنيستها لاختيار الأفراد الذين سيقومون بدور الشخصيات فى هذه التمثيلية، فلم يجدوا مشقة إلا فى تحديد من يقوم بدور يهوذا، ووقع اختيارهم على سروجى القرية «بنايوتى آكل الجبس»، لكنه رفض هذا الدور عندما استدعوه لأخذ موافقته وظل يكرر بهلع «خائن للمسيح؟! أنا؟ كلا.. كلا»، وانتهى التفاوض بفرض هذا الدور عليه، وسرعان ما صار موصوما فى القرية باسم «يهوذا»!
بنايوتى هذا كان شخصا بسيطا فطريا تماما، ضخم الجثة وخشن الهيئة وجلفا على نحو ما، لكنه فى قرارته كان طفلا كبيرا نقى السريرة خاليا من كل مكر، وعاشقا متيما بحب أرملة سيئة السمعة لم تكن تبادله الحب وتتلاعب به، بينما هو مثابر على حبها واعتبارها قضية حياته، وفيما كان سادرا فى هذا الحب الأخرق، لم يكتشف إلا متأخرا كيف أنه كان يتحول فى أذهان أهل القرية إلى «يهوذا» فعلى، حتى إن شعره الأحمر اعتبروه مطابقا لهيئة شيطان تحوطه هالة من نار!
كانوا يشيطنونه، وكلما اكتشف شيطنتهم له، يزداد قسوة وخشونة وغلظة فى التعامل معهم، بل إنه تقمص دور يهوذا بلا وعى، وصار يعتبر أن أعدى أعدائه هم الذين وقع عليهم الاختيار ليقوموا بدور المخلصين الأخيار فى التمثيلية، لأنهم قبولهم لعب هذه الأدوار تعارض مع دور الخائن المفروض عليه، إنما كانوا يسهمون فى تحقيره ويرسخون يهوذيته، فصاروا فى عرفه شياطين، وصار خيرهم شرا عنده!
ما حدث لبنايوتى آكل الجبس يكاد يكون موحيا ببعض ما يحدث لجماعتنا الوطنية فى الفوضى الأخيرة، حيث لم يعد هناك تبيُّن للحق أو الباطل بتجرد فى ضوء المصلحة العامة للأمة، بل صار حكم كل فريق على غيره نابعا من موقع التربص أو التربص المضاد، ومن ثم غامت المعايير وصار من ليس معى فهو ضدى، ومن كان ضدى فهو شيطان، وفى هوجة هذه الشيطنة راح كثيرون يخالفون حتى ضمائرهم فى الأحكام الموضوعية على الآخرين، وصار الدمغ والتلطيخ سهلا ومجانيا، واستشرى الافتئات بسطحية أو بانتهازية «اللى تغلب به العب به»، لتشتعل حرب باردة يمكن أن تنفخ فيها أى ريح لتتأجج، لا لتحرق الفرقاء فى حومة هذه الهوجة وحدهم، ولكن لتحرق وطنا يجفف التلهِّى عروقه حتى توشك أن تنقلب قشا ينتظر شرارة الحريق!
إن لحظة تجرُّد واحدة فى النظر إلى ما جرى فى الفترة الأخيرة ببصيرة لا يزيغها التحزب أو التعصب أو الهوى والميل، تكشف عن وباء «التعميم فى التجريم» الذى انزلق إليه معظم فرقاء الساحة السياسية المصرية الراهنة، فالليبراليون ودعاة الدولة المدنية صاروا فى عيون خصومهم دعاة دولة بلا دين ولا أخلاق بل تطور الأمر إلى دمغهم بأنهم دعاة إباحية وفجور علنى. وفى مقابل هذا الافتئات على الليبراليين نرى افتئاتا بديلا من بعض الليبراليين يعمم أن «كل» الإخوان استئصاليون ومخادعون وطلاب سُلطة دينية. أما ادعاء أن «كل» السلفيين مشاريع إرهابية ودُمى تحركها مليارات أو ملايين السعودية، فهو تعميم مضلل لا لجموع الناس بل حتى لمن يرون فى هذا التوجه مخاطر كامنة، لأنه ينحرف بهم عن التقييم الصحيح للظاهرة وآليات التعامل معها. ولا يمكن أن نغفل فى هذا السياق جنوح النقد للمؤسسة العسكرية واستفزاز الهتافات اللامسئولة ضد رموزها وأدوارها المُتخيَّلة أو الافتراضية عند البعض. كما لا نغفل عن تلطيخ بعض منتسبى هذه المؤسسة للحركات الشبابية والمقاومة كـ«6 أبريل» و«كفاية» واثنين من المرشحين للرئاسة لم يتم تحديدهما!
هوجة تجريم وتأثيم وتلطيخ وشيطنة وتعميم اندفع فى ساحة وغاها كثيرون من كل أركان الجماعة الوطنية، والنتيجة ليست فقط شق صف قوى الثورة وتوهين تماسكها، بل التحشيد الغوغائى الذى لا يخدم قيمة حقيقية ويفشى حالة التسيب والاستباحة الأمنية، وهو أمر غاية فى الخطورة وغير أخلاقى بأية معايير دينية أو دنيوية سوية، لأنه فى النهاية إما أن يحرق وطنا تكاثر فيه الهشيم، أو يفوِّت على هذا الوطن فرصة نهضة صارت ضرورة إنقاذ لا خيار ترف.
لقد قرأت رواية «المسيح يُصلب من جديد» فى أولى سنوات الجامعة، لكننى عندما عدت إليها مؤخرا اكتشفت فيها أبعادا كانت غائبة عن رؤيتى الأولى البعيدة، وكما أن عملية الإبداع الأدبى يحدث أن تتجاوز حدود رؤية الأديب، كذلك القارئ يمكن أن يقرأ فى العمل الأدبى أبعادا لم تخطر على باله من القراءة الأولى، فمن وصْف كازانتزاكس لتاريخ بنايوتى الجارى على الألسنة فى موضوع رهاناته وأكله لتماثيل الجبس، نتبين أن بنايوتى يُفترَض أن يكون قد التهم أطنانا من الجبس تكفى لسد أمعاء قبيلة أفيال كاملة، فهى مبالغة هدفها فضح أكذوبة الأسطورة وكشف تهافت صانعيها.
كما اكتشفت فى القراءة الجديدة للرواية أن الكاتب أراد ولو بشكل لا شعورى أن يُعرِّى مسخرة هذه القرية الضائعة التى يملأ سكانها فراغ وقتهم وخسة إرادتهم بالتلهى والتسلى الوحشى ببعضهم البعض حتى لا يتجشموا عناء تغيير البؤس الذى يعيشون فيه وتبديل المهانة التى تحيط بهم فى ظل والٍ غريب الأطوار ينهبهم ويزدريهم ويتسلط عليهم، وأعيان خانعون لمشيئة هذا الوالى بينما هم يتسلطون على مواطنيهم فى الوقت نفسه. فهى حالة «صياعة» شاملة لقرية تدور فى حلقة مفرغة من الخفة الدميمة والعبث التافه.
إننى أحس أن هذه «الهوجة» التى نعيشها، هى ابنة منحرفة لحالة «صياعة» كبرى لجماعة بشرية لا تدرك أو لا تريد أن تدرك حجم التحديات التى أورثها إياها نظام ساقط نخر سوسه معظم مقومات الدولة والتهم جراده مدخرات قواها على مدى عشرات السنين، وتركها فى حضيض لا سبيل إلى تجاوزه إلا بعمل جاد جدا، وغير قابل أبدا للتأجيل أو التشتيت فى مقارعات سقيمة تشعل حربا باردة بدوافع عبثية، وراجعوا معى جُل ما اشتجر فى الميدان فى الفترة الأخيرة من عشوائية الاعتصام ومجانية الهتافات المتجاوزة والمطالب الشاردة والاندفاعات غير المحسوبة، وأخيرا العدوانية اللفظية والمتعصبة فى مظاهرات جمعة الفُرقة. ولنسأل أنفسنا بصدق: هل يمكن أن تكون هذه سمات بشرٍ تواقين للنهوض علما وفنا وزراعة وصناعة؟
لقد دخلنا ببلدنا فى معضلة حقيقية، لكنها ليست مُستعصية على الحل لو قررنا بإخلاص أن ننبذ كل هذه «الصياعة» المُقنَّعة ونتعاهد على الشروع فى إقامة بلد ناهض، ديمقراطى، يحترم حق المواطنة لأى من مواطنيه، ويحتكم إلى القانون، ويدرأ عن مستقبله أية شبهات فى تسلط حكم أو فصيل أو وجهة نظر أُحادية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدخول فى حالة مصارحة شريفة، لتصحيح الادعاءات، ثم تجاوزها والانتقال بسرعة إلى كل ما هو نبيل ومشترك بين جميع أطياف الجماعة الوطنية، ومن ثم أرانى ضد مفهوم تكوين جبهة للقوى «الليبرالية» كما أرانى ضد مفهوم تكوين جبهة للقوى «الإسلامية»، فكلاهما تكريس لمبارزات لا تحتملها هذه اللحظة الحرجة.
إننى أدعو، وبرغم كل ما ترسب فى النفوس من مرارات، إلى تكوين «جبهة قوى ديمقراطية» يدخل فيها كل من يقر باحترام الاختلاف فى إطار الإتلاف لأجل أهداف النهوض، فى دولة مدنية حديثة تقوم على مبادئ تداول السلطة واحترام كامل حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وعدم انفراد فصيل أو فريق أو أيديولوجيا بصبغ الأمة بصبغة قناعات خاصة أيا كان لونها، وفى هذه الحالة من المُكاشفة والمؤالفة لا أظن أى مخلص شريف يمكن أن يكون ضد أى اتفاقات وقائية للمستقبل تتحاشى التغول والتسلط ومصادرة حقوق المواطنة وحقوق الإنسان لأى من أبناء هذه الأمة.
إن تضييع الجهد والوقت لا يعنى إلا انخراطنا فى جوقة الصياعة المُقنَّعة والاشتغال بصناعة أساطير آكلى الجبس، حيث لا تكون النتيجة وقفا على انسداد وتيبس قنوات تواصل لحظتنا الوطنية التاريخية، بل تكلس الأدمغة وتكسرها عندما يضرب بعضها بعضا فى مناطحات الضياع! وليحفظ الله أمتنا والعقول.
انشطار والانفجار
أضف تعليقك تعليقات : 18
آخر تحديث: الخميس 28 يوليو 2011 - 8:47 ص بتوقيت القاهرة
عام 1934 قام العالم الإيطالى إنريكو فيرمى بتصويب سيل من النيوترونات على عينة من اليورانيوم فحصل على نتائج أثارت دهشته، لكنه لم يفهم كنهها فى حينه. وكان لابد أن تنقضى عدة سنوات من عمل مجموعات بحثية فى بلدان مختلفة لاكتشاف الجنى الذى أطلقه فيرمى من قمقمه، والذى سُمِّى فيما بعد «الانشطار النووى»، وما يتبعه من «تفاعل متسلسل» يمثل القاعدة التى تقوم عليها القنابل الذرية كما المفاعلات النووية. فبقصف ذرات اليورانيوم بسيل من النيوترونات تنشطر نواة كل ذرة إلى أنوية أصغر تكون غنية بالنيوترونات، ومن ثم غير مستقرة، فتطلق الزائد من نيوتروناتها لتستقر، وتضرب النيوترونات الناتجة ذرات يورانيوم أخرى، فيقع انشطار جديد، وهكذا تمضى سلسلة الانشطار مطلقة قدرا هائلا من الطاقة فى صورة حرارة جحيمية وإشعاع قاتل لم يكف الإنسان عن محاولة ترويضهما، وإن ظل الجنى بين الحين والحين يؤكد أن لا أمان له.
يقول أهل الذرة إن التفاعل المتسلسل لابد له من كتلة حرجة من الوقود النووى كاليورانيوم، تضمن توليد نيوترونات كافية تعوِّض ما يُفلت خارج هذه الكتلة وتسبب انشطارات جديدة ليتواصل التفاعل المتسلسل. ولقد بدا لى أن هناك تفاعلا متسلسلا مماثلا يقع فى مصر مؤخرا، ويُنتج طاقة تدمير هائلة حلَّت بمكان طاقة كانت ولاتزال وينبغى أن توجه نحو البناء والصعود، وهى مدمرة لأن قذائفها الطائشة عديمة المسئولية ومتدنية، بعد كل الحكمة الحضارية التى تجلت بها الكتلة الوطنية فى ثورة يناير، فكأن شعبا حل بمكان شعب الثورة، وشركاء تم مسخهم إلى فرقاء، فتكاثرت قذائف الطيش الذى أوحل فيه مسئولون وفصائل وأفراد لم نرهم على هذا النحو أبدا ولا حسبنا فيهم هذه الخفة المؤذية.
يمكن أن نتفهم بواعث المعتصمين فى الميدان احتجاجا على تباطؤ يوحى بالتواطؤ، وغضبا من إهمال لمن لا ينبغى إهمالهم من ذوى الفضل الأول فى هذه الثورة من شهداء ومصابين وذوى شهداء ومصابين. بل يمكن أن نتفهم الإحساس العميق لدى كثيرين من معتصمى الميدان وجلهم من الفقراء بأن ثمة تلاعبا بثورة شاركوا فيها بأرواحهم وكانوا يأملون منها الكثير وبأسرع ما يمكن، لكنها خذلت أشواقهم ولم يحصلوا منها ولو على مجرد الأمل.
ويمكن أن نتفهم حتى الاندفاع فى رفع سقف المطالب وتجاوز الهتافات، لكن من الصعب قبول يافطة مكتوبة بخط ركيك ومثبتة فوق مدخل «المُجمَّع» تقول: «مفتوح بأمر الثورة»، والشىء نفسه فى التهديد بإغلاق محطة المترو، فذلك لا ينم عن أية حكمة «ثورية»، لأنها ببساطة ضد منطق الثوار الذين ينبغى أن يكون أول أولوياتهم اكتساب تعاطف جموع الناس العاديين الذين يشكلون حصن أمان الثورة وجيش دفاعها الجرار فى اللحظات الفاصلة.
أما الانقياد لدعوى الذهاب للتظاهر أمام وزارة الدفاع فكانت حماقة أُرجِّح أن أخساء مأجورين اندسوا بين المتظاهرين، واستدرجوا طيش المراهقة الثورية لدى الكثيرين منهم، فكان فخ «موقعة العباسية»، والكشف عن مشهد مَعيب تصورنا أن زمانه قد ولَّى، لكنه أوضح أن حثالات الأمس لاتزال موجودة وتقدم خدماتها الرديئة متى ما سُمح لها أو غُضَّ الطرف عنها. وكانت برغم ادعائها مناصرة المجلس العسكرى مُهينة لمقامه الذى أشهد أن به رجالا رائعين وطنيا وعقليا وتوجها أصيلا نحو الدولة المدنية الحديثة والديموقراطية، وكانت هذه الموقعة أبعد ما تكون عن رُقى تكوينهم، وكان قطع الطريق على المظاهرة بحاجز الأسلاك الشائكة وصفَّى الشرطة العسكرية والمدرعات عملا صحيحا وواجبا وكافيا أيضا.
لقد تكرر فى موقعة العباسية ذلك المنظر البغيض للشراشيح والبلطجية المأجورين وفرق الكاراتيه المُنظمة التى كانت تنكل بشريفات وشرفاء الوقفات الاحتجاجية فى عز سطوة النظام الساقط على سلالم نقابة الصحفيين وأمام دار القضاء العالى وفى ميادين وسط البلد ومحافظات مصر من منتسبى حركة «كفاية» و«كلنا خالد سعيد» و«6 أبريل» وعمال المحلة. شاهدنا: امرأة ضخمة متوحشة كانت تُلقى بكتل الدبش من فوق سطح أحد بيوت العباسية مغلقة النوافذ مما ينم عن كونها قطعا ليست من سكان البيت.
وأفراد فرق الكاراتيه الغابرة وطريقتهم الشرسة فى القبض على الشباب بعصر الرقاب تحت آباطهم، والسنج نمطية الأشكال التى رأينها من قبل فى أيدى مروِّعى الناس فى أيام انتخابات التزوير. هؤلاء لم يكونوا قطعا من أبناء العباسية فى هذه المنطقة التى يسكنها أصلاء من الطبقة الوسطى المحترمة. وإن كان كل ما سبق لا يُعفى المتظاهرين من المسئولية فيما حدث، على اعتبار أنهم وفروا لهؤلاء الذريعة والفرصة.
صحيح أن البيان المنسوب للمجلس العسكرى مُتضمنا اتهام حركة 6 أبريل بالعمالة وتلقى أموال وتدريب على السلاح من الخارج كان بمثابة تحريض على المتظاهرين، وكان أدنى كثيرا من قيمة وقامة ما يمثله المجلس العسكرى فى انبثاقه عن مؤسسة وطنية عريقة تتميز أعمالها بالدقة ولا تعرف لعبة فُرقة الأمة. وصحيح أن تصريحات بعض أفراد من المجلس العسكرى كانت متهافتة فيما يخص وصم حركة «كفاية» بأنها ليست مصرية وتكرار وتوسيع اتهام حركة 6 أبريل بالعمالة وتلطيخ سمعة اثنين من المرشحين للرئاسة بالتهمة نفسها.
لكن ذلك لا ينبغى أن يُعمى بصيرة أى ثائر لديه حد أدنى من الوعى السياسى بضرورة الحفاظ على تماسك وهيبة المؤسسة العسكرية والمجلس العسكرى، ليس تملقا كما يفعل البعض، ولكن من واقع الإحساس بالمسئولية عن سلامة ووحدة النواة الصلبة الممسكة بكيان «الدولة»، وإلا كنا مستهترين نُلقى ببلادنا فى مصير الصومال وعراق المجرم «بريمر».
أما آخر نماذج قذائف الطيش المُستهجَن فتجلت فى حديث لواء يتم تقديمه بلقب «خبير استراتيجى» خلال اتصال مع المحترمة والجادة والمخلصة، الإعلامية الشابة الموهوبة دينا عبدالرحمن، واتهم فيها كاتبة وإنسانة فائقة الاحترام لا تكتب إلا من موقع صدق هى الأستاذة نجلاء بدير بأنها «مُخرِّبة»! وزعم أن هناك من يعلم مصر الديموقراطية كطفل فى «كى جى»! وكان واجبا مهنيا وأخلاقيا أن ترد دينا عبدالرحمن غيبة كاتبتنا النبيلة وهو ماقامت به بكل تهذيب ووضوح وشجاعة، لتواجَه برد فعل سلبى أستغرب كثيرا صدوره من الدكتور أحمد بهجت الذى أعتبره أحد أفضل رجال الأعمال المصريين حسا وطنيا وطموحا صادقا لنهضة الأمة، وله فضل لا يمكن إنكاره فى إرهاصات ما قبل ثورة يناير عبر جدية قناة دريم خاصة فى برنامجَى منى الشاذلى ودينا عبدالرحمن على امتداد سنوات صعبة، وكلنا يعرف الثمن الباهظ الذى دفعه من صحته مقابل هذا القدر من المقاومة!
فى المفاعلات النووية التى يجرى فى قلبها الانشطار سالكا مسار التفاعل المتسلسل، يحدث أحيانا أن يُفلت هذا التفاعل من محاور التحكُم، وتطيش قذائف نيوتروناته فى فيض متسارع يثير جنون الانشطار ويولد طاقة تهدد بانصهار قلب المفاعل وانهياره وحدوث كارثة نووية. وفى مثل هذه الحالة يكون الحل الحاسم هو إيقاف المفاعل عن العمل لحين إعادة الانضباط، منعا لوقوع الكارثة. والشىء نفسه يمكن تطبيقه على حالتنا التى تكاثرت فيها مؤخرا قذائف الانشطار الطائشة، ليس ممن ذكرت فقط، ولكن أيضا ممن انتهزوا الفرصة ونفخوا صدورهم وأشهروا أسلحة التهديد والتكفير و«تطهير التحرير» نيابة عن الدولة!
انهيار كيان «الدولة» لا ينبغى أن يقبله مواطن لديه حد أدنى من المسئولية الأخلاقية والروحية والوطنية عن بلده الذى يربأ به أن يتحول إلى دولة فاشلة.
وعندى فى هذا اقتراح محدد:
بعد أيام قليلة سيبدأ شهر رمضان الكريم، وعلى كل القوى المخلصة وبعيدة النظر، والعقلاء الشرفاء من مختلف الفصائل والأطياف، أن يتبنوا الدعوة إلى إيقاف كل التظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، واعتبار هذا الشهر هدنة نرى فيها ما يتوجب إنجازه من مطالب الثورة، خاصة إعمال العدالة فيمن أجرموا فى حق الأمة من عصابة النظام الساقط، وتطهير ما تبقى من فلوله وذيوله فى مواقع التاثير والتدمير دون جور ولا مزايدة، وتفعيل أقصى ما يمكن تفعيله من آليات العدل الاجتماعى لصالح الفقراء.
أما المهمة العاجلة الأكبر لهذه الوزارة فى هذه الهدأة فهى استعادة الأمن الذى تنشط فى ظلاله مبادرات الأمة.
إن الانشطارات الطائشة تخلخل تماسك قوى الثورة وتصدِّع بنيان الدولة، وتتيح لأشباح الماضى فرصة جهنمية لإلهاء مصر عن إنجاز نموذج لدولة حديثة ناهضة عادلة ديموقراطية، وكلنا نلاحظ أن ظلال هذه الأشباح صارت تجترئ على الظهور وتطالب بعودة الماضى الساقط بوقاحة، فى المحاكم، وفى الميادين، وبما يوحى بتلقيهم دعما خفيا من كل من يكرهون لنا الخير من أقارب وأباعد!
رمضان كريم. والله أكرم.
يقول أهل الذرة إن التفاعل المتسلسل لابد له من كتلة حرجة من الوقود النووى كاليورانيوم، تضمن توليد نيوترونات كافية تعوِّض ما يُفلت خارج هذه الكتلة وتسبب انشطارات جديدة ليتواصل التفاعل المتسلسل. ولقد بدا لى أن هناك تفاعلا متسلسلا مماثلا يقع فى مصر مؤخرا، ويُنتج طاقة تدمير هائلة حلَّت بمكان طاقة كانت ولاتزال وينبغى أن توجه نحو البناء والصعود، وهى مدمرة لأن قذائفها الطائشة عديمة المسئولية ومتدنية، بعد كل الحكمة الحضارية التى تجلت بها الكتلة الوطنية فى ثورة يناير، فكأن شعبا حل بمكان شعب الثورة، وشركاء تم مسخهم إلى فرقاء، فتكاثرت قذائف الطيش الذى أوحل فيه مسئولون وفصائل وأفراد لم نرهم على هذا النحو أبدا ولا حسبنا فيهم هذه الخفة المؤذية.
يمكن أن نتفهم بواعث المعتصمين فى الميدان احتجاجا على تباطؤ يوحى بالتواطؤ، وغضبا من إهمال لمن لا ينبغى إهمالهم من ذوى الفضل الأول فى هذه الثورة من شهداء ومصابين وذوى شهداء ومصابين. بل يمكن أن نتفهم الإحساس العميق لدى كثيرين من معتصمى الميدان وجلهم من الفقراء بأن ثمة تلاعبا بثورة شاركوا فيها بأرواحهم وكانوا يأملون منها الكثير وبأسرع ما يمكن، لكنها خذلت أشواقهم ولم يحصلوا منها ولو على مجرد الأمل.
ويمكن أن نتفهم حتى الاندفاع فى رفع سقف المطالب وتجاوز الهتافات، لكن من الصعب قبول يافطة مكتوبة بخط ركيك ومثبتة فوق مدخل «المُجمَّع» تقول: «مفتوح بأمر الثورة»، والشىء نفسه فى التهديد بإغلاق محطة المترو، فذلك لا ينم عن أية حكمة «ثورية»، لأنها ببساطة ضد منطق الثوار الذين ينبغى أن يكون أول أولوياتهم اكتساب تعاطف جموع الناس العاديين الذين يشكلون حصن أمان الثورة وجيش دفاعها الجرار فى اللحظات الفاصلة.
أما الانقياد لدعوى الذهاب للتظاهر أمام وزارة الدفاع فكانت حماقة أُرجِّح أن أخساء مأجورين اندسوا بين المتظاهرين، واستدرجوا طيش المراهقة الثورية لدى الكثيرين منهم، فكان فخ «موقعة العباسية»، والكشف عن مشهد مَعيب تصورنا أن زمانه قد ولَّى، لكنه أوضح أن حثالات الأمس لاتزال موجودة وتقدم خدماتها الرديئة متى ما سُمح لها أو غُضَّ الطرف عنها. وكانت برغم ادعائها مناصرة المجلس العسكرى مُهينة لمقامه الذى أشهد أن به رجالا رائعين وطنيا وعقليا وتوجها أصيلا نحو الدولة المدنية الحديثة والديموقراطية، وكانت هذه الموقعة أبعد ما تكون عن رُقى تكوينهم، وكان قطع الطريق على المظاهرة بحاجز الأسلاك الشائكة وصفَّى الشرطة العسكرية والمدرعات عملا صحيحا وواجبا وكافيا أيضا.
لقد تكرر فى موقعة العباسية ذلك المنظر البغيض للشراشيح والبلطجية المأجورين وفرق الكاراتيه المُنظمة التى كانت تنكل بشريفات وشرفاء الوقفات الاحتجاجية فى عز سطوة النظام الساقط على سلالم نقابة الصحفيين وأمام دار القضاء العالى وفى ميادين وسط البلد ومحافظات مصر من منتسبى حركة «كفاية» و«كلنا خالد سعيد» و«6 أبريل» وعمال المحلة. شاهدنا: امرأة ضخمة متوحشة كانت تُلقى بكتل الدبش من فوق سطح أحد بيوت العباسية مغلقة النوافذ مما ينم عن كونها قطعا ليست من سكان البيت.
وأفراد فرق الكاراتيه الغابرة وطريقتهم الشرسة فى القبض على الشباب بعصر الرقاب تحت آباطهم، والسنج نمطية الأشكال التى رأينها من قبل فى أيدى مروِّعى الناس فى أيام انتخابات التزوير. هؤلاء لم يكونوا قطعا من أبناء العباسية فى هذه المنطقة التى يسكنها أصلاء من الطبقة الوسطى المحترمة. وإن كان كل ما سبق لا يُعفى المتظاهرين من المسئولية فيما حدث، على اعتبار أنهم وفروا لهؤلاء الذريعة والفرصة.
صحيح أن البيان المنسوب للمجلس العسكرى مُتضمنا اتهام حركة 6 أبريل بالعمالة وتلقى أموال وتدريب على السلاح من الخارج كان بمثابة تحريض على المتظاهرين، وكان أدنى كثيرا من قيمة وقامة ما يمثله المجلس العسكرى فى انبثاقه عن مؤسسة وطنية عريقة تتميز أعمالها بالدقة ولا تعرف لعبة فُرقة الأمة. وصحيح أن تصريحات بعض أفراد من المجلس العسكرى كانت متهافتة فيما يخص وصم حركة «كفاية» بأنها ليست مصرية وتكرار وتوسيع اتهام حركة 6 أبريل بالعمالة وتلطيخ سمعة اثنين من المرشحين للرئاسة بالتهمة نفسها.
لكن ذلك لا ينبغى أن يُعمى بصيرة أى ثائر لديه حد أدنى من الوعى السياسى بضرورة الحفاظ على تماسك وهيبة المؤسسة العسكرية والمجلس العسكرى، ليس تملقا كما يفعل البعض، ولكن من واقع الإحساس بالمسئولية عن سلامة ووحدة النواة الصلبة الممسكة بكيان «الدولة»، وإلا كنا مستهترين نُلقى ببلادنا فى مصير الصومال وعراق المجرم «بريمر».
أما آخر نماذج قذائف الطيش المُستهجَن فتجلت فى حديث لواء يتم تقديمه بلقب «خبير استراتيجى» خلال اتصال مع المحترمة والجادة والمخلصة، الإعلامية الشابة الموهوبة دينا عبدالرحمن، واتهم فيها كاتبة وإنسانة فائقة الاحترام لا تكتب إلا من موقع صدق هى الأستاذة نجلاء بدير بأنها «مُخرِّبة»! وزعم أن هناك من يعلم مصر الديموقراطية كطفل فى «كى جى»! وكان واجبا مهنيا وأخلاقيا أن ترد دينا عبدالرحمن غيبة كاتبتنا النبيلة وهو ماقامت به بكل تهذيب ووضوح وشجاعة، لتواجَه برد فعل سلبى أستغرب كثيرا صدوره من الدكتور أحمد بهجت الذى أعتبره أحد أفضل رجال الأعمال المصريين حسا وطنيا وطموحا صادقا لنهضة الأمة، وله فضل لا يمكن إنكاره فى إرهاصات ما قبل ثورة يناير عبر جدية قناة دريم خاصة فى برنامجَى منى الشاذلى ودينا عبدالرحمن على امتداد سنوات صعبة، وكلنا يعرف الثمن الباهظ الذى دفعه من صحته مقابل هذا القدر من المقاومة!
فى المفاعلات النووية التى يجرى فى قلبها الانشطار سالكا مسار التفاعل المتسلسل، يحدث أحيانا أن يُفلت هذا التفاعل من محاور التحكُم، وتطيش قذائف نيوتروناته فى فيض متسارع يثير جنون الانشطار ويولد طاقة تهدد بانصهار قلب المفاعل وانهياره وحدوث كارثة نووية. وفى مثل هذه الحالة يكون الحل الحاسم هو إيقاف المفاعل عن العمل لحين إعادة الانضباط، منعا لوقوع الكارثة. والشىء نفسه يمكن تطبيقه على حالتنا التى تكاثرت فيها مؤخرا قذائف الانشطار الطائشة، ليس ممن ذكرت فقط، ولكن أيضا ممن انتهزوا الفرصة ونفخوا صدورهم وأشهروا أسلحة التهديد والتكفير و«تطهير التحرير» نيابة عن الدولة!
انهيار كيان «الدولة» لا ينبغى أن يقبله مواطن لديه حد أدنى من المسئولية الأخلاقية والروحية والوطنية عن بلده الذى يربأ به أن يتحول إلى دولة فاشلة.
وعندى فى هذا اقتراح محدد:
بعد أيام قليلة سيبدأ شهر رمضان الكريم، وعلى كل القوى المخلصة وبعيدة النظر، والعقلاء الشرفاء من مختلف الفصائل والأطياف، أن يتبنوا الدعوة إلى إيقاف كل التظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية، واعتبار هذا الشهر هدنة نرى فيها ما يتوجب إنجازه من مطالب الثورة، خاصة إعمال العدالة فيمن أجرموا فى حق الأمة من عصابة النظام الساقط، وتطهير ما تبقى من فلوله وذيوله فى مواقع التاثير والتدمير دون جور ولا مزايدة، وتفعيل أقصى ما يمكن تفعيله من آليات العدل الاجتماعى لصالح الفقراء.
أما المهمة العاجلة الأكبر لهذه الوزارة فى هذه الهدأة فهى استعادة الأمن الذى تنشط فى ظلاله مبادرات الأمة.
إن الانشطارات الطائشة تخلخل تماسك قوى الثورة وتصدِّع بنيان الدولة، وتتيح لأشباح الماضى فرصة جهنمية لإلهاء مصر عن إنجاز نموذج لدولة حديثة ناهضة عادلة ديموقراطية، وكلنا نلاحظ أن ظلال هذه الأشباح صارت تجترئ على الظهور وتطالب بعودة الماضى الساقط بوقاحة، فى المحاكم، وفى الميادين، وبما يوحى بتلقيهم دعما خفيا من كل من يكرهون لنا الخير من أقارب وأباعد!
رمضان كريم. والله أكرم.
الحُكم وشياطين أُخرى
أضف تعليقك تعليقات : 21
آخر تحديث: الخميس 21 يوليو 2011 - 8:16 ص بتوقيت القاهرة
بطل رواية «الحب وشياطين أخرى» لجابرييل جارثيا ماركيز هو واحد من العشاق الذين يفتننى فى الحياة أو الأدب أو التاريخ تماديهم فى الحب والتضحية من أجله بكل ما عداه، حتى لو وصل بهم الأمر إلى الموت حبا. ولدى ماركيز نماذج صارخة من هذا النوع من المحبين، الذين نكتشف عبر السرد البديع لقصص حبهم، أن كل ما ضحوا به من أجل الحب لم يكن خسرانا لهم، بل خلاصا من أشياء يفوز بخسارتها الإنسان.
وقد كان مجنون الحب فى هذه الرواية راهبا، تحدى كل المحظورات المحيطة بموقعه شديد المحافظة، ليشق طريقه نحو حبه دون هوادة، ونكتشف على وقع خطواته الدامية فى درب آلام الحب هذا، أنه لم يخسر سوى أغلال دنيوية اصطنعها شياطين البشر للتسلط على البشر باسم السماء، وأنه بينما كان يكابد صاعدا نحو حبه المستحيل، أخذ إيمانه يصفو وقلبه الذى أرهفه الحب يصير أقرب إلى الله واسع الغفران كريم الرحمات، وأبعد عن كل شياطين الإنس والجن عديمى الرحمة كارهى الحب.
فى هذه الرواية العذبة الوهاجة، عاد ماركيز ببطله العاشق إلى مرحلة مبكرة من عمره، لنكتشف عبر القراءة أن الحب حقا موهبة، شأنه شأن الفن وكل صنوف الإبداع الإنسانى، وهذه رؤية تتفق تماما مع رؤية الطبيب والمحلل النفسى الأمريكى العالمى الألمانى المولد «إريك فروم» الذى أعتبره أحد معلمىَّ الكبار فى تخصصى وفى فهم فوضى طاحونة الحياة المعاصرة، ففى كتابه الصغير الكبير «فن الحب» الذى هو على عكس ما يوحى به عنوانه الدارج، يتحدث عن الحب الشامل الذى يتكامل به كيان الإنسان، على قواعد راسخة وشفافة من الاحترام والحدب والمسئولية، فيتخلص من أعمق مخاوف أعماقه، «خوف الانفصال»، ذلك الذى يهيمن على لاشعور كل إنسان فور أن يولد ويغادر أحنى وأرفق وأأمن واحات الدنيا: رحم الأم.
خوف الانفصال هذا يعتبره إريك فروم أشد مخاوف الإنسان إثارة لقلقه وإشعاره بافتقاد الطمأنينة، ومن ثم يشكِّل أقوى دوافعه للاتصال الإنسانى الذى يتبلور ويتكثف فى النزوع للحب والسعى للاكتمال به، بل الإشعاع والتنوُّر من خلاله، فيصير الإنسان مؤهلا لحب كل البشر وكل الوجود، فيُمسى ويصبح أعمق شكرا لخالق هذا الوجود.
بطل ماركيز فى هذه الرواية كشف عما أسميه «التكوين الأساس» لموهوبى الحب، فما من موهبة فى أى مجال بشرى إلا بها خصائص تكوينية تتجلى وتتألق مع التجربة والزمن، وتصقلها منحة الحب، وإرادة صون وتنمية ورعاية هذا الحب. وكما كل موهبة تسفر عن بوادرها فى طلعة العمر، كان بطل هذه الرواية، فعندما أرسله أهله وهو فتى صغير ليتعلم فى مدرسة داخلية بعيدة عن بلدته، وصل إلى هذه المدرسة بعد عدة أيام من السفر الشاق على بغلة تحمله مع صندوق حاجياته وهو يرتدى ثوبا لأبيه تم تعديله على مقاسه. وكان ذلك الصندوق أثقل من الفتى بمرتين، لأن أمه وضعت فيه كل ما سيحتاجه ليعيش بكرامة حتى انتهاء مرحلة الدراسة كمستجد. ساعده البواب على وضع الصندوق الثقيل فى منتصف الفناء، وتركه هناك تحت المطر قائلا له: «احمله إلى الطابق الثالث. هناك سيدلونك على مكانك فى المهجع».
وفى لحظة كان جميع من فى المدرسة يطلون من الشرفات على الفناء منتظرين ما الذى سيفعله الفتى الصغير بالصندوق. وحين أدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على أحد، أخرج من الصندوق كومة من الأشياء التى يمكنه حملها بين ذراعيه بتمكُّن، وصعد بها إلى الطابق الثالث على الدرجات الحجرية المرتفعة. أشار له المشرف إلى المكان المخصص له فى صفَّى أَسرَّة مهجع التلاميذ المستجدين فوضع أشياءه فوق السرير، ثم عاد إلى الفناء ليصعد عدة مرات أخرى يحمل فيها ما تبقى من متاعه، وأخيرا أمسك بالصندوق الفارغ من مقبضه وصعد به وهو يجره على الدرج.
«الأساتذة والتلاميذ الذين مابرحوا يراقبونه من الشرفات، كانوا يكفون عن النظر إليه عندما يمر بهم عند كل طابق.
ولكن المدير الذى وقف ينتظره عند نهاية الدرج فى الطابق الثالث حين صعد بالصندوق، بدأ يصفق له. وحذا الآخرون حذوه بحماس. عندئذ علم أنه قد اجتاز بنجاح أول طقوس البدء فى المدرسة، ويتلخص هذا الطقس فى الصعود بالصندوق حتى المهجع دون السؤال عن أى شىء ودون مساعدة من أحد. لقد اعتُبِرت سرعة بديهته، وحُسن فطرته، وصلابة طبعه نموذجا يُحتذى لكل المستجدين!».
كان ذلك فى حدود الرواية، ولكن فى رحاب واقع كواقعنا، فقد يكون ذلك نموذجا يُحتذى فى الحكم أيضا، خاصة لدى رئيس الوزراء فى الفترة الحرجة التى ضاع منها الكثير وما عاد مقبولا أن يضيع أكثر، بسبب رخاوة الإرادة والارتباك وشتات الرؤية، ولا أقول انعدامها، فالمسألة ليست فى حاجة لعبقرية التنظير السياسى، بل فى حاجة ماسة لسرعة البديهة، وحسن الفطرة، وصلابة الإرادة التى هى حسنة فى الحب والحكم أيضا، أما الاكتفاء بالنوايا الحسنة ومحاولة إرضاء كل الناس بوعود غير موثوقة، وأحلام يقظة وردية فيما العين بصيرة واليد قصيرة والوفاض خالٍ، فهى جميعا مما يقود إلى الجحيم ومحافل الشياطين، شياطين الفوضى والبلطجة، واليأس الذى يجنح بالناس إلى الشطط فى القول والفعل.
فى كتابه «فن الحب» يؤكد إريك فروم على عنصر الاحترام للمحبوب كعنصر فارق بين فوران الرغبة العابرة وبين نشدان التوحد فى المصير، والاحترام فى هذه الحالة ليس بروتوكولا ولا إتيكيتا ولا إطراء بمعسول الكلام العابر، بل هو احترام لكينونة مستحقة للرعاية والحدب والإخلاص والامتنان لمجرد وجودها فى الوجود، أقرب ما يكون لحبنا أمهاتنا، ولأوطاننا التى سيجد كل صادق عادل فيها كل تجليات الأمومة مهما بدت قاسية رغما عنها، ورغما عنا، بفعل مكائد شياطين الإنس من الناهبين والطغاة الذين نجحنا جميعا فى توقيف معظمهم وكف أغلب شرورهم وإلقائهم فى جب الزراية بما فعلت أيديهم، بإرادة ثورة 25 يناير التى سيوصَم بالعار كل من يخذل اكتمالها، سواء من ركنى الحكم أو فصائل الأمة.
لقد تصرف الفتى الذى سيغدو بطلا للحب عندما يكبر فى رواية ماركيز بشكل بديع، ينم عن بداهة نبيهة وكرامة إرادة، وفيما يمكن أن نعبِّر عنه فى شأننا السياسى الراهن بـ«الرؤية السياسية» و«تحديد الأولويات» و«إرادة الفعل» و«تقسيم العمل». وهى منظومة كانت واضحة فى نداء الثورة، فلماذا غامت ونامت فى فعل الحكم، خاصة الوزارة التى قدمت القليل جدا وكان يمكن أن تقدم الكثير خلال شهور البطء والتردد المنصرمة، والتى تعكس أول ما تعكس وهن إرادة الحب لهذه الأمة من كل أطراف الحكم، كما فصائل المتنابذين بالألقاب والادعاءات والمطامع الذاتية، صُناع «الهوجة» السياسية والطائفية التى أوشكت على الحلول بمكان الثورة أو تخريبها.
لم يعد ممكنا احتمال كل هذه الرخاوة فى حب الوطن وكل هذه المجانية فى اختلاق معارك لا لزوم لها وكل هذا الزيغ عن رؤية الأولويات التى لو كنا عملنا على إنجاز عنصر واحد فقط منها وهو «الأمن» لكان لنا فى الصعود شأن ملموس وموقف أفضل. ليتحمل المجلس العسكرى مسئوليته التاريخية كشريك فى صنع هذه الثورة النادرة لا كمجرد حارس لها أو عامل مساعد على إنجاحها كما يزعم بعض المتمترسين خلف مقولات أيديولوجية عفا عنها الزمن، وليكف صناع الفتنة عن النفخ فى نيران التربص والزهو بأغلبية مزعومة، فهذه أمة كبيرة لا أغلبية كبيرة لأى فصيل سياسى أو غير سياسى فيها.
وليتحمل الإعلام مسئوليته الأخلاقية بمراجعة «هرتلاته» السطحية التى لا تعى الفارق الخطير بين حق نقد «الحكم» وبين إضعاف تماسك مكونات «الدولة».
إن الخُسران فى الحب الفردى يُشقى المحبين ويسعد كل شياطين الكراهة لأشواق البشر الطامحين لتجاوز «خوف الانفصال» إلى طمأنينة «الاكتمال بالحب». أما الفشل فى حب الوطن والأمة، فهو يجلب التعاسة للملايين فتبكى عليهم صفحات التاريخ.
ألا نشتهى أن يصفق لنا التاريخ عند الصعود؟
وقد كان مجنون الحب فى هذه الرواية راهبا، تحدى كل المحظورات المحيطة بموقعه شديد المحافظة، ليشق طريقه نحو حبه دون هوادة، ونكتشف على وقع خطواته الدامية فى درب آلام الحب هذا، أنه لم يخسر سوى أغلال دنيوية اصطنعها شياطين البشر للتسلط على البشر باسم السماء، وأنه بينما كان يكابد صاعدا نحو حبه المستحيل، أخذ إيمانه يصفو وقلبه الذى أرهفه الحب يصير أقرب إلى الله واسع الغفران كريم الرحمات، وأبعد عن كل شياطين الإنس والجن عديمى الرحمة كارهى الحب.
فى هذه الرواية العذبة الوهاجة، عاد ماركيز ببطله العاشق إلى مرحلة مبكرة من عمره، لنكتشف عبر القراءة أن الحب حقا موهبة، شأنه شأن الفن وكل صنوف الإبداع الإنسانى، وهذه رؤية تتفق تماما مع رؤية الطبيب والمحلل النفسى الأمريكى العالمى الألمانى المولد «إريك فروم» الذى أعتبره أحد معلمىَّ الكبار فى تخصصى وفى فهم فوضى طاحونة الحياة المعاصرة، ففى كتابه الصغير الكبير «فن الحب» الذى هو على عكس ما يوحى به عنوانه الدارج، يتحدث عن الحب الشامل الذى يتكامل به كيان الإنسان، على قواعد راسخة وشفافة من الاحترام والحدب والمسئولية، فيتخلص من أعمق مخاوف أعماقه، «خوف الانفصال»، ذلك الذى يهيمن على لاشعور كل إنسان فور أن يولد ويغادر أحنى وأرفق وأأمن واحات الدنيا: رحم الأم.
خوف الانفصال هذا يعتبره إريك فروم أشد مخاوف الإنسان إثارة لقلقه وإشعاره بافتقاد الطمأنينة، ومن ثم يشكِّل أقوى دوافعه للاتصال الإنسانى الذى يتبلور ويتكثف فى النزوع للحب والسعى للاكتمال به، بل الإشعاع والتنوُّر من خلاله، فيصير الإنسان مؤهلا لحب كل البشر وكل الوجود، فيُمسى ويصبح أعمق شكرا لخالق هذا الوجود.
بطل ماركيز فى هذه الرواية كشف عما أسميه «التكوين الأساس» لموهوبى الحب، فما من موهبة فى أى مجال بشرى إلا بها خصائص تكوينية تتجلى وتتألق مع التجربة والزمن، وتصقلها منحة الحب، وإرادة صون وتنمية ورعاية هذا الحب. وكما كل موهبة تسفر عن بوادرها فى طلعة العمر، كان بطل هذه الرواية، فعندما أرسله أهله وهو فتى صغير ليتعلم فى مدرسة داخلية بعيدة عن بلدته، وصل إلى هذه المدرسة بعد عدة أيام من السفر الشاق على بغلة تحمله مع صندوق حاجياته وهو يرتدى ثوبا لأبيه تم تعديله على مقاسه. وكان ذلك الصندوق أثقل من الفتى بمرتين، لأن أمه وضعت فيه كل ما سيحتاجه ليعيش بكرامة حتى انتهاء مرحلة الدراسة كمستجد. ساعده البواب على وضع الصندوق الثقيل فى منتصف الفناء، وتركه هناك تحت المطر قائلا له: «احمله إلى الطابق الثالث. هناك سيدلونك على مكانك فى المهجع».
وفى لحظة كان جميع من فى المدرسة يطلون من الشرفات على الفناء منتظرين ما الذى سيفعله الفتى الصغير بالصندوق. وحين أدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على أحد، أخرج من الصندوق كومة من الأشياء التى يمكنه حملها بين ذراعيه بتمكُّن، وصعد بها إلى الطابق الثالث على الدرجات الحجرية المرتفعة. أشار له المشرف إلى المكان المخصص له فى صفَّى أَسرَّة مهجع التلاميذ المستجدين فوضع أشياءه فوق السرير، ثم عاد إلى الفناء ليصعد عدة مرات أخرى يحمل فيها ما تبقى من متاعه، وأخيرا أمسك بالصندوق الفارغ من مقبضه وصعد به وهو يجره على الدرج.
«الأساتذة والتلاميذ الذين مابرحوا يراقبونه من الشرفات، كانوا يكفون عن النظر إليه عندما يمر بهم عند كل طابق.
ولكن المدير الذى وقف ينتظره عند نهاية الدرج فى الطابق الثالث حين صعد بالصندوق، بدأ يصفق له. وحذا الآخرون حذوه بحماس. عندئذ علم أنه قد اجتاز بنجاح أول طقوس البدء فى المدرسة، ويتلخص هذا الطقس فى الصعود بالصندوق حتى المهجع دون السؤال عن أى شىء ودون مساعدة من أحد. لقد اعتُبِرت سرعة بديهته، وحُسن فطرته، وصلابة طبعه نموذجا يُحتذى لكل المستجدين!».
كان ذلك فى حدود الرواية، ولكن فى رحاب واقع كواقعنا، فقد يكون ذلك نموذجا يُحتذى فى الحكم أيضا، خاصة لدى رئيس الوزراء فى الفترة الحرجة التى ضاع منها الكثير وما عاد مقبولا أن يضيع أكثر، بسبب رخاوة الإرادة والارتباك وشتات الرؤية، ولا أقول انعدامها، فالمسألة ليست فى حاجة لعبقرية التنظير السياسى، بل فى حاجة ماسة لسرعة البديهة، وحسن الفطرة، وصلابة الإرادة التى هى حسنة فى الحب والحكم أيضا، أما الاكتفاء بالنوايا الحسنة ومحاولة إرضاء كل الناس بوعود غير موثوقة، وأحلام يقظة وردية فيما العين بصيرة واليد قصيرة والوفاض خالٍ، فهى جميعا مما يقود إلى الجحيم ومحافل الشياطين، شياطين الفوضى والبلطجة، واليأس الذى يجنح بالناس إلى الشطط فى القول والفعل.
فى كتابه «فن الحب» يؤكد إريك فروم على عنصر الاحترام للمحبوب كعنصر فارق بين فوران الرغبة العابرة وبين نشدان التوحد فى المصير، والاحترام فى هذه الحالة ليس بروتوكولا ولا إتيكيتا ولا إطراء بمعسول الكلام العابر، بل هو احترام لكينونة مستحقة للرعاية والحدب والإخلاص والامتنان لمجرد وجودها فى الوجود، أقرب ما يكون لحبنا أمهاتنا، ولأوطاننا التى سيجد كل صادق عادل فيها كل تجليات الأمومة مهما بدت قاسية رغما عنها، ورغما عنا، بفعل مكائد شياطين الإنس من الناهبين والطغاة الذين نجحنا جميعا فى توقيف معظمهم وكف أغلب شرورهم وإلقائهم فى جب الزراية بما فعلت أيديهم، بإرادة ثورة 25 يناير التى سيوصَم بالعار كل من يخذل اكتمالها، سواء من ركنى الحكم أو فصائل الأمة.
لقد تصرف الفتى الذى سيغدو بطلا للحب عندما يكبر فى رواية ماركيز بشكل بديع، ينم عن بداهة نبيهة وكرامة إرادة، وفيما يمكن أن نعبِّر عنه فى شأننا السياسى الراهن بـ«الرؤية السياسية» و«تحديد الأولويات» و«إرادة الفعل» و«تقسيم العمل». وهى منظومة كانت واضحة فى نداء الثورة، فلماذا غامت ونامت فى فعل الحكم، خاصة الوزارة التى قدمت القليل جدا وكان يمكن أن تقدم الكثير خلال شهور البطء والتردد المنصرمة، والتى تعكس أول ما تعكس وهن إرادة الحب لهذه الأمة من كل أطراف الحكم، كما فصائل المتنابذين بالألقاب والادعاءات والمطامع الذاتية، صُناع «الهوجة» السياسية والطائفية التى أوشكت على الحلول بمكان الثورة أو تخريبها.
لم يعد ممكنا احتمال كل هذه الرخاوة فى حب الوطن وكل هذه المجانية فى اختلاق معارك لا لزوم لها وكل هذا الزيغ عن رؤية الأولويات التى لو كنا عملنا على إنجاز عنصر واحد فقط منها وهو «الأمن» لكان لنا فى الصعود شأن ملموس وموقف أفضل. ليتحمل المجلس العسكرى مسئوليته التاريخية كشريك فى صنع هذه الثورة النادرة لا كمجرد حارس لها أو عامل مساعد على إنجاحها كما يزعم بعض المتمترسين خلف مقولات أيديولوجية عفا عنها الزمن، وليكف صناع الفتنة عن النفخ فى نيران التربص والزهو بأغلبية مزعومة، فهذه أمة كبيرة لا أغلبية كبيرة لأى فصيل سياسى أو غير سياسى فيها.
وليتحمل الإعلام مسئوليته الأخلاقية بمراجعة «هرتلاته» السطحية التى لا تعى الفارق الخطير بين حق نقد «الحكم» وبين إضعاف تماسك مكونات «الدولة».
إن الخُسران فى الحب الفردى يُشقى المحبين ويسعد كل شياطين الكراهة لأشواق البشر الطامحين لتجاوز «خوف الانفصال» إلى طمأنينة «الاكتمال بالحب». أما الفشل فى حب الوطن والأمة، فهو يجلب التعاسة للملايين فتبكى عليهم صفحات التاريخ.
ألا نشتهى أن يصفق لنا التاريخ عند الصعود؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق